بوش الأبن في دور أستاذ المدرسة...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مهما فعل الرئيس بوش الأبن لأعادة الثقة بأدارته، فأنه لن يحقق أي تقدم يذكر في هذا المجال، خصوصا لدى العرب. ما قاله الرئيس الأميركي حديثا عن ضرورة قيام دولة فلسطينية وعن عقد أجتماع دولي يضم الفلسطينيين والأسرائيليين وأطراف أخرى في المنطقة في الخريف المقبل، يظل مجرد تمنيات ما دامت لم ترافق الكلام أفعال على الأرض. أفعال تبدأ بتخفيف وطأة الأحتلال الأسرائيلي تمهيدا لأزاحته.
لن يصدق عربي بوش الأبن في ما يقوله ما دام يرفض الأعتراف بأن المأزق الذي تعاني منه الولايات المتحدة في العراق، على سبيل المثال وليس الحصر، عائد ألى سلسلة الأخطاء التي أرتكبتها الأدارة منذ ما قبل أجتياح البلد في مارس - آذار 2003. في غياب القدرة على الأقرار بالأخطاء، لا فائدة من الدخول في نقاش هدفه معرفة ما أذا كان في أستطاعة الرئيس الأميركي ممارسة سياسة بناءة في المنطقة كلها. مثل هذا النقاش يصير عقيماً. ولذلك، كلّ ما يمكن قوله بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الأميركي الخميس الماضي بهدف تقويم الوضع العراقي أن أدارته عاجزة عن مواجهة الأزمات التي ساهمت في خلقها في المنطقة. عليها في المرحلة المقبلة الأكتفاء بأدارة هذه الأزمات لا أكثر في غياب القدرة على أيجاد أي نوع من الحلول، أقله في المدى المنظور.
تبدأ الأزمات أو الحروب الداخلية بالعراق وأفغانستان وتنتهي في غزة مروراً في طبيعة الحال بلبنان ومشاكله المستعصية الناجمة عن الأزمة العميقة التي يعيشها نظام سوري غير قادر لا على الحرب ولا على السلام. أنه نظام يعتقد أن الهرب من أزمته ومن كونه رجل المنطقة المريض يكون بخلق أزمات ومشاكل كبيرة في لبنان. وكان أفضل تعبير عن هذا المنطق الأخرق الأحداث التي توالت في لبنان منذ الأصرار السوري على التمديد للرئيس أميل لحود وما أستتبع ذلك من جرائم... آخرها أشعال حرب مخيم نهر البارد.
من كلام أميركي كبير لا معنى له أطلقته واشنطن في العام 2003 عن شرق أوسط جديد، أنطلاقاً من تغيير النظام في العراق، ألى أعطاء الرئيس الأميركي في العام 2007 علامات للحكومة العراقية وكأن المسألة مسألة أمتحانات فصلية تخضع لها الحكومة أمام لجنة فاحصة أميركية. أحرزت حكومة نوري المالكي ثماني علامات من أصل ثماني عشرة علامة، على حد تعبير بوش في مؤتمره الصحافي. هذا ليس كافياً لتغطية الفشل الأميركي في العراق. حكومة المالكي ليست سوى تعبير عن هذا الفشل، بل أنها أمتداد طبيعي له. ماذا يُتوقع من حكومة تمتلك الأحزاب الكبيرة المشاركة فيها، وهي بكلّ أسف أحزاب مذهبية، ميليشيات خاصة بها؟ ماذا يُتوقع من حكومة غير قادرة على أقناع العراقيين بأنها حكومة لكل العراق وليس لهذه الطائفة أو تلك أو لهذه المنطقة أو تلك أو لهذه القومية أو تلك؟
في حال كان الرئيس بوش الأبن راغباً فعلاً في معالجة الوضع العراقي، يترتب عليه العودة ألى الجذور، أي ألى الأعتراف بالأخطأ التي أرتكبتها ادارتهوالتي أدت ألى تخليها عن مشروعها الكبير الغامض الذي يتحدث عن نشر الديموقراطية أنطلاقاً من العراق، وتحولها في أيامنا هذه ألى لجنة فاحصة تعطي علامات لحكومة المالكي. فجأة أكتشفت الأدارة الأميركية ما هي حكومة المالكي وأنها لا يمكن أن تكون شيئاً آخر سوى الوجه الآخر لحكومة سلفه أبراهيم الجعفري التي لم تكن أكثر من غطاء للميليشيات التابعة للحزاب المذهبية التي توجَه من طهران.
هناك فشل أميركي في كل مكان وعلى كل المستويات. فشل في أفغانستان حيث لم تستطع الحكومة المركزية بسط نفوذها على البلد وحيث عادت "طالبان" ألى الواجهة. وما قد يكون أخطر من ذلك، التأثير الذي يمكن أن يخلفه الفشل الأميركي في أفغانستان على الوضع الباكستاني مع زيادة المخاطر التي تواجه نظام الرئيس برويز مشرف الذي قرر متأخراً خوض معركة مع المتطرفين. أنها معركة تضع مستقبل نظامه على المحك...
وهناك فشل أميركي آخر في فلسطين. كان على من يتباكى حالياً على السلطة الوطنية الفلسطينية، أن يعمل شيئاً من أجل دعمها منذ فترة طويلة. تصرفت أدارة بوش الأبن منذ العام 2001 بطريقة تؤكد أنها غير معنية بحل في فلسطين. نسي جورج بوش أن هناك قضية فلسطينية وتغاضى عن الأرهاب الذي مارسه أرييل شارون. ولم يحد عن موقف المتفرج الذي أعتمده حتى عندما خلف محمود عبّاس في بداية العام 2005 ياسر عرفات. لم يحصل "ابو مازن"، الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني على أساس برنامج واضح يرفض أي شكل من أشكال العنف، سوى على الكلام الجميل. لم تقدم الأدارة الأميركية شيئاً لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ولم تفرض على أسرائيل الأقدام على أي خطوة في أتجاه أنهاء الأحتلال وتسهيل أعادة الحياة ألى عملية السلام. تحدث بوش الأبن مراراً عن ضرورة قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" وذلك منذ العام 2002، لكن كل ما قدمه للرئيس الفلسطيني كان مجرد وعود... ألى أن تبين أن حكومة أسرائيل لا تعارض وصول "حماس" ألى السلطة، في غزة وغير غزة لاحقاً، ما دام ذلك يعفيها من المفاوضات ومن الدخول في عملية سياسية، وذلك أستناداً ألى أجندتها القائمة على مقولة أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه.
كذلك، هناك فشل أميركي في لبنان حيث لا ترجمة أميركية على الأرض للكلام الكبير عن دعم اللبنانيين الذين يخوضون معركة الأستقلال في مواجهة المحور الأيراني - السوري وأدواته. لقد صمد لبنان وصمد اللبنانيون بفضل تضحياتهم وجرأتهم. صمدوا على الرغم من التهديدات التي يتعرضون لها يومياً. صمدوا على الرغم من التفجيرات والأغتيالات وعلى الرغم من العصابات التي أرسلتها لهم دمشق من نوع عصابة "فتح - الأسلام" التي قتلت ألى الآن ما يزيد على تسعين عسكرياً لبنانياً. صمد اللبنانيون في وجه المحاولات التي بذلها "حزب الله" للأستيلاء على بيروت ومناطق أخرى على طريقة أستيلاء "حماس" على غزة. وقبل ذلك، صمد اللبنانيون في مواجهة العدوان الأسرائيلي الصيف الماضي. لم يحصل ذلك بفضل الدعم الأميركي الذي أقتصر حتى الآن على بيانات التأييد والدعم المعنوي للحكومة الشرعية برئاسة فؤاد السنيورة. هذا الدعم ليس كافياً نظراً ألى أن لا وجود لسياسة أميركية فاعلة وعملية تضع النظام السوري ومن خلفه النظام الأيراني عند حدّهما. المؤسف أن المحور الأيراني - السوري ما زال يتصرّف في لبنان من دون حسيب أو رقيب بهدف خلق ما يكفي من الفوضى لأفشال المحكمة الدولية. وهذا ما نبه أليه المحقق الدولي سيرج براميرتز في تقريره الأخير عن سير التحقيق في أغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه أذ قال صراحة أن تدهور الوضع الأمني في لبنان يعيق سير التحقيق مستقبلاً...
يظل الفشل الأميركي في لبنان نسبياً. وذلك عائد ألى الصمود اللبناني ورفض اللبنانين الشرفاء العودة ألى الوصاية أياً يكن شكلها. الفشل الأميركي الأكبر في العراق. أنه فشل على مد العين والنظر. ولعل أخطر ما يترتب على هذا الفشل الحرب الأهلية ذات الطابع المذهبي الدائرة في العراق من جهة ووجود حلف غير معلن بين مجموعات شيعية مسلحة في العراق وخارجه وأخرى سنية تابعة ل"القاعدة" بطريقة أو بأخرى من جهة أخرى. هذا الحلف غير المعلن لا يظهر على أرض العراق فقط. هل صدفة أن يسكت "حزب الله" الشيعي عن عصابة شاكر العبسي السنية المتطرفة التابعة للأجهزة السورية والتي تقاتل الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد ومحيطه؟ هل صدفة أن "القاعدة" ارتكبت جريمة في محافظة مأرب اليمنية ذهب ضحيتها ثمانية سياح أسبان في وقت يقاتل الجيش اليمني في محافظة صعدة جماعة الحوثي الأرهابية التي تحظى بدعم أيراني غير مباشر؟
بدل أن يتلهى الرئيس بوش الأبن بلعب دور أستاذ المدرسة بأعطاء علامات لحكومة المالكي، يفترض بأدارته أن تعي أن الوقت ليس وقت مثل هذا النوع من الممارسات التي تصلح للظروف العادية وللبلدان الطبيعية. الوضع في العراق ليس عادياً ولا طبيعياً. ثمة حاجة ألى مقاربة مختلفة تأخذ في الأعتبار أن الحلف الأيراني - السوري الذي بات يتحكم بكل المجموعات الأرهابية في المنطقة أكانت سنية أو شيعية يسجل نقاطاً في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط. من أفغانستان، ألى العراق، ألى لبنان، ألى فلسطين. الأدارة الأميركية ليست عاجزة عن فهم هذا الواقع، خصوصاً أنها تعرف جيداً أن جديد العراق يتمثل في أن الميليشيات الشيعية تقف وراء ثلثي العمليات التي يتعرض لها الجنود الأميركيون فيما تقف "القاعدة" وراء الثلث الأخير من هذه العمليات. أكثر من ذلك، تدرك أن السنة العرب والشيعة العرب الذين يشكلون الأكثرية في العراق ضحايا الأرهاب بكل أشكاله بما في ذلك السياسة الأميركية التي أوصلت ألى الوضع الراهن، أي ألى الحرب الأهلية الدائرة في غير منطقة عراقية. الموضوع ليس موضوع الأنسحاب أو عدم الأنسحاب الأميركي من العراق. الموضوع يتلخص بكيفية التعاطي مع الوضع الجديد في المنطقة كلها وهو وضع ناجم عن الفشل الأميركي في التعاطي مع كل أزمة من الأزمات المطروحة. ما لم تقدم الولايات المتحدة على مراجعة في العمق لأستراتيجيتها الشرق الأوسطية، تبدو القوة العظمى الوحيدة في العالم وكأنها تدور على نفسها. يصدر عنها كلام كبير فيما الفعل على الأرض لغيرها...