نظام (جلعود) في كُردستان والنهاية المرتقبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
اختصاراً للتعريف وتوفيراً للاطالة ارتأينا لغةً، تسمية النظام القائم في كُردستان بنظام جلعود، في اشارة الى المناصفة السلطوية بين جماعتي السيدين جلال طالباني ومسعود بارزاني.
في اواخر عام 1991 زار طالباني بلدة شقلاوه الجميلة، والتقى هناك بكوادره. قبل دخول غرفة الاجتماع تأبط طالباني حذائه وأخذه الى حيث كان يجلس!
استغرب الجميع فعلته المنافية للأعراف والآداب الكُردية، لكن طالباني أوضح للحاضرين وسوادهم من المسئولين في الاتحاد الوطني الكُردستاني، انه يخشى ان يسرق الحاضرون حذائه! فلم يبق ما يُسرق. اضاف طالباني في شرحه!
في ذلك العام بدأ المسئولون في الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي الكُردستاني بتهريب المكائن والصناعات واعمدة واسلاك الكهرباء والسيارات والمعادن الى ايران. المال دخل في جيوب ثلة (مسئولة!) وزوِّد الشعب الكُردي بالشعارات القومية والأغاني والأناشيد الحماسية عبر الاذاعات والصحف الحزبية.
الأمر نفسه حدث مع السيد مسعود بارزاني. فقد حدثني صديق يعمل في مؤسسة تابعة لسلطة اقليم كُردستان (وهو شخص مهذب ولطيف)، ان بارزاني شرع في جولة تفقدية في مدن كُردستان وبلداتها، واول ما صادفه في المحطة الاولى، وجود عدة مسئولين لديهم ثروات هائلة ومجهولة المصدر!
بارزاني همّ باستجواب المسئولين لكنه عدل عن رأيه، وقرر ان يكمل جولته ليرى المناطق الأخرى ثم يبدأ بالحساب والمسائلة مع الجميع. فما دامت المحطة الأولى تحتضن بعض اللصوص، فالتاليات يمتلئن حتماً بالمزيد من المقنّعين المختلسين. لكن بارزاني في نهاية رحلته عاد الى مقر اقامته يائساً بعد ان رأى ان السواد الأعظم من مسئولي حزبه قد قطعوا حدود المطلق في نهب ثروات الوطن، مما أعجزه عن اقامة محكمة ومحاسبة. وتُرك الأمر للاقدار ان تتصرف كما تشاء!
هذا هو مختصر الحال في كُردستان اذاً. الفساد بلغ اوجاً يستحيل معه امر الاصلاح حلماً، إلا بتغير جذري كامل للنظام القائم. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فالسلطة محبوبة وليس من ذي إمرئ سلطوي في عالمنا تركه للكرسي نزولاً عند مصلحة الناس.
ولكن لنسال علّنا نبلغ شرفة نستشرف فيها ضفة آمنة، تعيد البصيرة للأفئدة والفقه للقلوب. إذا كانت السلطة الفعلية في كُردستان بيد قيادات الأحزاب، وذلك واقع، فمن اين يستمد مسئولون ادنى شأناً بالقوة التي تؤهلهم سرقة المال العام والتجني على الخلائق؟
يعيد بنا الذهن الى الحكمة العربية حول صاحب البيت اذا كان بالطبل نقاراً.
ليس هناك سلطة تفوق سلطة قيادة الحزبين الحاكمين في كُردستان. فالقضاء (العمود الفقري للمجتمع) والبرلمان والسلطة التنفيذية لسن سوى محتويات فارغة بمثابة ألاعيب الأطفال.
لو قام أحد الجلعودين بمعاقبة مجموعة قريبة من دائرتيهما، واستردا المال المسروق منها لتّعظ الآخرون من دون مسائلة او رقيب. لكن الأمر مرة أخرى مرتبط بتلك الدوافع وراء سرقة المال العام لدى المسئولين. فالشهوة تدفع بهؤلاء اجتياز الحدود والقوانين، راكبين صهوة السلطة نحو بلوغ رعشة الاشباع من متع الدنيا. والشهوة نفسها تدفع بالقادة الى العض على كرسي الحكم بالنواجذ والأقدام. ومن هنا فان جاذبية العلاقة بين هذين المكونين، وهما واحد في البنية، هي التحول الى مساند لبعضهما البعض. فالقادة الذين استباحوا الحياة، والنفس، والمال، والوطن من اجل التنافس على الزعامة والكثرة، جعلوا من اولوياتهم البلوغ الى القمة، وليس الارتقاء بالشان العام الى حيث يتطلب الخير ان يكون. والحال ان المخلصين الاذلاء عند اقدام هؤلاء القادة، هم المتملقين الذين يحملون كروشهم وعروشهم وكنوزهم.
وفي ذلك المبتغى اطلقت القيادة ايادي هؤلاء المسئولين (الحاشية) لتعبث بكل مفردات الحياة دون حساب للعواقب والكوارث التي ستقلب في يوم من الايام الكروش على العروش. فالوطن والقومية والمصلحة العامة وحقوق الافراد ومستقبل الاجيال، اصبحن نغمات ميتة في غياهب آذان المسئولين الذين تاهوا وسرحوا في هوامات الشهوة وفتنها الاستدراجية، ذات العواقب الوخيمة.
والحال، كلما ارخت القيادة حبل المسئولين زادت من سوادها وحاشيتها وسفرتها. وكلما ضرب المسئولون، بيد من حديد، الشعب والأفراد المساكين من العامة، سلبت شرعية القوة، التي قطعت حدود القانون والاجتماع خلسة، لتستقر على السلطة (الاستحكام) والكنوز كمرعى مفتوح. والجاذبية هذه انتجت مفرداتها للمرحلة، كلّما زاد درهم في جعبة المسئول زاد دينار في جعبة القيادة.
ولولا ذلك فما الحكمة البليغة على المستوى القومي والوطني تعذيب السجناء بادوات الكهرباء؟! ولماذا قلع الأظافر؟! ولماذا الاعتداء الجنسي؟!
هذه توكيدات مشهودة الوقائع وملموسة الوثائق في سجون نظام جلعود بكُردستان.
فمنظمة (human rights watch) و التقرير السنوي للوزارة الخارجية الامريكية، ليسا خارجَين من الشوفينيين الحاقدين على كُردستان حتى يلفقوا الأخبار والتهم.
ولكن الداء الذي اصاب صدام والمستبدين الآخرين من حكام منطقتنا ومن بينهم حكام العراق الجديد، اصاب النظام القائم في كُردستان، على مذهب اضرب واترك الامر للاقدار، وفق ذهنية متخلفة تعتاش على اليومي في ادارة الحياة والسياسة.
فصدام لم يكن يأبه بتقارير دول العالم ومنظماتها في انتهاكات حقوق الانسان في العراق، حتى استقرت به غطرسته في تلك الحفرة التي يرقد فيها الآن وحيداً غريبا.
ولو وفّر صدام القليل من الرأفة بعباد الله لما اوصلت به حاشيته الى ما انتهى اليه. لكن الغرور يزين للحاكم جريمته وتكبره وتعجرفه. ولولا ذلك لما تجبر جنرالات تركيا لما يقارب قرناً كاملاً في حرب وحشية فارغة ضد كُردستان، والتي انزلت بمراتب الاقتصاد التركي منزلة الأصفار المتكررة في روليت الاقتصاد والانماء. ولولا ذلك لما تحولت حكومة العراق الجديدة، التي ناضلت عقوداً طويلة ضد دكتاتورية مجرمة، الى مصادر للجريمة بحق الخلائق والبلاد. ولولا الغرور والغطرسة لاستفاق حكامنا من شهوتهم وجمودهم واستثمروا اوطاننا وثرواتنا جناناً نسعد فيها نحن واياهم، دون خسارة وعدوان.
لكن الطمع والغرور والشهوة تفتكان بالناس فتك النار بالهشيم. وحواشي الأنظمة والحكام مصادر للشرور والفتن. وهكذا فان شيمة اهل البيت كلهم الرقص!
كل المؤشرات تتجه الى قيامة فوضى اجتماعية في كردستان في أمد غير معلوم، وقد تحدث تدخلات اقليمية مسمومة. وبدل ان يقوم نظام جلعود ببناء مجتمع قوي وسعيد، يمضي في تلك الدروب التي تعطيهم كما اعطت من سبقهم، نشوة السلطة ثم تنتهي بهم في مطافات الويل، لن يجدوا من دونها موئلا.