كتَّاب إيلاف

جلالة الرئيس وأكراده المفترضون

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عقب أدائه اليمين الدستورية، بمناسبة تنصيب جلالته، رئيساً باقياً، لولايةٍ رئاسيةٍ ثانية لسبع سنواتٍ أخرى قادمة، ألقى الرئيس السوري في السابع عشر من الشهر الجاري، أمام "مجلس الشعب المعين من الفوق، سلفاً"، خطاباً "توصيفياً للحالة السورية التي قد لا يفهمها الكثيرون/ كذا"، سُمي رسمياً، في أجهزة الإعلام البعثي، ب"بخطاب العهد الرئاسي"، و"خطاب الوحدة الوطنية"، و"خطاب العهد والوعد الصادقين"، و"الخطاب الشامل والكامل"، و"الخطاب الشافي والوافي".
الرئيس، الذي حصد في ولايته الجديدة، من أصوات "أسرته السورية" ما نسبته 97,62% (مقابل 97,29% في ولايته الأولى، التي جرى "الإستفتاء النشاز" عليها في 10 يوليو/تموز 2000... سبحان الذي لايغير الأحوال)، تكلّم(كما دائماً) كثيراً، عن سوريا "الواحدة"، بقيادة حزبه الواحد، "القائد للمجتمع والدولة"(حسب المادة الثامنة من الدستور السوري المفصّل على مقاس حكامه الباقين للأبد).
الرئيس، تكلم كعادته، مستغرقاً في الربيع الذي لا يأتي، والوعود والعهود التي لا تصدف، عن الداخل وعن الخارج وعما بينهما من مطابقاتٍ ومشابهات: تكلّم في "رفض التفريط والإستسلام" وفي "المواطنة والمسؤولية والتحديات الصعبة". تكلم في "الإصلاح والشفافية" و في "إغناء تجربته التطويرية و مشروعه الإصلاحي" وفي "الرواتب والأجور"، و"التدابير الإقتصادية"، و"السوق الإجتماعي"، و"إصلاح التشريعات"، و"الإستثمارات الواعدة"، و"مؤشرات النمو"، و"انخفاض الديون". تكلم عن "تطوير العملية التربوية"، و"تطوير البنية السياسية"، وعن "مصيرية عام 2007"، وعن "الأكراد الأجانب والمكتومين"، و"الإعلام"، و"الإرادة والمبادرة والإبداع"، و"متطلبات الأجيال الشابة"، و"التطوير الإداري"، و"ظاهرة الفساد"، و"التحديث الفضائي"، و"اللغة العربية"، و"دور المرأة". تكلم أيضاً عن "العراق وفلسطين ولبنان"، و"الدول الكبرى التي افتقدت العقلانية"، و"جوائز الترضية التي لن تعطيها سوريا لأحد"، و"نيات إسرائيل"، و"المفاوضات اللاسرّية"، وإلى غير ذلك من كلامٍ كبير.
على صعيد سوريا الداخل، "تكرّم" جلالة الرئيس بفسح بعضٍ من العهد، في خطابه "الكامل"، الموعود، ل"أكراده الأجانب"، المحرومين منذ أربعة عقودٍ ونيف (1962)، من "شرف" الجنسية السورية، وكامل حقوق المواطنة وأخواتها.
قبل أربعة عقودٍ ونيف، وبحكم المرسوم الجمهوري رقم 93 الصادر بتاريخ 23.08.1962 والمعروف ب"قانون الإحصاء الإستثنائي"، تمّ تحريم 10% من مجموع الأكراد (يربو تعداد اللامتجنسين منهم، حالياً إلى 300 ألف كردي من مجموع ما يقارب 3 مليون)، من حق التجنس بالمواطنة السورية. وهؤلاء ال"خارج وطنيون" الذين يُسمون في الدوائر الرسمية ب"الأجانب ومكتومي القيد"، محرومون من كافة الحقوق ال "تحت والفوق ـ مدنية"، وممنوعون حتى من السفر خارج القطر منعاً باتاً، كما تصرح به الوثيقة الحمراء المعروفة باسم "إخراج قيد".
بعد أربعة عقودٍ ونيف من الإنتظار على أبواب دوائر النفوس والسجل المدني، يخرج الرئيس بمناسبة ولايته "الضرورية" الجديدة، على "أكراده"، مبشراً إياهم، بقوله: "بدأنا بالموضوع... سرنا به بشكل بطيء... ولكن كنا نتحرك".
يبدو أن الموضوع، خلافاً لكل التوقعات والتقديرات، هو فعلاً، كبيرٌ ومتشابكٌ جداً، وإلا لما امتد به العمر 45سنة في التمام والكمال؟
ونظراً "للطبيعة االتعقيدية والإلتباسية والتشابكية" للموضوع (حسب توصيف دارسيه الوطنيين الرسميين جداً)، شطر الرئيس "موضوع الإحصاء" هذا، في "وعده"، إلى موضوعين منفصلين (موضوع الإحصاء وموضوع المكتومين)، قائلاً:
"أيضاً هناك التباس بين موضوعين.. موضوع إحصاء 1962 وهم الأشخاص الذين أعطوا الجنسية السورية لجزء من العائلة ولم يعطى للجزء الآخر. وهناك ما يسمى المكتومين.. المكتومون هم أشخاص في سورية من جنسيات مختلفة وليسوا على قيود السجل المدني في سورية أو أي سجل آخر. يعني هو موضوع آخر. كان هناك من يمزج بين موضوع المكتومين وموضوع إحصاء 1962. أيضاً هناك من أتى إلى سورية من جنسيات مختلفة.. ومعظمهم من الأكراد أتوا من تركيا أو من العراق لأسباب معاشية سياسية أمنية وغيرها. هذا الموضوع لاعلاقة لنا به".
مايعنيه جلالة الرئيس في كلامه هذا، هو أن الكردي في سوريا هو كرديان: كردي أجنبي سوري، وكردي مكتوم(ربما فضائي أو مريخي).
البعض الغالب والكبير من هؤلاء ممن سمّتهم مراسيم "جمهورية الرئيس" الثقيلة، ب"الأجانب والمكتومين"، هم مقيمون في سوريا(منتشرون في مناطق عفرين، جبل الأكراد بدمشق، كوباني/عين العرب، سري كانيي/رأس العين، درباسية، عامودا، قامشلو، تربه سبي/ قحطانية، جل آغا/ جوادية، ديريك/ مالكية، عين ديوار...) قبل أن تتشكل الدولة السورية بحدودها وجغرافيتها الراهنة، المعترفة بها دولياً، بأجيال.
هؤلا الأكراد ب"أجانبهم ومكتوميهم"، كانوا نزيلي الإمبراطورية العثمانية، كسائر شعوبها "المكتومة" آنذاك، قبل أن يُخلع آخر سلاطينها محمد السادس عام 1922، وتُقسّم تركتها، وفق معاهدة سايكس بيكو عام 1916(سمي بالإتفاق الأنكلوـ فرنسي ـ الروسي)، بين المتحالفين المنتصرين، لتقوم على أنقاضها، من ثم، دولة تركيا الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
تارئيخئذٍ، كانت بلاد وشعوب وجماعات بأكملها مكتومةً، بالجملة وبالمفرق.
الكتم والمكتومية، كان الطريق الأسهل، مُلكئذٍ، إلى حكم التاريخ والجغرافيا، وإلى حكم ما بينهما من ثقافاتٍ، وإثنياتٍ، وجماعات بشرية.
في زمان السلاطين وجغرافياتهم الكبيرة، كان كل شيء يتحرك من دون سجلات قيدٍ، أو وثائق ممهورة، أو مستنداتٍ، تدل على هويةٍ بعينها، أو وطنٍ بعينه.
الجغرافيا كانت تتحرك، والتاريخ كان يتحرك، والداخلون والخارجون إليهما ومنهما، كانوا يتحركون، وفقاً لأحكامِ ونزواتِ زمانٍ، أراد له السلاطين أن يكون، فكان.
واليوم، وبعد كل هذا التاريخ الثقيل، وجغرافياته الأثقل،يخرج علينا جلالة الرئيس بمناسبة "انتخابه الإفتراضي"، رئيساً جديداً ل"الجمهورية المفترضة"، ب"كلامٍ افتراضي"، عن "المواطنة المفترضة" و"أكراده المفترضين".
في تلك الدول، التي يُنظّر جلالة الرئيس في "عيوبها الكبيرة"، ليل نهار، واصفاً إياها، ب"التي خرجت عن العقلانية"، في تلك الدول، لا يتجرأ أي رئيس، أن يمنع أي مواطن "أجنبي أو مكتوم مفترض" من حق التجنس بجنسية بلاده، في حال توفر الشروط القانونية المطلوبة لذلك. ثم أن القانون لا يسمح لأي مسؤول (كبيراً كان أو صغيراً)، أن يُخرج الآخرين(الأجانب/ المكتومين)، بمراسيم كيفية، من حرم المواطنة، وفقاً للعقل الذي تحرك فيه، وتكلم به جلالة الرئيس عن "لامواطنية" بعض أكراده.
في البلاد "الخارجة عن العقل" تلك، لا توجد مراسيم جمهورية كيفية، نزواتية، تمنع أفراداً أو جماعاتٍ إثنية (بحالها)، من حق المواطنة، كما فعلتها جمهورية جلالة الرئيس، طيلة عقودٍ خلت.
على سبيل المثال لا الحصر، في آخر مقابلةٍ للعربية مع رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير، قال بالحرف الواحد: "ما منحه القانون البريطاني لمسلمي بريطانيا، لا يستطيع أحد انتزاعه... القانون هو فوقي وفوق الكل".
لا أدري، أية دولة "محترمة" في العالم، وبأي قانون "محترم"، تسمح لنفسها، بحجب حقوق المواطنة عن مئات الآلاف من أبنائها، طيلة كل هذه العقود الطويلة، الثقيلة.
آلاف مؤلفة من أكرادك الأجانب والمكتومين، المحجوبين، ياجلالة الرئيس، اصبحوا في غضون خمس أو سبع سنين (أجنبية) في بلاد "الخارجين عن العقل"، الأجنبية، أصحاب جنسيات محترمة، وأصحاب حقوقٍ مدنية، وسياسية، وثقافية، تحترم الذات كإحترامها للآخر.
والحال، كيف للكردي الذي حرّمته "مراسيم جمهوريتك" الإستثنائية، لأجيالٍ خلت، من أبسط حقوق المواطنة (حق التجنس)، أن يثق بهكذا كلام إفتراضي، يصنفه في خانة "المواطن المفترض": "المكتوم" حيناً، و"الأجنبي" حيناً آخر، و "الخارج وطني" أحياناً أخرى؟
كيف للكردي ألاّ يحترم "الجنسيات االأجنبية" التي ساوت حقوقه مع حقوق أصحاب البلاد الأصليين، خلال بضع سنينٍ، في حين انتظر الكردي ذاته، في بلاده، كل هذه العقود والأجيال، ليحصل في النهاية، على هكذا شهادة مفترضة، في "وطن مفترض"؟
في آخر حوارٍ لها مع موقع اللقاء الديمقرطي السوري (أجرى الحوار علي الحاج حسين)، عبرت د. وفاء سلطان عن هذا الشعور "الأجنبي" المحترم، بقولها: "لو عومل االأكراد كما عوملتُ أنا في أمريكا لكانوا أكثر اعتزازاً بسوريتهم من كرديتهم".
الراهن السياسي الكردي أيضاً يثبت هذ الشعور الحقيقة: الأكراد في جهاتهم الخمسة، في العراق وسوريا وتركيا وإيران وفي الشتات القفقاسي، كلهم يريدون أن يكونوا في أوطانهم كما الآخرون يكونون.
هم، يريدون لهويتهم ومواطنتهم وحقوقهم وثقافتهم ولغتهم، أن تتحقق وتكون، مثلما مواطنه الشريك والجار، في ذات الوطن، يتحقق ويكون.
جلالة الرئيس، حاول على امتداد كلّ كلامه الذي خصصّه ل"أكراده المفترضين"، أن يختزل كل حقوق الكرد القومية، والسياسية، والثقافية، واللغوية، والمدنية، في ما سماه ب"موضوع إحصاء 1962".
هذا الكلام المتأخر والبطيء جداً (بإعترافه)، أقل ما يمكن أن يُقال فيه، هو أنه كلامٌ إفتراضيٌّ يُراد به تبخيس وتقزيم الحالة الكردية السورية القائمة، منذ قيام الدولة السورية الموحدة في 17 أيار 1946.
الأكراد السوريون حالة إثنية، قومية، ثقافية، سياسية، قائمة بذاتها، وليست مفترضة، كما قفز فوقه كلام جلالة الرئيس.
عفوك يامولانا الرئيس،
الأكراد في "جمهوريتك"، سوريون، قائمون ومتحققون، لا مفترضون، كما يوحي به تشطيركم للكرد إلى شطرين مفترضين: أكراد أجانب وأكراد مكتومين.
الأكراد السوريون، قضية شعبٍ واقع، (حجمها 3 مليون نسمة أي 12% من مجموع سكان سوريا)، محجوب ومحروم من كافة حقوقه القومية، والثقافية، والسياسية، وليس فقط "موضوع إحصاء 1962"، أو "موضوع شعبٍ مفترض" كما ذهبت إليه في كلامك المفترض.
الأكراد، في "جمهوريتكم المفترضة"، ليسوا مجرد "أجانب ومكتومين" فقط، وإنما هم أكراد سوريون، أصحاب حقوق مشروعة، كأي شعب آخر على هذا الكوكب.
الأكراد، جزء أساسي ومهم، من الموزاييك السوري (يشكلون القومية الثانية في البلاد)، ومع ذلك، هم حتى قَسَمك الأخير، ممنوعون منعاً باتاً، من الترشح والتمثيل في ما يسمى ب"مجلس الشعب" الذي لا شعب فيه، ومحرومون من التمثيل في الحكومة المفصّلة على مقاس المُلك الواحد، ومحظورون من تسلم المناصب العليا والحساسة في الجيش والقضاء وسائر أجهزة الدولة.
في الوقت الذي تؤكد فيه، عبر كلامك "الواعد"، على "عروبة" جمهوريتك"، وعروبة المكان والزمان السوريين، وعروبة أهله ومكوناته، كما تؤكد على أهمية (لا بل فوقية) اللغة العربية وقيادتها للدولة والمجتمع ومؤسساتهما (لاشك، أن الحياة بالعربية، حق طبيعي لكل عربي، وله كامل الحرية في العيش بها، قياماً وقعوداً، في حدود حقوقه المشروعة، كما يشاء)، في هذا الوقت، كيف لك أن تنسى أو تتناسى وتنسّينا معك، يا جلالة الرئيس، أن 3 مليون كردي سوري، محرومون من كامل حقوق القراءة والكتابة والعيش بلغتهم الأم؟
الكردية في "رحاب جمهورية جلالة الرئيس"، ممنوعة كسائر أكرادها الممنوعين: الكتاب، كردياً ممنوع. المواليد، كردياً، ممنوعة من التسمي بأسماء كردية أو شبه كردية. تأريخ المكان وتدوينه، كردياً، ممنوعان. المكان، كردياً، جُرّد من ذاكرته، كتجريد أهله من مواطنته، وذلك من خلال حملات التعريب المنظمة، ومشاريع الفصل العنصري المتواصلة، منذ إنقلاب حزب البعث في 8 آذار 1963 إلى تاريخ ولاية الأسد الثاني، الثانية.
وعليه، فالأكراد السوريون، يا جلالة الرئيس، قضية أرض وشعب، أكلته "جمهوريتك" الخارجة على إرادة جمهورها، بكل مكوناته الإثنية والدينية والطائفية (خلا البعض الضيق من الطائفة/ العائلة المالكة المقدسة).
الأكراد في "جمهوريتك"، هم أكثر من أن يكونوا "موضوعاً"، في سجلات القيد المدني، فحسب.
الأكراد، هم أكثر من أن يحلموا ببطاقةٍ شخصيةٍ، نائمة في دوائر نفوس جمهوريتك.
الأكراد، في سوريا، هم أكبر من أن يكونوا شبه أو بعض سوريين، وإنما هم قبل الجمهورية وبعدها، أكرادٌ سوريون حقيقيون، بلا منيةٍ أو بطاقة حسن "نفوسٍ" أو سلوكٍ من أحد.
الأكراد، يا جلالة الرئيس، هم قضية مكّون سوري حقيقي (وليس افتراضي) كسائر إخوانهم السوريين، المحرومين، المحجوبين، إسمها "هوية، خبز، مواطنة، حقوق، مساواة، وطن للجميع، ديمقراطية، وحرية".

hoshengbroka@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف