حفلات التحليل التهريجية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تحولت أيام السنة بحمد الله إلى مواسم للذكريات، لتذكر المآسي والنكبات والنكسات، وهو أمر جيد إذا كان المقصود من التذكر القراءة المعمقة ورصد انشطارات تلك النكبات وآثارها المدمرة على المجتمعات بكافة تمفصلات أوضاعهم، سياسية واقتصادية وفكرية، إلا أن الملاحظ والراصد للصهيل الإعلامي الدائم والمزمن في الإعلام العربي، يلاحظ أن التذكر يقوم على نصب خيام في استديوهات القنوات لإقامة حفلات التهريج، ولدعم مستوى الفوضى التحليلية والهراء المريع، تلك النتيجة تتجلى بشكل واضح حينما نقرأ المحاور التالية:
-أقامت القنوات في الفترة الماضية، وتحديداً يوم الخميس ما قبل الماضي برامج عديدة بمناسبة ذكرى الحرب المتبادلة بين لبنان وإسرائيل وتلك الحرب على قربها إلا أن البعض يصرّ على كونها من قبيل "الذكريات" بدليل النسيان المخيف الذي ساد بعد تلك الحرب ولم تقم أي جهود لا سياسية ولا فكرية ولا اجتماعية لرصد آثارها، كل الذي فعلناه مجموعة من البكائيات والنواح على المجازر الدموية، بينما لم نقم بأي فعل يضمن عدم تكرار تلك المأساة التي لفّ الكثير من جوانبها الغموض. ذلك النسيان ترسخه قاعدة "الذكريات" فحفلات التحليل التي أقيمت لم تكن سوى مرابض لتحنيط الحدث ولجعله صفحة عادية من تاريخنا السحيق.
-ما آمل توضيحه، أن الحرب المتبادلة بين لبنان وإسرائيل لم تصبح تاريخاً بعد، صحيح أنها لم تعد قائمة، إلا أن الحدث يبقى متجلياً بوضوح، ذلك أن الحدث الذي عاصرناه لم يكن حدثاً سهلاً ولم تذهب آثاره أو ظروف عودته بعد بل سيظلّ ماثلاً أمامنا، وذلك لاعتبارات كثيرة، أهمها أن الحدث لم يكن مجزرة آلية صماء، وإنما كان فرصةً لشرح حالة فكرية وثقافية كبيرة، وساهم بكشف العجز السياسي اللبناني خاصةً والعجز العربي عامةً، وهذا هو المحرض الأساسي على الممانعة التي أساهم بشرحها ضد تحنيط الأحداث وترحيلها إلى غياهب التاريخ.
-لم تعد الأحداث كتلة صماء تنقرض، وإنما تفرض راهنيتها على العقل الذي يعنى بالهوامش، كانت الحرب فرصة "اختبار" كشفت الأداء العربي كله، أشعلت إسرائيل بحربها "ناراً من الفضائح" حيث انكشفت القدرات الصحافية المأزومة، والعجز عن تأسيس حتى رؤية فوتغرافية ناضجة، والعجز الفكري والتحليلي، والعجز السياسي، حيث لم يكن حاضراً في الحرب إلا صوت "الهدنة" لأنه صوت العقل في ظروف مشابهة لتلك الظروف، يحتاج الضعيف أحياناً أن يحافظ على ضعفه، وهذا ما فات على "حزب الله" استيعابه وهو الحزب المتحمس لإلغاء إسرائيل وسحقها، تلك الفكرة تبدو للسذج فكرة تعبر عن قوة، بينما لا تعبر إلا عن خور مضاعف، ذلك أن انتفاخة الهرّ لا تجدي شيئاً أمام غابة من الآساد. فالمسافة الفاصلة بين "الضعف" وطريقة استخدام ذلك الضعف هي معيار القوة العقلانية التي تراجع ذاتها وتؤسس لنمط تفكير جديد ولتنمية شاملة، يساعدها على فرض أمن سلمي من أي احتمال حربي، أما التراقص الهزيل أمام القوى العالمية لا ينتج سوى الانتصارات اللغوية التي شهدناها، وأصبحنا مثل "أشعب" الذي يكذب ويصدق كذبته بكل بلاهة وتهريج.
-أصبح الإعلام ميداناً للحديث الكثير عن "المؤامرات" وحينما شهدت أحد حفلات التحليل ظهر يوم الخميس هالني حجم الزحزحة التي تمارس من قبل بعض المحللين الذين يعجزون عن إدراك موقعهم من الإعراب وموقع بلدانهم وعالمهم العربي من العالم كله، إذ حوّل الإعلام تلك الحرب إلى نتيجة من نتائج تكالب الكفار والأعداء علينا، ونتيجة من نتائج الغزو الفكري والثقافي ونتيجة من نتائج سيطرة اليهود على الإعلام، بينما ينسى أن طريقة تفكيره هو مثلاً أحد أسباب انحطاط العالم العربي، وينسى أنه جزء وذرّة من كتلة التخلف الصماء التي تربض على القلوب منذ قرون، هذا ما هالني غيابه أعني غياب "الذات" عن النقد، حتى عزمي بشارة المحلل المنتشي بذاته، والمريض بتحليلاته، والمتخم بالانتفاخ والغرور، بدا وكأنه يصدر بيانات توجيه إلى العالم العربي، بدا وكأنه يعطي تعليمات وشذرات على القادرة العرب أن يمتثلوها، بدا وكأنه الزعيم العربي الذي تجب طاعته، بدا في تلك الحلقة زعيماً ولم يكن محللاً سياسياً، وهذه مشكلة عربية أن يمنّ الإنسان على الكل بتضحياته، وأن يجعل من تضحياته وسيلة لابتزاز المستمع، أو وسيلة لتعضيد الأفكار بمآسي شخصية لا علاقة للاستدلال فيها.
وبكلٍ، فقد كانت تلك الحفلات مملة، كانت فقرة طويلة من التهويل والتضخيم، كانت تلك القنوات باختصار تريد صناعة شيطان تقتنع من خلاله بمعقولية الأحداث التي تمرّ بها ويمرّ بها عالمهم، ونسوا أن تفكيرنا وطرائق تعاملنا مع العالم هي أساطيل من التشيطن ما لم نفضخها بالنقد والمساءلة.
كاتب سعودي.
shoqiran@hotmail.com