كتَّاب إيلاف

انقلاب يوليو.. تاريخ يليق بالحداد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"تجريف الشخصية المصرية" هي أفضل تعبير يختزل نتائج الانقلاب العسكري في مصر الذي وقع في مثل هذا اليوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، ليرسخ حكم الضباط طيلة العهود الثلاثة الماضية، ناصر والسادات ومبارك، مع التأكيد هنا على أن الفوارق بين هذه العهود لا يتجاوز الشكل الخارجي، أما الجوهر فهو واحد لم يتغير، ينطلق من "ثقافة القشلاق" ـ أي المعسكر ـ ويمعن في تغييب وعي الناس تارة بفتاوى مشايخ آخر الزمان، وأخرى بهوس كرة القدم، وثالثة بمعارك جانبية سخيفة، حتى جرت بالفعل أكبر عملية تجريف للشخصية المصرية طيلة السنوات الخمس والخمسين الماضية .
وكما يحدث للأرض حين يجرفها الأشرار، فينتزعون منها أحلى طبقاتها، فلا يبقى غير الطبقة الصلدة القاسية، التي لا تصلح للزرع ولا الحياة، هكذا أصبح المصريون الآن، فلم يعد ممكناً أن نصفهم اليوم بالتسامح، في وقت يشهد فيه كل شبر من ربوع مصر احتقانات طائفية وخصومات يصل الأمر فيها إلى حد الفُجر، بل أن الفضائيات حين ترغب بإقامة "مشتمة" تستضيف مصريين مختلفين في الرأي، ليضطلعوا بمهمة إمتاع أبناء الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة، بوصلة من "الردح" المصري الأصيل .
قامت "حركة الجيش"، هكذا سماها الضباط أنفسهم قبل أن يتطوع مثقفون انتهازيون ليسبغوا عليها زوراً صفة الثورة، رغم أن ما حدث كان انقلاباً نموذجياً وفق أبسط قواعد علم السياسة، فالثورة بطبيعتها فعل شعبي كما حدث في إيران مثلاً، أما أن يقوم بعض الضباط بتغيير نظام الحكم بالقوة، ويعطلون العمل بالدستور والقوانين، ويفرضون الأحكام العرفية، ويحلون الأحزاب السياسية، فهذا انقلاب صريح.
الأسوا من هذا أن هؤلاء الضباط الذين قدموا أنفسهم كمخلصين للشعب من الفساد والاستبداد والفقر، فقد مارسوا ـ ومازالوا ـ أبشع صور الاستبداد، ووصل الفساد على أيديهم إلى حضيض يتوارى أمامه خجلاً فساد فاروق وحاشيته، أما عن الفقر فحدث ولا حرج .

عسكرة المجتمع
وليت الأمر توقف عند ممارسات الاستبداد السياسي، التي يتطلب الخوض في تفاصيلها إلى مجلدات ضخمة، لكنه تجاوزه إلى تجارب مريرة من طراز "عسكرة المجتمع"، فقد وزع عسكر يوليو وخلفاؤهم مناصب الإدارة العليا على تلاميذهم، فأصبح المحافظون والسفراء ورؤساء المدن والأحياء، من العسكريين المتقاعدين، ووصل الأمر إلى حد تسليم هؤلاء "المتقاعدين" مقاليد الأمور في هيئات ومؤسسات لا صلة لهم بها كالثقافة ودار الأوبرا وحتى حديقة الحيوانات ذات يوم كان رئيسها "جنرال"، وأخيراً دفع الحزب الوطني الحاكم، الوريث الشرعي لسئ الذكر الاتحاد الاشتراكي، ببعض الجنرالات إلى البرلمان.
والمنطق البسيط يقول إن الجنرال الذي أفنى زهرة شبابه في تلقي الأوامر العسكرية وإصدارها، لا يمكن أن يهبط عليه في أواخر أيامه وحي الديمقراطية، لأن تجاهل خبراته السابقة وتراثه المعرفي يشكل جريمة تدليس كاملة الأركان، وبالتالي كانت النتيجة أن الجهاز الإداري للدولة شهد عملية تخريب غير مسبوقة، فتحولت فيه الرشوة إلى سلوك يومي، بل أصبح من المستحيل أن ينجز المرء مصلحته في بعض دواوين الحكومة من دون وساطة، كما هو الحال في إدارات المرور مثلاً، وترهلت الإدارة بموظفيها "التنابلة" الذين يمعنون في تعطيل مصالح خلق الله، بينما يُصّر المسؤلون على ترديد خطاب الإنجازات الوهمية .
يحدث هذا الآن، بينما كان موظف الحكومة في ما أسماه الثورجية "العهد البائد"، شخصاً محترماً جاداً، يخدم وطنه ومجتمعه بضمير يقظ، ولا يقبل الرشوة إلا فيما ندر، ولهذا استحوذ الموظفون حينذاك على احترام المجتمع، ولعل نظرة واحدة على وضعية المعلم في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، ومقارنتها بحال معلمي اليوم ما يكفي لتوضيح حجم الخراب الذي حل بالبلاد والعباد على يد الضباط وورثتهم.
ثمة نتيجة كارثية أخرى لحصاد انقلاب العسكر، تمثلت في تعلق الناس بالأشخاص وليس بالمؤسسات، فقد تجمعت كل خيوط اللعبة في يد رجل واحد، كان اسمه ناصر ثم أصبح اسمه السادات وحاليا اسمه مبارك، وسادت هذه الثقافة على مستويات أدنى لتصل إلى نخاع الدولة، فشخص الوزير أهم من آليات العمل بالوزارة، لأن كل وزير جديد يمحو تراث أسلافه، ويؤسس لنظام جديد كأن التاريخ يبدأ بشخصه، حتى على مستوى كبار الموظفين كمحافظي الأقاليم، ومديري الأمن ورؤساء تحرير الصحف والهيئات والمؤسسات، حتى وصل الأمر إلى معاون المباحث ومفتش التموين ومأمور الضرائب، وباختصار لم تعد هناك آليات عمل، بل إدارة عشوائية يحكمها المزاج الشخصي والفساد وأضيف إليها أخيرا الهوس الديني.
قصارى القول، أن يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952 كان يوماً أسود في تاريخ مصر، لا يتسع المقام هنا لحصر بنود فاتورته الثقيلة التي دفعها آباؤنا وندفعها وسيدفعها أبناؤنا، حتى نفيق ونتوقف مع أنفسنا في لحظة مكاشفة جادة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما فعل الألمان واليابانيون وغيرهم من الأمم المتحضرة .
Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف