كتَّاب إيلاف

لحية أتاتورك

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

صباحاً، أفقنا على هدير مزلزل، منبعث من مكبرات الصوت. كان الوقت فجراً، وهذا الصخب لا يمكن أن يكون مصدره إلا آذان المساجد، الألفية العديدة، في مدينتنا المباركة، اسطنبول. "حيّ على المعجزة.. ! "، تناهى صوت مكبر الصوت وأصداؤه. ما هذا، أيضاً، بربكم : هل أدخلوا تحويراً ، جديداً، على ترتيلة صلاتنا، كيما يتفاقم شقاق أهل الإسلام؟ فكما تعلمون ، كان القزلباش (الشيعة) قد جاؤوا ببدعة مماثلة، زعمت أنّ الترتيلة، الأصلية، للرسول الكريم (ص)، هيَ "حيّ على خير العمل " ـ كذا، بمحل ما إعترف به فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة، " حيّ على الفلاح ". نعم ، مفردة جديدة. وهذا ما كان ينقصنا، في الحقيقة، نحن الذين نجز رقاب بعضنا البعض منذ نيّف وخمسة عشر قرناً. قولوا لي، بربكم الواحد الأحد ، هل نحتاج نحن المسلمون لقرن جديد.. أعني، لعهد جديد من المجازر !؟ وهذا مثال العراق، اليوم. فمن أجل هذا المفردة ـ صانعة الشقاق ـ لم يعرفوا فلاحاً أو عملاً مفيداً، إلا النحر والتفجير والتدمير. كان الله قد أنعم عليهم بحاكم عادل ، ودود المعشر، أعلن وهو السنيّ أنه متسلسل من السلالة الحسينية ـ عليها السلام. وكان فوق ذلك، يٌشبه أتانوركنا، أي أنه علماني ومؤمن في آن. مرة كان رئيسهم ، ذاك ، يخرج عليهم بطقم بيير كاردان وببرنيطة وسيجار، ومرة بعباءة حجازية وعقال بريم ومسبحة. ولكنهم ناسُ البطر ـ وقانا الله من هذه الخصلة غير المحمودة. إستدعوا إذاً الأمريكي الذي لا يعرف ربّه، وهللوا وهزجوا لعسكره حينما دخل بغداد غازياً. أما رئيسهم المسكين، فأنتم أعلم بحاله بعد أسره ومحاكمته وإعدامه. كان بطلاً، بحق. والأهم، أنه أثبت تقواه، هوَ الذي حمل المصحف الشريف طوال جلسات المحاكمة، ثم مات مردداً الشهادتين. الشعب العراقي ، يا حسرة، يدفع ثمن دم الرجل. الله تعالى، سيعاقبهم في الآخرة، أيضاً. وخصوصاً، على معصية تحطيم تماثيل زعيمهم. هكذا فعال، قبيحة، لم تعرفها تركية الحديثة: فليكن الحاكمون مسيئين، وليسقطوا، الواحد بعد الآخر، في الإنتخابات أو في الإتقلابات العسكرية. ولكن تماثيل زعيم الأمة، أتاتورك ، باقية مخلدة لا يستطيع كائناً من كان مسّها أو تدنيسها بفعلة قبيحة !

قلنا أنّ هدير مكبرات الصوت، على الأرجح، كان مصدرها المساجد. من جهتي، ما كنت أرتاد الجامع إلا في الأعياد وبعض المناسبات الدينية. المهم ، أنّ الفضول إجتاحني وقررت الخروج للشارع، كيما أستجلي وجه المسألة. لماذا لا تقول، أنّ أمة الله أكبر، جميعاً، متجمهرة هناك، تحت مأذنة جامع الحيّ. "ما هذا الهراء، ولاه ؟.. من جرأ على تعكير رقادنا بهذا النداء، السفيه؟ "، كان يصرخ هذا وذاك متوجهاً بكلامه نحو الأعلى، حيث المفترض أن المؤذن ثمة، في حجرته. لم يخرج أحد من ذلك المكان، وإنما على حين بغتة تقاطر علينا صبية صغار، متشردون، وهم يهتفون بصوت واحد: " معجزة !.. معجزة ! ". وبالكاد فهمنا منهم معنى الإعجاز، المقصود. يا سيدي، يقولون أنّ تمثال أتاتورك، المعتلي صهوة جواده، والمتشامخ في المستديرة المؤدية لحينا، قد نبتت له لحية طويلة ، مسترسلة. سأل أحدهم الأطفالَ، وهوَ لم يفق بعدُ من الذهول: " وشاربه، أمحفوف أيضاً بحسب السنّة الشريفة؟ ". هزأه الحاضرون، بطبيعة الحال: فأتانورك، كما هو معروف، كان حليق الشارب حياً وميتاً، على السواء ! السيل البشري، المتجمهر هنا قدام الجامع، ما لبث أن زحف نحو تلك المستديرة. رأيتني منقاداً معهم، بنفس المقصد. بالفعل ، هذا هو التمثال المهيب وهي ذي اللحية، الموعودة. إنها على ما يبدو من نفس طينة زعيمنا.. أعني، طينة تمثاله ! للحقيقة، لحية أنيقة وتليق بزعيم قوميّ، محبوب. وذهب المجتمعون في مذاهب شتى، بحثا عن تفسير للأمر ـ أو المعجزة. ولكنني إستقريت على رأي، قال صاحبه أنّ المسألة سياسية بحتة، فلا معجزة ولا قزلقرط. كيف، أوضح الرجلُ أنّ حزب عدالتسي وتنميتسي، الحاكم، سيخوض الإنتخابات المقررة تحت شعار : " نحو جمهورية تركية علمانية، عثمانية ".. وهل لدينا ، هنا في تركية، ما هو أكثرَ تقديساً وتبجيلاً من تمثال أتاتورك، لكي يبارك شعارهم ـ بحسب المعجزة ـ مقدماً لحيته لهم، عربوناً على الفوز القادم، المبين ؟

لا أخفيكم أن كلام ذلك الرجل قد جعلني، عندئذٍ ، محبطاً تماماً. ما هذا، أيعقل أن يكون قادة عدالتسي وتنميتسي الورعين المؤدبين على هذه الأخلاق، الوضيعة؟ فلا كانت العدالة، إذاً، ولا التنمية !.. هكذا فكرتُ مهموماً، حانقا. لقد أعطيتُ صوتي ـ أنا العلمانيّ المتحرر ـ للحزب المذكور ذي التوجهات الإسلامية، بعدما خاب أملنا جميعاً بالأحزاب العلمانية، التي لا همّ لقادتها ومسؤوليها سوى هبش ميزانية الدولة وعقد الصفقات مع المافيا ومفسدي الأرض. الأخوان في عدالتسي وتنميتسي وعدوا بالمستقبل المشرق لبلادنا الحبيبة، وبالرفاه والبنين لأبنائها البررة. العلمانية سيحترمونها. وما هيَ هذه العلمانية، التركية ، بربكم: إنها حرية الرجل في أن يتوجه للملهى، حال قبضه الراتب، فيشرب هناك كم كأس عرق وهو يزهزه على أنغام الموسيقا والحركات المثيرة للراقصة. وإذا ما تبقى بعد نقود، من الراتب المنكود، يمم صاحبنا شطره ناحية تلك الناحية، المعلومة! حتى لو كان الرجل متزوجاً، فهل يعيبه بعدئذٍ عودته للمنزل البائس، فجراً، وصياح وعويل زوجته على رأسه حتى غروب الحضارة التركية !؟ على أنّ خيبة أملي، الموصوفة، بحزبنا وقادته، سرعان ما تبددت ولله الحمد. نعم. فالمعجزة تلك، ما كانت عمل نحات ما، مأجور، وفي حيّ فقير من أحياء اسطنبول وإنتهى. لا، بل تأكدت بنفسي وبعينين سيأكلهما الدود، أنّ تماثيل أبي الأمة، جميعاً، قد نبتت لها لحى ـ وكأنه أضحى فتىً بالغاً للتو ! تسألونني، وربما تحلفونني، أبشرفك قد عاينتَ تلك التماثيل كلها، المتناثرة في أرجاء مدينتك، الكبرى؟ نعم، ووالذي نفسي بيده، أني تجشمتُ يومذاك الأهوالَ في سفري من مدينة لأخرى، ومن قرية لأختها، لكي أحظى بمنظر اللحى تلك، المباركة، المسترسلة بوقار جدير بإسم صاحبها. الحافلة تسير، وعيني على الطريق لا تغمض أبداً. حتى لقد تناهى "سفر برلك" فضولي إلى قلب المنطقة الجنوبية الشرقية. ولأعترف لكم، بأنّ بصري راح يهمل لحية أتاتورك، فيما لاح له ثمة من مناظر البؤس والتخلف، المريعة. وتذكرت للفور قضية كاتبنا الكبير، الفائز بنوبل الآداب للعام المنصرم. لم أقرأ له شيئاً، في الحقيقة. فأنا عادة ً أتصفح الجرائد، لتضييع الوقت فقط. إلا أن تكرار إسم الرجل، لفت نظري وخاصة ً ما إنهال عليه من إتهامات وبذاءات صحافييناعلى شرائه تلك الجائزة، الثمينة، بثمن بخس،ألا وهوَ بيعه لسمعة وطنه وشعبه، وخاصة بقبوله ما يسمى " مجازر الأرمن "، التي إخترعها الغرب الكافر ليمنعنا من الدخول في إتحاده، العتيد.. الخ.

وإذاً، فما رأيته تطابق مع ما كان أديبنا ذاك، النوبليّ، قد وصفه ـ بحسب الصحافة ـ في روايته الأخيرة، عن زيارة له لمدينة " قارص "، الكردية، وصدمته بالأوضاع المشينة لساكنيها. فعلاً المرء يخجل من كونه تركياً، فيما هو يرى كل هذه الأوضاع المزرية، وبالرغم من أن تماثيل الوالد، المعظم، هنا وهناك مجللة بهذه اللافتة المخطوطة بعبارات كبيرة: " سعيدٌ من يقول أنني تركيّ "!.. ليسعدنا الربّ، إذاً، وليساعدنا أيضاً. ولكنني خلال الطريق، إهتديت إلى طريقة ترضي سواءً بسواء ضميري ـ كمؤمن يخاف من آخرته، وواجبي ـ كتركي غيور على سمعة وطنه. فالحواجز الكثيرة التي أقامها الجيش والجندرمة، ذكرتني بالخطر الإنفصالي، الكردي، الذي يهدد كيان الوطن العظيم. هذه مسألة لا يختلف عليها أحدٌ هنا، أكان علمانياً أم عثمانياً أم عشماوياً! رئيس الأركان يصرخ، بأنّ قواته ستسحق الإنفصاليين وتبيدهم عن آخرهم. فيزاود عليه فضيلة شيخنا رئيس الوزراء، بأنّ وحدة الوطن أهم بكثير من الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي وحتى من الحلف الإستراتيجي مع أمريكة. لا بل وسماحة الملا، وزير الخارجية، ذهب إلى أبعد من ذلك حينما توعّد الأمريكان بالويل والثبور إذا ما ثبت أن قواتهم في شمال العراق متورطة بتسليح الإنفصاليين هناك. كيف، لم يحدد سماحته، الإجراءات الرادعة: أهيَ قطع مساعداتنا الإقتصادية عن واشنطن، حتى يفطس شعبها الجائع أصلاً، أم إرسال جيشنا الباسل فرد مرة إلى بلادهم لقطع دابرهم، خاصة وأن نظامهم فيدرالي ويهدد أسس كياننا ويشجع أكرادنا على المطالبة بالفيدرالية؟ ولأعد إلى اللحية المعجزة، حيث لحظت أنّ تماثيل والدنا هنا، في المنطقة الجنوبية الشرقية، مصبوبة من الإسمنت، وعلى غير ما إعتدناه في غربنا التركي من مادة رخامية، فاخرة. هذا ظلم فادح، يعاني منه أهالي المنطقة، أتجرأ وأقولها بصوت عال ودونما خوف من المقاضاة أمام المحكمة بتهمة تأييد الإرهاب والإنفصالية. ولوْ ! فليكونوا أكراداً أو قروداً، ألا يستحقون تماثيلَ من رخام لا من السخام، على الأقل لخاطر هيبة أبينا في الأرض ولحيته الجديدة، المقدسة !؟ يحدثونك عن الإصلاحات في المنطقة الجنوبية الشرقية: فلنبادر إذاً لتخصيص ميزانية لهذه المنطقة ، كي لا يبقى تمثال واحد لأتانورك من تلك المواد الرخصة. وهكذا، نكون قد حققنا المساواة المطلوبة بين رعايانا وخلصنا ضميرنا ـ كمسلمين مؤمنين، وأسكتنا إلى الأبد أصوات المنتقدين لدولتنا في الغرب الكافر والساعية لمنعنا من الدخول في الإتحاد الأوروبي. والأهم، أن واحدنا حينها سيكون سعيداً ، حقاً ، بأن يقول بالفم المليان : أنا تركي !!

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف