االسياحة الداخلية والممانعة الثقافية.
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصف الشعب السعودي في الخارج! هربوا من الصحراء إلى السياحة الخارجية! هذا ما تؤكده الإحصائيات أن سبعة ملايين مواطن خرجوا عن طريق الجو، أما الذين ذهبوا عن طريق البر فهم خارج الإحصائية المشار إليها والتي نشرتها صحيفة(الشرق الأوسط) فإذا كان عدد السكان-من دون المقيمين- 17 مليون نسمة فإن نصف الشعب على الأقل يتسدحون الآن على بطونهم في الأماكن الباردة في الخارج. حدث هذا رغم كثرة اللوحات والإعلانات ورغم افتتاح أكثر من (تلفريك) ورغم انتشار (الآيس كريم) في أبها ورغم وجود (قرود) في الطائف ورغم توفر (العنب والتوت) على الأرصفة في الباحة. برغم كل تلك الحملة السياحية والأنشطة العظيمة رغم كل تلك السبل الميسرة خرج السعوديون-أحفاد الصحابة- إلى أرض الله الواسعة.خرج الناس في وقت متقارب، بسرعة خاطفة، وقد عضّوا أسفل ثيابهم ركضاً إلى تلك البلدان. من هنا نسأل، لماذا يسافر الناس بهذه الكثافة إلى هناك؟ هل بإمكان مطويات ترويج السياحة، ولوحات الإعلانات التي تبشرنا بوجود بقالات ومحطات بنزين وتمنّ علينا بتوفر الخبز-فقط بريال واحد- في المدن السياحية الداخلية- هل تستطيع تلك الإعلانات أن تجيب على هذا السؤال؟ سأحاول الدوران حول الجواب-لأنني لا أملك جواباً نهائياً- عبر المحاور التالية:
-المحور الأول أقيسه على نفسي، فلو قدر لي السفر لما تسيّحت في بلدي العزيز، لأسباب كثيرة، أولها أنني أعزب وكل الشقق المفروشة وأصحابها إذا شاهدوني قادماً أريد استئجار شقة رفعوا أيديهم يتوسلونني أن أعود أدراجي بأسرع وقت ممكن وكأنني مصاب بالجرب. حيث يتعب الأعزب كثيراً من أجل العثور على مكان يسكن فيه في مدننا بفنادقها باهضة الثمن، أما الشقق المخصصة للعزاب فلا تسكنها حتى الفئران. والسبب آخر هو الازدحام البائس الذي نشهده في مدننا فالناس يتجمعون حول "التلفريك" و "القرده" و "باعة الرمّان" فهذه هي أنشطتنا السياحية بحمد الله وتيسيره. حينما تبحث عن معْلم أثري، أو مقهى رائع يطل على منظر جميل، لا تجد سوى البوفيات المليئة بالبكتيريا! حينما تبحث عن "صناعة سياحية" لا تجدها إلا على الورق أو في تصريحات المسؤولين عن السياحة الذين يدلون بها وهم يتبطحون سياحاً وسط بعض العواصم الأوربية. لذا لو قدر لي أن أكون سائحاً فلن أذهب إلى تلفريك صدئ أو أجتمع كالبهلول على نطنطة القرود أو أبدو كمن قطّع الجوع عروقه أمام بائع الفاكهة الصيفية، ولن أقف أمام موظف الاستقبال في الشقق والفنادق وكأنني أرجوه أن يسكنني في بيته.
-المحور الثاني محور ثقافي، فالسياحة لا تحتمل التلصص الذي يمارس من قبل بعض زملائنا في الوطن، حيث كثرة السلام والعناق وكثرة الأسئلة والإزعاج. كما أن الهدوء مفقود في الأماكن السياحية الداخلية، فالسائح كالكرة التي تتناقلها الأقدام بين الواعظ الذي يسوق الناس بالسوط وكأنهم من العصاة والفساق والماجنين ويضربهم بصراخه من فوق جمسه الموقر، وبين القرف الذي تشاهده من ضحالة الأماكن وندرة المواقع التي تستحق الزيارة، وضحالة المقاهي الهادئة السياحية التي تمنحك لحظات تقرأ فيها جريدتك أو تشرب فيها فنجانك بهدوء. فأنت مطارد وملاحق اقتصادياً وفكرياً وثقافياً. فباعة "البليله" يركضون وراءك من جهة، والعائلات تحتل الأمكنة وتطلب كل عائلة من الأخرى أن تبتعد 100 قدم على الأقل! وتأخذ كل جلسة للعائلة نصف كيلومتر مربع.
لذا تحتاج إلى راحة بال من سياحة أشبه ما تكون بسجن مرعب سياحة مليئة بالتعليمات الصبيانية التي تملي عليك كيف تتسيح، لا أحتاج و-أظنكم لا تحتاجون-إلى سياحة مليئة بالوصاية، السياحة الإجبارية التي تضربك بأسعار خرافية، حتى أن شقة مليئة بالنمل تطل على جبل مقرف تعادل شقة في مكان مرموق في أسبانيا التي تبذل منذ الستينيات جهوداً ناجحة من أجل السيطرة على كل سائح أوربي أو غير أوربي، يضع التجار تلك الأسعار وكأننا أغبياء! السياحة-أيها السادة- عملية إنسانية، وممارسة طقسية روحية، وليست ركضاً وراء القرود أو تعلقاً غبياً على التلفريك أو تزلجاً في الملاهي أو لحساً شرهاً للآيس كريم!
-ستظل السياحة الخارجية بازدياد إلى 100 سنة قادمة، ما دامت التعليمات السطحية والوصايات الساذجة موجودة، مادامت الأسعار الخرافية والفلكية تتصاعد. إذا كان السكن في شقة على جبل جامد هامد صلب أملس لا خضرة فيه ولا جمال أغلى من شقة على نهر من أنهار أوربا، إذا كانت خيمة مليئة بالنتن والدود تعادل سعر كوخ أنيق في ريف من أرياف فرنسا، فلن أكون من ضمن السياح الداخليين، إذا كانت البرامج السياحية مجرد تلفريكات، وقرود ومخيمات صبيانية مليئة بالزعيق والصراخ والصهيل والفحيح فلن أكون سائحاً داخلياً.إن جلوسكم في بيوتكم أو في استراحاتكم أكثر روحية من الركض الأعمى إلى تلك البؤر السياحية.
السياحة استجمام روحي قبل كل شيء، أن تكون أنت من يشكّل برنامجك السياحي، السياحة "خيارات" متاحة وليست بضعة أماكن يتوافد عليها الناس ويتهافتون عليها بازدحام بعضهم فوق بعض/ ولو رأيت العائلات وهي تتزاحم على الأمكنة لظننت أن فيضاناً -لا سمح الله- ضرب مدننا فلجأ الناس بكل همجية وخوف ورعب إلى تلك الأماكن التي تسمى أماكن سياحية. السياحة ليست شعاراً ومطوية وإعلاناً في قناة وموقعاً في النت! إنما تعتمد على فكر وعلى رؤية ثقافية، إنها ليست تجمعاً على القرود، ليست أن تضرب القرد بموزة وتركض كالأخرق أو المجنون، وإنما أن تمشي على الرصيف وأنت تشعر بالهدوء والحرية، أن تمنح أقدامك حرية الركض في الجوّ العليل، أن تختار أين تذهب أن تجد خيارات تحدد من خلالها أين تذهب، أن تجد مكاناً راقياً -صالح للاستخدام البشري- تذهب إليه. للأسف السياحة في السعودية "مجرد برامج ترفيهية للأطفال" أو برامج "دعوية وعظية" تلقينية تلقّن الناس الموت والإرهاب والقتل.
-يحدثني أب لعائلة كبيرة يسكن المنطقة الشرقية أنه في أيام السنة العادية -حتى بدون إجازة الصيف المملة ككل أيامنا- أنه إذا أراد أن يجلس مع أولاده وزوجته بهدوء وطمأنينة، يأخذ جوازات عائلته يوم الخميس ويذهب إلى شاليه على شاطئ في "مملكة البحرين" ويحدثني كيف أن أولاده وبناته يتنقلون بهدوء من دون أي تلصص أو معاكسات من جهة الشباب الطائش، ومن دون وصاية أو تعليمات تربوية أو أشرطة تسقط كالصواعق على الرؤوس من جهة أخرى، ينعم بهدوء من دون تعليمات تفرض على الأب أو عائلته من قبل شباب متحمس عاشق للحشرية باسم الوعظ والدعوة، فهو يصبح خارج "تغطية الأيديولوجيا" هناك يصنع عشاءه برفقة أولاده، تحت أنغام المطر، يسوق جهدهم صوت موسيقى هادئة تأتي من بعيد، يستجمّ بعيداً عن الأمراض الفكرية، بعيداً عن الصراخ المتناسل، والتلصص الكئيب. في بلدنا-بكل أسف- وصلت الحالة إلى أن الأب حينما تركب معه عائلته في سيارته فكأنك تشاهد فيلم "مطاردة" حيث تستقبل نوافذ سيارته أمطاراً من الورق ما بين مطويات وعظية، و معاكسات رقمية. فهو يهرب-بجهد حثيث- من ذلك الحصار.
-أيها السادة- إن "المسألة كلها ثقافية" /هكذا ببساطة. إن الجذر عميق جداً، الجذر متشسع والمرض مستشرٍ ولو خرج سيغموند فرويد من قبره وجاء إلينا لوجد أبرز الأدلة على صدق نظرياته ولوضع عوداً عريضاً على عين كارل بوبر التكذيبية، سيشاهد سيغموند فرويد "التصعيد" الذي يتشظى نتيجة الكبت، التصعيد الواضح والجليّ الذي نشاهده في الركض الأعمى الصبياني للغزل والمعاكسة، وفي الركض الصبياني الأعمى للنصح والوعظ والمفاكسة إنها طبقة في جوف الطبقة الأرضية الفكرية، إنها "الجيولوجيا الثقافية" التي لا تتغير إلا ببطء شديد بزمن يقاس بالسنوات الضوئية.سياحتنا وتطورها جزء من تلك الجيولوجيا المعقّدة. جزء من تلك البنية الصلبة، البنية المكشوفة المبطنة، العارية المستترة، الواضحة الغامضة.
كاتب سعودي.
shoqiran@gmail.com