البرلمان العراقي بين وزارتي المالكي ومزاحم الباججي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كنا قد مازحنا في وقت سابق، هنا في إيلاف، دولة رئيس البرلمان العراقي الدكتور محمود المشهداني، عندما هدد وقتذاك باستخدام (القندرة)، كسلاح لإلغاء أي تشريع قانوني لا يوافق عليه. وكان ذاك التهديد الذي أطلقه الرئيس المشهداني، قابله أعضاء كتلة الإتلاف بعاصفة من التصفيق. لكن هذه الكتلة البرلمانية عادت وغيرت رأيها، فاعترضت على ما اعتبرته تصرفات غير مقبولة من الرئيس الذي صفقت له سابقا، إثر مشادة بالأيدي حدثت بين أحد أعضائها، وبين أفراد حماية الرئيس. ثم تطورت الأمور نحو الأسوأ، فتم منح رئيس البرلمان إجازة قسرية منعته من مزاولة مهماته الرسمية، انتظارا لعزله نهائيا عن منصبه. ولكن يبدو أن رئيس البرلمان أصبح "فاكهة" زملاءه البرلمانيين، و"الملح" الذي تصبح، بدونه، جلسات البرلمان، باهتة، لا يستسيغها أحد. وحجتنا وبينتنا ودليلنا في ذلك هي، هذه العودة الميمونة لدولة رئيس البرلمان، واستئنافه، من جديد، لموقعه الرئاسي.
ولسوء حظنا، ولم لا، حظ البرلمان العراقي، أيضا، أن دولة الرئيس لم يأخذ بمقترحاتنا التي قدمناها له، في ذيل مقالنا السابق. ويقينا، أن بعض مستشاري السوء، داخل مكتب الرئيس، هم الذين أشاروا عليه بعدم الأخذ بالمقترحات، وكانت على أي حال مقترحات ذهبية. ولو أن رئيس البرلمان أخذ بها، لما وصلت الأمور إلى قضية "الأجازة المفتوحة"، "وتعليق" مشاركة بعض الكتل، ولما تم تعطيل عمل البرلمان هذه المدة، ولما تعطلت حياة العراقيين، وأوشكوا أن يكونوا هباء منثورا.
الآن عاد الرئيس، والعود أحمد، إلى استئناف نشاطه وتحمل مسؤولياته، خصوصا وأن عودته تزامنت مع أفراح انتصارات فريقنا الوطني لكرة القدم في بطولة آسيا، فإننا، وحرصا منا على مصالح العباد والبلاد، نقدم إلى دولته مقترحات جديدة، لكنها لا تتعلق هذه المرة بمسألة "القندرة/ الحذاء"، وإنما تتعلق بما نسميه موضوع "توسيع حوصلة" النواب، قبل أن "تطق حوصلة" العراقيين كلهم، ويسيرون على درب "الصد ما رد".
وأول ما نقترحه لدولة رئيس البرلمان هو، تشكيل لجنة برلمانية جديدة، على غرار اللجنة الأمنية واللجنة القانونية وغيرها من اللجان، وتسمى اللجنة الجديدة "لجنة توسيع الحوصلة"، تكون برئاسة نائب "شقندحي" يحظى بإجماع الكتل كلها، على أن ترشح كل كتلة انتخابية ثلاثة من نوابها الأكثر "شقندحية"، كأعضاء في اللجنة. وتنحصر مهام "لجنة توسيع الحوصلة" بالأمور التالية:
أولا، إشراك النواب العراقيين، إناثا وذكورا، وبدون استثناء، في برامج تحاكي برنامج الكاميرا الخفية، والبرنامج الكويتي "صادوه"، وبرنامج "ستار أكاديمي".
ثانيا، تشرف اللجنة على تنفيذ برنامج "الدغدغة". ويقضي هذا البرنامج بأن يقوم كل نائب من نواب الشعب، بعد أن يتم توزيعهم حسب الحروف الأبجدية، وليس حسب انتمائهم للكتل، ب"دغدغة /مداعبة" زميله الجالس بجنبه، حتى تدمع العيون ضحكا، لمدة خمس دقائق، قبل افتتاح أي جلسة من جلسات البرلمان. ويحق لنساء البرلمان المشاركة مع زملائهن الذكور في هذا التمرين الرياضي، إذا رغبن. إما من يرفضن، فتخصص لهن قاعة خاصة موصدة الأبواب، وتبدأ كل نائبة بدغدغة زميلتها، وفق نفس الضوابط المطبقة على النواب الذكور. وهكذا، وبعد أن ينتهي هذا التمرين، تكون جلسة البرلمانيين قد بدأت بأجواء من الضحك والمرح، والألفة و "الميانة"، فيصبح بمقدور نواب الشعب التصدي بروح رياضية مرحة، لأصعب مشاكل البلاد، وأكثرها تعقيدا.
ثانيا، تختار "لجنة توسيع الحوصلة" أعضاء من البرلمان، وتكلفهم بإعداد وجبات أكل تقليدية، كل حسب مناطقهم الجغرافية، ويتم تناولها بطريقة مشتركة، بعد انتهاء كل جلسة صاخبة. وهكذا، يقوم نواب الحلة بإعداد وجبة "نقيع الباقلاء"، ونواب الأنبار يعدون وجبتي "خميعة" و"دليمية"، ويكلف نواب الناصرية بإعداد وجبة "مصموطة"، ونواب العمارة يعدون وجبتي "سياح" وطابك"، ونواب الكتلة الكردية يعدون "بردة كلاو"، ويكلف نواب نينوى بإعداد "كبة الموصل"، ويعد نواب النجف وكربلاء، مجتمعين، وجبتي "فسنجون" و" قيمة"، ويكلف نواب الكوت بتقديم وجبة "محروك أصبعه"، إما نواب سامراء فيتكلفون بإحضار بطيخ "النباعي"، وهكذا دواليك. وكما قلنا توا، فأن الغرض من هذه الفعالية البرلمانية هو، التأكيد على أهمية (التنوع) الخلاق داخل المجتمع العراقي، وزيادة أواصر المحبة بين النواب، بالإضافة، طبعا، إلى الهدف الرئيسي وهو، انشراح الصدور، وإعادة تطبيع الأمور، بعد أن أصابها التشنج خلال السنوات الأربع الماضيات. فالمعروف عند العراقيين، أن السلام "يجر" كلام و الكلام "يجر" بطيخ. وعندما تصل أمور العراقيين إلى البطيخ، فأن كل صعوبة تجد تذليلا لها.
ثالثا، تصدر "لجنة توسيع الحوصلة" كتيبا يتضمن بعض الحكم والأمثال والشواهد التاريخية، البعيدة والقريبة، التي لها علاقة بموضوع "توسيع الحوصلة"، وتتم تلاوة محتوياته، بصوت عال من قبل الرئيس، قبل بدء كل جلسة من جلسات المجلس.
وبالطبع، فأن أفضل ما يفتتح به كتيب "توسيع الحوصلة" هي، الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على الصبر، وتحمل المشقة، ودفع الأمور بالتي هي أحسن. ولأن المجلس بصدد تشريع قوانين خطيرة، قد يختلف بشأنها البرلمانيون، وربما سيحلف أعضاء هذه الكتلة البرلمانية أو تلك بأنهم سيطلقون زوجاتهم، إذا تم قبول القانون الفلاني، أو إذا رفض القانون العلاني، رغبة منهم في إظهار حرصهم على مصالح الشعب العراقي وحبهم له، بينما هم، في الواقع، يتحينون الفرص لتطليق زوجاتهم، فالمفيد أن يتضمن كتيب "توسيع الحوصلة" على هذه الرواية التي يرويها الأصمعي. قال الأصمعي: كان على بعض الأعراب دين ثقيل فتعلق به غرماؤه، وكان معدما، فساوموه أن يحلف لهم بالطلاق أن لا يهرب، فحلف لهم بطلاق امرأتين كانتا له، ثم هرب، وانشأ يقول:
لو يعلم الغرماء ما مقتي لهم ما حلفوني بالطلاق العاجل
قد ملتا ومللت من وجهيهما عجفاء مرضعة وأخرى حامل
وتحاشيا لما قد يبدر من بعض النواب من تصرفات صبيانية، تشجعهم على القيام بها، حداثة النعمة، ووجاهة المنصب، وضخامة المرتب، وكثرة عدد أفراد حمايتهم الشخصية(وإنشاء الله لا يحدث مثل هذا داخل مجلسنا الموقر)، فليس مضرا أن يتضمن الكتيب هذه الحكمة: "من نال منزلة فأبطرته دل على رداءة أصله وعنصره".
وسيكون مفيدا، لو تضمن الكتيب المأمول، على تلك الحادثة التي جرت بين المأمون وبين وزيره أبي عباد، عندما غضب أبو عباد يوما على بعض كتابه، فرماه بدواة كانت بين يديه فشجه، فقال أبو عباد: صدق الله تعالى في قوله: (والذين إذا ما غضبوا هم يعقرون). فبلغ ذلك المأمون فأحضره، وقال له: ويحك! ما تحسن تقرأ آية من كتاب الله تعالى! قال: بلى يا أمير المؤمنين، أني لأحفظ من سورة واحدة ألف آية، فضحك المأمون وأمر بإخراجه. وإنما فعل المأمون ذلك، بسبب سماحته، وسعة "حوصلته".
ويا حبذا لو أن الكتيب المرتجى تضمن، أيضا، بعض تصرفات الخليفة المعتصم. فوفقا لما يقوله المؤرخون، أن المعتصم كان أميا (البعض يقول، كان ضعيف البصر بالعربية). ومرة قرأ أحمد بن عمار المذري أو الشيذري، في رواية أخرى - وكان يتقلد العرض عليه في الحضرة -، كتابا على المعتصم، فيه "ومطرنا مطرا كثر عنه الكلأ"، فقال له المعتصم: ما الكلأ؟ فقال: لا أدري. فقال المعتصم: إنا لله وإنا إليه راجعون! خليفة أمي وكاتب أمي! ورد المعتصم هو، أيضا، دليل على شهامته وشجاعته، واعترافه بقدر منزلته، وسعة "حوصلته".
إما، في ما يتعلق بتاريخ العراق الحديث، فأن من المفيد جدا، أن يحتوي كتيب "توسيع الحوصلة" على الحادثة التالية التي شهدها مجلس النواب العراقي، في زمن وزارة مزاحم الباججي، أي بعد أحداث وثبة كانون عام 1948. إذ، ينقل عبد الرزاق الحسني، في كتابه (تاريخ الوزارات العراقية، الجزء 8، صفحة 23 ) من (محاضر مجلس النواب في اجتماعه غير الاعتيادي لسنة 1948، صفحة 257 ) ما جرى خلال إحدى الجلسات، عندما " تطورت المذاكرات في أخر الجلسة إلى سب وشتم. فقد أراد نائب بغداد عبد الرزاق الشيخلي أن ينقذ الموقف فاقترح وقف الجلسة لمدة دقيقتين حدادا على أرواح شهداء الوثبة -حيث كان السيد شاكر الوادي وزيرا للدفاع- وأعلن رئيس المجلس عن قبول الاقتراح ولكن سرعان ما سمعت أقوال "لم يقبل الاقتراح" فصاح نائب المسيحيين روفائيل بطي "الاقتراح قبل" فرد عليه نائب الديوانية شعلان السلمان الظاهر "إنت شنو أنجب يا كلب" فرد عليه بطي بقوله "أسكت أنت" وعاد شعلان فخاطب روفائيل بقوله " إنجب سيبندي إنت شنو؟ " وصاح رئيس المجلس "أرجوكم النظام، أرجوكم المحافظة على النظام" وإذا بنائب الديوانية جياد الشعلان يقول لرفائيل بطي "والله يا رفائيل بسن تطلع بره أشوفنك إياها بشارع الرشيد. نحن قوة مسلحة والثورة العراقية قامت على رؤوسنا نحن لا على رؤوس الأفندية، سرسرية".فصاح الشيخ محمد رضا الشبيبي (أرجو من الرئيس أن يطبق النظام الداخلي بحق هذا النائب! شنو سرسرية) وطلب عبد الرزاق حمود نائب البصرة استدعاء الشرطة.ولم يسع رئيس المجلس تجاه هذا الوضع المتأزم إلا أن أعلن عن تأجيل الجلسة ورفض الاجتماع، ثم قصد البلاط الملكي وقال للأمير انه من المستحيل عليه الاستمرار على تحمل أعباء الرئاسة بعد أن أهين النواب بصورة علنية فلاطفه الوصي وصرفه عن فكرة الاستقالة" انتهى ما رواه الحسني.
وكما يرى القارئ، فأن الأنصاف يقتضي منا أن نقول أن أعضاء مجلس النواب الحالي يتمتعون، نسبيا، ب"حوصلة" أوسع من تلك التي كانت عند أبائنا وأجدادنا. وترينا الحادثة، أن الحياة البرلمانية، ومهما كانت، ومهما شهدت من توترات ومشاحنات، فهي مليون مرة أفضل من الحكم الفردي الاستبدادي. ولو أن الحياة البرلمانية في العراق تطورت، وسارت على ما يرام، لكانت كل الخلافات قد حلت داخل قبة البرلمان، بعيدا عن لغة السلاح. فحتى التهديد الذي أطلقه الشيخ جياد الشعلان بحق زميله بطي، لم ينفذه. وقد ظل الأستاذ روفائيل بطي حتى أخر يوم من حياته، يواصل، بتألق رائع، نشاطاته ومسؤولياته داخل المجتمع العراقي، كأحد أعلام العراق البارزين. والأهم من هذا، أن الشيخ الشعلان لم يتوعد زميله روفائيل بطي، بسبب ديانته المسيحية، لأن الصراع وقتذاك داخل المجتمع العراقي، ما كان يدور وفقا لمفاهيم ولأسس مذهبية أو دينية أو عرقية، وإنما وفقا لفهم مختلف، بين عقليتين عراقيتين متصارعتين. الذهنية الأولى يمثلها المحافظون، من كل دين ومذهب وقومية ومنطقة، والثانية يمثلها الحداثويون "الأفندية"، من كل دين ومذهب وقومية ومنطقة.
المهم، إن العراق اليوم استأنف من جديد، السير على طريق الحياة البرلمانية، ويبقى أن نستفيد من تجارب الماضي، علها تساعدنا على تجاوز المحنة التي نعيشها، ونحظى بعراق واسع "الحوصلة"، يتسع صدره لجميع أبنائه، كل أبنائه.