كتَّاب إيلاف

الأخلاق والدين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

فى موسوعة "لالاند"، وعلى هامش المناقشات حول كلمة "تسامح" يذكر (ف.روسيل) أنه منذ عشر سنوات، وبينما كان يلقى محاضرة فى كلية إكس - مرسيليا حول الشعور الدينى، قادته الأسباب إلى دراسة ديانات اليابان، بين أديان أخرى، ودهش من التسامح السائد فى ذلك البلد، حيث يمكن للفرد الواحد الانتماء إلى عدة أديان، وحيث يسود الاقتناع بأن تلك الأديان متكاملة.
وتأكد له ذلك حين قرأ فى مجلة (Revue) فى عددها الصادر فى 1/11/1918 مقالاً لـ "فينو" Finot حول "الدين والأخلاق فى اليابان" قال فيه: "أن الاحترام الممنوح لكل الاعتقادات فى صورة تسامح نادراً ما يكون له نظير فى البلدان الأخرى، يعود فى المقام الأول إلى استخلاص أقصى حد للفضائل والجمال من كل منها" . ويقول فى موضع آخر: "لقد قامت الأديان المهيمنة الثلاثة بتقسيم مثالى للعمل. تهتم "الشنتوية Shintoism بالحياة الأخلاقية خصوصاً. وتحتكر "البوذية" التطلعات إلى العالم الآخر، ويكملهما دين كونفوشيوس، إذ يساعدهما على تأسيس قانون بوشيدو Buschido، أو هذه المجموعة من مبادئ الفروسية الخاصة بالحياة اليومية".
أن اليابانى المثقف يرى أن كل الأديان "متكافئة" وأنها كلها تستحق الاحترام عينه. وهو يندهش بعقله المتسامح من صراع المذاهب المسيحية - وحسب لالاند - فإن اليابانيين أكثر من متسامحين، أو أنهم أحسن تسامحاً.. ذلك أنه يدخل فى احترام قناعة الآخر، وفوق ذلك، المودة تجاه ما هو حق فى التعابير الناقصة عن الحقيقة .
هل معنى ذلك أن "عدم التسامح" ملازم للأديان التوحيدية أو الابراهيمية كما يسميها البعض Religions of Abraham ؟ وأن الأديان القائمة على القانون أو تعدد الآلهة أكثر تسامحاً وأقل تعصباً ؟
عبر عن هذا الرأى المؤرخ الفرنسى "جوستاف لوبون" الذى قال: "أن مصر ظلت مثالاً للتسامح الدينى، سواء من داخلها أو ممن غزاها. فهذا يعترف بديانة ذلك، وذلك يعبد آلهة الآخر، إلى أن جاءها المسيحيون ثم المسلمون فعرفت التعصب للحقيقة المطلقة.
وعلى الرغم من أن فى الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والاسلام) مادة خصبة لتقوية التسامح، فلسوء الحظ لم تكن الممارسة التاريخية كما يعتقد كثير من الباحثين متسامحة على الدوام. وهناك من يرى أن الأمر ليس كذلك، وإنما هو أعقد وأعمق، فالمؤمنون بتعدد الآلهة فى العصور الكلاسيكية القديمة، واجهوا مشكلات جمة فى تعايش المعتقدات الدينية المختلفة جنباً إلى جنب، بصرف النظر عن عبادة الامبراطور التى كانت سياسية أكثر منها دينية. فالتسامح لم يكن قائماً على الوجه الأكمل كما يريد البعض أن يصوره، أو يجعلنا نعتقده. فـ "سقراط" حكم عليه بالموت لأنه وثق بالصوت الذى فى داخله، والذى كان متعارضاً مع آلهة مدينة أثينا ".
ويذهب البعض إلى أن عدم التسامح يرتبط فى معظم الأحوال بما لدى العقائد المختلفة من طموحات سياسية. وأن التسامح كان يتم إذا لم يكن المعتقد يعبر عن ظاهرة سياسية. وأن تعايش الطاوية والبوذية والكونفوشيه فى الشرق الأقصى، على سبيل المثال، يمكن تفسيره بأنه ليست فى أية ديانة منها خطورة سياسية.
أما البعض الآخر فيرجع اللاتسامح أو التعصب إلى "الدوجما" Dogma، وإلى الارتباط الانفعالى بالأبعاد الطقسية للدين، أى دين، أكثر من الارتباط ببناه العقلية، وفى الحالتين يكون ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وحيث لا يمكن أن يوجد أكثر من "مطلق" واحد، فإن الصراع بين المطلقات سيظل قائماً حتى يقصى مطلق واحد جميع المطلقات الأخرى.
وقبل سنوات دعا الباحث اللاهوتى السويسرى "هانس كونج" Hans Kung فى دراسته القيمة "الأديان العالمية والروح العالمية" إلى البحث عن المشترك بين الأديان العالمية لإظهار الروح التى تميز هذه الأديان من أجل التواصل والتفاهم بين البشر.
وكونج هو أحد أبرز وجوه الفكر الكاثوليكي المعاصر، ويتميز بميوله الإصلاحية ومواقفه النقدية الصريحة التي، وإن واجهت معارضة شديدة من الكنيسة، فإنها لاقت صدى واسعا في البلدان الانجلوساكسونية والجرمانية، الأمر الذي مكنه من أن يغدو أحد مستشاري الأمم المتحدة في الشؤون الدينية، وخاصة ما يتصل منها بالحوار بين الأديان السماوية.
وكان جُل ما أظهره من أمور مشتركة يندرج تحت حقل الأخلاق، خاصة "القاعدة الذهبية "التى سبق الإشارة إليها: يقول كونفوشيوس: "لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يعاملوك به". وفى اليهودية: "لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يضطروا إلى معاملتك به". وفى المسيحية: "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به". وفى الإسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
لكن "كونج" لم يقل أن هذه الأمور المشتركة تنفى الاختلافات بين الأديان، وإنما قال بوجوب وضع قواعد مشتركة تقضى على الأخلاقيات المختلفة والمتناقضة والتى تعادى بعضها بعضاً. وهذا الرأى يتبع موروث الإيمان بالقانون الطبيعى الذى يفترض أن للقانون والأخلاق مصدراً واحداً مشتركاً، هو القدرة على فهم الخير بواسطة العقل الطبيعى.
وعلى النقيض من هذا الموروث يعكس "التنوير" أنه ضمن المجتمع العالمى، تتعايش التوجهات الأخلاقية والدينية المتنوعة، وأنها لمهمة القانون أن تتيح للتنوع أن يتعايش. و "هردر" هو أكثر مفكرى القرن الثامن عشر وشعرائه تمتعا بعمق الفهم والإحساس بذلك، فكل شعب فى نظره صوت فردى يشارك فى "هارمونية" عالمية شاملة تضم الجميع بأديانهم وأخلاقياتهم وثقافتهم. ونحن نصادف فى مجموعة أغانى هردر القومية، أغانى تمثل الثقافات المختلفة، من جرمانية وسلافية وكلتية وسكاندنافية وليتوانية وتركية.
وكانت وراء هذه النزعة الإنسانية الكونية روح دينية عالمية جديدة، زادتها قوة فقد ذهب شلايرماخر إلى القول بـ "الدين العالمى"، ووضع نظرية له فى كتابه "أحاديث عن الدين" ودافع عنها فى هذا الكتاب، الذى يضم كل أنواع المعتقدات والعبادات. وأصبح من المستطاع انطواء جميع "كفار" العصور الغابرة تحت لواء هذا المثل الدينى الأعلى. وذكر شلايرماخر أن سائر الاختلافات الدوجماطيقية تبدو غير ذات موضوع فى نظر أى مشاعر دينية حقة. فالدين محبة، ولكن هذه المحبة لا تتجه إلى هذا أو ذاك أو إلى موضوع متناه أو خاص، أنها تتجه إلى العالم، إلى اللاتناهى" .
أما "هانس كونج" فيقول: "أن كل الأديان تقدم الإجابة عن معنى الكلية والحياة والتاريخ بلغة الواقع النهائى The Ultimate Reality الذى يجد نفسه محسوساً فى الدنيا سواء جرى تصوره على أنه البعث فى (اليهودية) أم الحياة الأبدية (المسيحية) أم الفردوس (الإسلام)، أم موشكا (الهندوسية) أم النيرفانا (البوذية) أم الخلود (الطاوية).
ولكن ليس بإمكان المرء أن يقول بأن الموضوع المشترك فى كل هذه الأديان هو النرفانا أو الفردوس أو موشكا أو ما إلى ذلك، بل أن الدقة تقتضى التفرقة، لا بين "براهما" و "الله" و "الطاو" حيث تختلف المصطلحات وحسب، بل بين المفاهيم المتعددة التى يستخدم لها مصطلح "الله" نفسه. فـ "الله" بمعنى العلة الأولى عند بعض الفلاسفة هو غير "الله" عند المسلمين والمسيحيين واليهود. وهذا ما أدركه "بليزبسكال" حين قال: "أريد إله ابراهيم واسحق ويعقوب لا إله الفلاسفة".
هكذا نجد أن الأخلاق والدين من حيث المبدأ "مفهومان متمايزان كل التمايز بالرغم من ما يبدو من صلتهما الوطيدة. فالدين عبارة عن معتقدات وممارسات تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات وتزوده برؤية شمولية للكون، وموضع الإنسان فى هذا العالم. أما الأخلاق فهى قواعد وممارسات تنظم سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التى يشكلون أعضاءها(63). والأصل فى الأخلاق استقلالها عن الدين". وارتباط الأخلاق ببعض الأديان ليس مسألة حتمية فى تاريخ الدين. ويمكن العثور لدى المجتمعات البدائية على ما يشبه الأخلاق الدينية، وذلك فى "التابو" Taboo الذى يمكن أن يشكل نقطة اتصال فيما بين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق الدينية، ونستطيع أن نتبين فيها الأخلاق الدينية بشكل جنينى.
ومع ذلك تظل محاولة "كونج" جديرة بالاحترام والتأمل، فقد نشر كتاباً عنوانه: "نحو أخلاق عالمية: إعلان أولى حول القواعد الأخلاقية المشتركة التى وافق عليها فى اتفاقية 1993 الممثلون غير الرسميين لزهاء مائة ديانة مختلفة. وفى تاريخ أحدث، فى اتفاقيتى أسيزى وروما، وافق الممثلون الرسميون للأديان العالمية الرئيسية على مجموعة من القيم المشتركة. وفى ديسمبر 1995 التأم اجتماع عدة آلاف من أصحاب الأديان والعقائد المختلفة فى كاتدرائية سان جيوفانى فى لاترانو (أقدم كاتدرائية فى روما) لمقابلة آرائهم على مسألة السلام العالمى.
هكذا أسفرت مقررات مجمع الفاتيكان الثانى 62-1965، وأثمرت، إذ صححت النظرة إلى باقى الأديان والطوائف، وأجمع المؤتمرون على مبدأ شمولية الخلاص من منطلق أن لا أحد يمتلك الحقيقة، لأن الحقيقة بصفتها حقيقة، هى التى تملكنا.
وحسب "كونج" فإن الحوار العقائدى قائم بذاته، ولا يحتاج إلا إلى استراتيجية كشف واعلان للقواسم المشتركة، والجهد، ما لم يسخر فى سبيل مزيد من المعرفة المتبادلة والاحترام والمحبة المتبادلة بغية توسيع المشروع الأخلاقى الذى يخدم بدوره مشروع السلام العالمى، أى أنه إذا لم يتحول المجتمع العالمى بأسره ساحة للحوار، يبقى الأخير رهن الشعارات العقيمة وجلسات التملق والزيف والمجاملة.
ويمكن أن يفهم من كلام "كونج" أن أية محاولة لضغط تنوع الأديان على سرير "بروكرست" للفهم الواحد المشترك يحرم الحوار بين الأديان من بعده الحاسم، وقد يؤدى إلى التعصب. الأمر الثانى أن الحوار منظومة شاملة لا تقتصر على الأديان فقط وإنما تمتد إلى السياسة والمجتمع بجميع فئاته وطوائفه وطبقاته وأحزابه.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف