كتَّاب إيلاف

الأسطورة... الدين... والديمقراطية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الأسطورة... الدين... والديمقراطية
من مفكرة سفير عربي باليابان
لقد شدني كتاب يبحث علاقة الأساطير بالأديان وضرورة خلق التوازن في فهمهما، لتطوير التجربة الديمقراطية مع المحافظة على القيم الإنسانية الروحية الدينية، والوقاية من الإستفادة من الدين للعب السياسية الطائفية المقيتة. وقد كتبته المؤرخة والكاتبة البريطانية كارن أرمسترونج، التي كانت راهبة بالكنيسة البريطانية ولعدة سنوات طويلة. وقد قررت أن تترك العمل بالكنيسة والتفرغ لدراسة الأديان. وقد كتبت الكثير عن الإنسان والآلهة والأديان. فقد تطرقت في كتاباتها للمسيحية واليهودية والإسلام، كما درست الهندوسية والبوذية بتفاصيل متناهية. وتتحدث في كتابها، الأسطورة، عن نشأة الأساطير في التاريخ البشري وارتباطها بأحلام الإنسان لتحقيق المستقبل.
وتوضح الكاتبة بشكل جميل بأنه ومنذ بداء التاريخ، كان الإنسان ملهما بخلق الأسطورة، فمن خلالها يرضي غرائزه ويحقق أحلامه. وrقد واكب تصنيف التاريخ البشري في خلق الأسطورة بثلاثة مراحل. تمثلت المرحلة الأولى بتداول الأساطير لأسرار الكون وأحلام الإنسان، ومع تقدم الحضارة البشرية العمرانية دخلت مرحلة العقائد الدينية، ومع تطور المجتمع المدني وبداء الاكتشافات العلمية دخل الإنسان مرحلة العلوم المادية والتخيلات العلمية. وقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة بأن حياة الدنيا ليست إلا بداية لحياة أخرى وقد أكد رجال الآثار هذه الحقيقة، بكشف ما تحوي قبور الأقدمين من كنوز جمعوها في قبورهم لأخذها لحياة الآخرة. ويعتقد الذهن البشري بأن هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيع المخ المادي أن يفسرها ويقتنع ماديا بوجودها. لذلك تطور التخيل في العقل البشري وبرزت الأساطير وتطورت منها مفاهيم الأديان المختلفة.
و تعتبر الأساطير في عالمنا المادي اليوم خرافات غير معقولة، مع أن مخيلة الأساطير هي التي مكنت الإنسان أن يحلم في المستقبل ويكتشف علوم جديدة ويبدع باختراعات حديثة. فمخيلة العلماء هي التي حملتنا إلى عالم الفضاء الخارجي فمشينا على القمر وزرعنا المريخ وسحبنا الطاقة الكهربائية من على سطح الشمس. فالأسطورة مع العلوم المادية توسع مدارك ذهن الإنسان وتحلقه في أحلام مستقبلية عجيبة. وتساعد الإنسان لان يعيش الواقع الحياتي باعماقة ويحلم بتغيره وتطويره. وقد مزجت الأساطير قديما بين الإنسان والحيوان والطبيعة بتناغم جميل، وتعرضت للقوانين الأرضية والقيم الإلآهية بشكل متوازن. ولم يوجد في البداية شرخا بين عالم الآلهة والعالم البشري. ووجود الإلهة لم ينفصل عن قوة الرياح وحيوية الأنهار والبحار، ولا عن العواطف الإنسانية في الحب والكراهية والانتقام.وقد خلق الإنسان الأساطير لتساعده للتعامل مع معضلات الحياة والطبيعة بشكل حالم وسلس. كما ساعد البشر أن يعرفوا موقعهم في هذه الحياة ويتساءلون من أين أتو وكيف بدأت الحياة وما سرها وأين هم ذاهبون.
وتؤكد أرمسترونغ بأن الأسطورة هي فن ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته. وقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانية دائمة. والإيمان الديني يرفع الإنسان لهذا السمو النفسي المترافق بنشوة روحانية تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي. وحينما فقد البعض نشوة الإيمان في واقعه المادي توجه للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة. والأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، وهي تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، وتساعدنا أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد تؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة. فالأسطورة هي حقيقة، ليس لان وقائعها حقيقية، بل لأنها مؤثرة في أعطائنا العمق للنظر للواقع المادي والاستلهام للإبداع لخلق مستقبل أفضل. والأسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغناء روحي جميل، كما يساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني الذي لا يمكن إدراكه، وكبداية لعلم النفس. فقصص الإبطال والإلهة الموجدة ما وراء عالمنا والتي تحارب الجن والأشباح أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.
وبداءت حياة الإنسان بعصر الصيد منذ أكثر من عشرين ألف عام، واعتقد الإنسان بآلهة السموات المراقبة والمحاسبة لأخطاء من خلال الكوارث الطبيعة. كما تمثل السمو الروحي بالسماء والجبال المقدسة. وانتقلت البشرية لعهد الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد، فعرف الإنسان فائدة الأرض والري، وبرزت مع العصور الزراعية آلهة السماء، فعرفت في سوريا إلهة الاشيرة، وفي بلاد ما بين النهرين إلهة اينان، وفي مصر إلهة البايسس وفي اليونان آلهة هيرا وديميتر وافرودايت. ومع بداية عصور الحضارة العمرانية في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، بداء العمل على بناء المدن وتشكيل الولايات. وأستمتع الإنسان بنشوة السيطرة والقوة فبدأت الخلافات بين الولايات، ونزلت لعنة الطمع والعنف والحروب.
وقد اعتبر أهالي الهلال الخصيب بأن مدنهم هي المكان المناسب لملاقاة الآلهة فحولت لجنان الأرض. وبداءت تقطن الآلهة المعابد في داخل المدن بجانب البشر فتقارب الإنسان مع آلهته. وقد عانت حضارة ما بين النهرين وحضارة مصر من فيضانات الأنهار، واعتبرها شعوبها غضب الآلهة، فقدمت القرابين لتهدئتها. وبرزت الآلهة من المادة المقدسة الغير محددة. فامتزج الملح مع الماء المر، ولم تكن السموات والأرض والبحار مفصولة عن بعضها. كما كانت الآلهة بدون شكل أو اسم أو مستقبل. وقد كانت أوائل آلهة التي برزت من المزج غير منفصلة من المادة المبهمة: فابسو كان إلهه الماء النهري، وتيمت إلهه البحر المالح والمومو إلهه السحب الضبابية. وقد تشكلت من هذه الآلهة المبهمة آلهة جديدة توضحت معالمها وبداءت تنفصل أجزاء الكون عن بعضها البعض فانفصلت السماء عن الأرض وبدأت تنفصل اليابسة عن البحار والأنهار. وبدأت الآلهة من مزيج من الماء والطين وسميت لاهمو والاهامو. وبعدها انشير وكيشار وتعني أفق السماء والبحار، ومن ثم آلهة السموات انو، والهة الأرض إياه. وقد كانوا الآلهة الجدد أكثر نشاطا فابسو غطس في قاع الأرض واينو وإياه بنو قصورهم مع المعابد وقاعات المدن. وقد تحولت آلهة التيمت إلى آلهة خطرة وخلقت وحش ممسوخ للانتقام من ايبسو. كما برزت آلهة مختلفة في بلاد الهند والصين. ومع التطور بدأت الآلهة تبدو بعيدة عن البشر وبداء الإنسان في العمل للتعامل مع الأزمات الطبيعة. وأنتشرت القصائد والأشعار. ومن أشهر القصائد هي أسطورة جلجامش التي ترجع تاريخها لعام ألفين وستمائة قبل الميلاد.
واستمر تطور مفهوم الآلهة والدين عند الإنسان، فبرزت الهندوسية فالبوذية فالأديان السماوية اليهودية فالمسيحية فالإسلام. وبداءت تنتشر المؤسسات الدينية وتزداد قوتها المادية والمعنوية. وعملت القوى السياسية على الاستفادة من هذه القوة السياسية الجديدة. والتفتت القوى الحاكمة لخطورة بداء سيطرة المؤسسات الدينية السياسية على عقول الإفراد، فعملت على فرض سيطرتها والاستفادة منها لتقوية مواقعها المجتمعية. فتداخل الدين بالسياسة، واستغل أهل السياسية الدين لمصالحهم. وبداءت تصدر قرارات سياسية في صياغة دينية، وتوسع غزو البلدان باسم الدين، فتطور الاستعمار وبداء ت الحروب وعاشت البشرية معاناة الغزو والاستعمار والتفرقة العنصرية والعبودية.
ومع بداء الثورة الفرنسية عام 1789، بداءت حركة التغير في المجتمعات الأوروبية وترافقت مع تغير الأنظمة الحاكمة والسياسات والإيديولوجيات المرافقة لها. فإنتهى حكم الإقطاع وصودرت أموال الكنيسة، وألغيت جميع المميزات السياسية التي كان يستمتع بها رجل الدين وتحول لفرد عادي ضمن المجتمع المدني الجديد. وبداءت تبرز الإيديولوجية الدنيوية، وبهتت المؤسسات الدينية وقياداتها. وترافقت هذه التغيرات السياسية مع التطور العلمي والصناعي، واكتشف الإنسان بان التطور المادي العلمي سيسخر القوى الطبيعية لخدمته، وضعفت المفاهيم والقيم والأخلاقيات الدينية وبرزت الأفكار المادية والقومية والماركسية.
وبداء صراع السلطة في أوربا من جديد، واستمرت إرهاصات الثورة الفرنسية حتى برز الإمبراطور نابليون بونابرت بعد الانقلاب عام 1804، وبداءت حروب أوربية متتالية لم تنتهي إلا بمعاناة ودمار الحرب العالمية الثانية، مع قتل مائة وخمسين مليونا من سكان الأرض. واكتشفت أوروبا بعد تجارب مريرة قاسية بان لا سلام ولا تنمية بلا ديمقراطية، ووعت أهمية فصل الدين عن السياسة. فعملت بجد واجتهاد لتطوير نظمها الديمقراطية وقررت أن تتجنب الحروب المستقبلية فوحدت جهودها الصناعية والاقتصادية في سوق أوربية مشتركة ومنها للاتحاد الأوربي.
كما بداء بروز قوى جديدة بعد الحرب العالمية الثانية كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي واستمر الصراع بينهما بحروب مختلفة ساخنة وباردة. ولم تنتهي هذه الحروب إلا حينما زار الرئيس السوفيتي غوربشوف فرنسا واكتشف خلال زيارته بان التنمية الحقة تحتاج للديمقراطية، فبداءت منذ ذلك الحين التحولات الديمقراطية في دول الاتحاد السوفيتي. وبداءت الولايات المتحدة تنفرد بجبروت السلطة في العالم. ودخلت في حروب تلو الحروب ليبداء أفول جبروتها مع بداء الألفية الثالثة وبداء بروز قوة عالمية حديده مع اقتصاد سوق العولمة.
فنلاحظ عزيزي القارئ بأن تاريخ البشرية مر بتجارب مرة ليكتشف الإنسان بأن لا أمان ولا استقرار ولا تنمية إلا بالديمقراطية. فلم ينفع الاستفادة من ديكتاتورية السياسة بالفكر الأيديولوجي أو القومي أو الديني في إدارة السياسة الدنيوية. فأين سلطة الكنيسة البابوية؟ وأين هتلر وماسوليني ؟ فهل سنستوعب نحن كدول المينا (دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) العبرة من تاريخ العالم وأخطائه؟ وهل سيستوعب الشعب الإيراني والتركي والعربي هذه الدروس؟ وهل سنستفيذ من تجربة الحروب والعنف والدمار وخسارة الأرواح، وضياع الترليونات من الدولارات بسب أفكار قومية شوفينية بالية؟ وهل سيتوقف هولاء الذين يستغلون أسم الدين لتحقيق مصالح سياسية آنية وزائلة، من نشر الحقد وتدمير العقول ومنع الحداثة والتنمية في المنطقة؟ إلا يكفي ما نشروه من دمار وكره وانتقام وفقر وجهل؟ وهل سيعمل شعوب منطقة المنيا لتطوير الديمقراطية والتنمية معا، وبدل الجهد لتطوير سوق اقتصادية مشتركة، وتحويلها لسوق صناعية واقتصادية؟ وهل من الممكن أن تتطور هذه السوق إلى اتحاد مينا مستقبلي؟
سفير مملكة البحرين باليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف