الآمرون بالمنكر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ليس هناك أدنى شك في أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية تمر هذه الأيام بأحلك فترة في تاريخها؛ مجموعة من الحوادث والأخطاء القاتلة ارتبطت ببعض مداهمات الهيئة (لعل الحماسة تنسيهم أن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد توافقت هذه الحالات مع نقد موجه للهيئة في الصحف المحلية والدولية، الأمر الذي أدى إلى صراع جلي حول صلاحيات الهيئة وحدودها وصراع خفي حول جدوى الهيئة ومدى ملاءمتها للعصر الحديث. وفي المقابل فقد شن المؤيدون للهيئات هجوماً لا يقل ضراوة عن منتقدي الهيئة تجاوز اتهامهم بمحبة الفساد وبالرغبة في الإنحلال إلى القول بأنهم أعداء للدين ومحاربون للفضيلة.
وفي خضم هذا الصراع تغيب الموضوعية أحياناً، ويسقط ضحايا تُستغل قضاياهم من قبل أحد الطرفين ليُستخدموا في لعبة كسر العظم بين الهيئة وخصومها!
لكن الأمر الذي لا يكاد يرتاب فيه أحد هو أن الهيئات بحاجة للإصلاح وإعادة التأهيل، فأعضاء الهيئة يفتقرون إلى بعض الصفات اللازمة للمهمة التي يضطلعون بها، فعن أبي عبد الله بن الربيع الصوفي قال : دخلت على سفيان الثوري بالبصرة فقلت: يا أبا عبد الله إني أكون مع هؤلاء المحتسبة، فندخل على هؤلاء ونتسلق على الحيطان. فقال: أليس لهم أبواب ؟ قلت : بلى ولكن ندخل عليهم لئلا يفروا، فأنكره إنكاراً شديداً وعاب فعلنا، فقال رجل: مَنْ أدخلَ ذا؟ قلت: إنما دخلت إلى الطبيب لأخبره بدائي. فانتفض سفيان وقال: إنما أهلكنا أنا نحن سقمى، ونسمى أطباء! ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كن فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى. وقد أقر الإمام أحمد بن حنبل كلام الثوري.
ولأن الحماسة والجهل قد تغلب على بعض القائمين على النهي عن المنكر مما قد يوقعهم في مزالق خطيرة؛ اهتم العلماء ببيان ضوابط وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد وقفت على مخطوطةِ كتابٍ لأحد علماء السادة الشافعية في القرن الثامن الهجري، وهو العلامة ولي الدين محمد بن أحمد العثماني الشافعي، المتوفى سنة 774هـ، وكان صديقاً للعلامة تاج الدين السبكي [وقمت بتحقيقها وهي معدة للنشر الآن، ولله الحمد].
ففي كتابه هذا يتحدث العثماني عن سبعة أمور يجب على القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجنبها، كما تحدث عن بعض أمراض القلوب التي تصيب القائمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد له من اجتناب سبعة أمور:
1-إنكار الأفعال التي اختلف الفقهاء في تحريمها، فلا يجوز أن يُنكرَ إلا الفعلُ المجمعُ على تحريمه، أما ما اختلف فيه العلماء فلا يجوز إنكاره. وعندما ألّف أحد الفقهاء كتاباً سماه: كتاب الاختلاف؛ قال له الإمام أحمد بن حنبل: لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه: كتاب السعة. ولهذا قيل عن إجماع العلماء أنه حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وقال الإمام يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا.
وهذا يتطلب أن يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عالماً بما يأمر به وما ينهى عنه؛ حتى لا يقع في محذور القول على الله بغير علم فينكر ما فيه خلاف أو شبهة، بل يجب أن يقف ولا ينكر إلا ما أجمع العلماء على تحريمه، ومن لطائف قول العلماء أنه: إذا زاد علم المرء قلّ إنكاره.
وذكر الإمام الغزالي أنه يشترط في إنكار المنكر أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكل الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار. أما سفيان الثوري فقال: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اُختلِفَ فيه و أنت ترى غيره فلا تنهه. وقال أيضاً: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به. أما الإمام النووي فقال: إن العلماء إنما ينكرون ما أُجمعَ على إنكاره، أما المُختلف فيه فلا إنكار فيه. كما ذكر قاضي القضاة الماوردي، الفقيه الشافعي، أن من قلده السلطان الحسبة لا يجوز له إنكار ما يراه منكراً إذا كان مباحاً في مذهب آخر.
ولا يختلف موقف فقهاء الحنابلة عن هذا، فقد قال الإمام أحمد: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم. وقال مهنا سمعت أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده. ويذكر العلامة ابن قدامة الحنبلي أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وكذلك العلامة ابن مفلح الحنبلي، تلميذ ابن تيمية، يقول: لا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهداً فيه. ونسب ابن مفلح هذا الرأي لفقهاء الحنابلة.
وإذا أخذنا مثلاً على هذه المسألة مسألة كشف المرأة وجهها، هل يجوز فيه الإنكار (لمن يقول بوجوب تغطية الوجه) أو لا إنكار فيه؟ نجد فقهاء الحنابلة والشافعية وغيرهم يقولون إنه لا يصح الإنكار في هذه المسألة، فلما ذكر العلامة ابن مفلح الحنبلي مسألة: هل يسوغ الإنكار على النساء الأجانب إذا كشفن وجوههن في الطريق؟ قال: هل يشرع الإنكار ؟ [الجواب] ينبني على الإنكار في مسائل الخلاف، فأما على قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم أن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة، فلا ينبغي الإنكار.
2-سوء الظن بالمسلم، فالمؤلف يذهب إلى أنه لا يجوز إنكار فعلٍ أو قولٍ له وجهٌ في الحل، بل لا بد من حمله على هذا الوجه ولا يُصدف عنه إلا لقاطع. وأنه لا تجوز المبادرة لاتهام شخص دون برهانٍ قاطع، وختم المؤلف بقوله: "وكم وقعنا في تهمة بريء، نستغفر الله تعالى من ذلك، ونعوذ به من أن نعود لمثله أبداً".
3-التجسس على الشخص لاستعلام جلية أمره، فلا يجوز إنكار إلا المنكر الظاهر من غير تجسس، لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: (من رأى)، ولم يرتب الإنكار على شيء آخر غير الرؤية كغلبة الظن أو حتى العلم فلم يقل: من ظن منكم وجود منكر، أو من علم منكم بوجود منكر فلينكره. واعتماداً على هذا الفهم للحديث ذكر العلماء أنه لا يجوز للمحتسب أن يكشف شيئاً مغلقاً، ولا يتسور بيتاً، ولا أن يفتش شخصاً ليبحث عن المنكر. وأشار المؤلف إلى ملاحظة ذكية وهي أن التجسس وتتبع عورات الناس يؤدي إلى الفساد أكثر من كونه إصلاحًا واحتج بقول الله تعالى: {ولا تجسسوا}، وبما روي عن معاوية أنه قال: سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنك إذا تتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدتَ أن تفسدهم"، قال أبو الدرداء: كلمةٌ سمعها معاوية من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نفعه الله تعالى بها". وهذا الشرط اتفق عليه العلماء، فقد ذكر الإمام الغزالي أنه يشترط في إنكار المنكر أن : "يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس، فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، وقد نهى الله تعالى عنه،... روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه فقال وما هي فقال قد قال تعالى ولا تجسسوا وقد تجسست وقال تعالى وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت من السطح وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وما سلمت فتركه عمر وشرط عليه التوبة".
واشترط العلماء في المنكر أن يكون موجوداً في الحال، أي فلا يجوز إنكار المنكر قبل فعله أو بعد الانتهاء منه، قال الإمام الغزالي تعليقاً على اشتراط العلماء أن يكون المنكر موجوداً في الحال: "وهو احتراز عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر، فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر، واحترازاً عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يُعلم بقرينة حاله أنه عازم على الشرب في ليلته، فلا حسبة عليه إلا بالوعظ، وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً، فإن فيه إساءة ظن بالمسلم، وربما صدق في قوله، وربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق". والملاحظ اليوم على القائمين على النهي عن المنكر أنهم شغلوا أوقاتهم وضيعوا مجهودهم في إنكار الأشياء المختلف فيها والتجسس على الناس سواء ممن كان في موضع شبهة أو لا، ولكنهم غفلوا عن المنكر الجلي الظاهر المتفق على تحريمه كالتحرش بالنساء والأطفال واستغلالهم، أو إيذاء الناس والتعرض لحُرمهم.
4-هتك ستر الله على الشخص، وذلك بفضحه والإنكار عليه علناً. والواجب أن الإنكار يكون في السر والستر على الشخص في الجهر.
5-تصديق الوشاة في اتهامهم للأشخاص، فلا يجوز قبول اتهام شخص لآخر بأنه وقع في منكر؛ بل لا بد من المبادرة إلى تكذيبه ولو كان الواشي ثقةً عدلاً في نفسه. واحتج المؤلف بقوله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين}، وقال العلامة الزمخشري تعليقاً على هذه الآية: "وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه، بناءً على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إفك مبين. هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قلَّ القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه". كما استدل المؤلف بما رواه أبو داود في سننه، عن دخين قال: كان لنا جيران يشربون الخمر فنهيتهم فلم ينتهوا، فقلت لعقبة بن عامر: إن جيراننا هؤلاء يشربون الخمر، وإني نهيتهم فلم ينتهوا وإني داعٍ لهم الشرط. فقال: دعهم. ثم رجعتُ إلى عقبة مرة أخرى، فقلت: إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر وإني داعٍ لهم الشُرَط. فقال: ويحك دعهم، فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ رأى عورةً فسترها كان كمن أحيا موؤدة. فقارن بين هذا التوجيه الإسلامي وبين ما يفعله بعض المنتسبين إلى الحسبة من تصديق بلاغات مجاهيل أو وشاة؛ فيقتحمون البيوت ويهتكون الحُرَم، ويفسدون ولا يصلحون.
6-عدم الاقتناع إذا أنكر شخصٌ وقوعه في المنكر، فالمؤلف يرى وجوب قبول كلام الشخص إذا أنكر وقوعه في المنكر (وذلك من دون التحري عن جلية الأمر)، بل لا بد من الفرح بذلك، والأفضل أن يلقن المتهم الإنكار؛ ائتساءً بالنبي، صلى الله عليه وسلم عندما كان يلقن بعض الأشخاص الإنكار، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم، كانوا يلقنون الإنكار لمن ارتكب جرماً (كالسرقة): أسرقت؟ قل: لا.
7-سلقُ المسلمين بألسنةٍ حداد وشتمهم وتعييرهم والدعاء عليهم، فالشدة والغلظة على من وقع في المنكر من إعانة الشيطان على الشخص، واحتج المؤلف بقصة الرجل الذي كان يشرب الخمر ويؤتى به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الصحابة: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به. فنهره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: لا تعينوا الشيطان على أخيكم.
ثم ذكر المؤلف أصنافاً من القائمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنهم زاغوا عن الحق في أنفسهم وفي طريقتهم، ومنهم:
الجاهلون بحقيقته، ممن لم يمارس علماً ولا دارس عالماً، وهذا يستلزم أن يتحصل أعضاء الهيئات على حدٍ أدنى من العلم يؤهلهم للقيام بمهتهم.
ومنهم: متبعو الهوى، المزخرفون للقول بتسميته أمراً بمعروف ليجذبوا الخلق بذلك إلى ما هم عليه من سوء الخلق، وهذا صحيحٌ ملاحظ من كثير من القائمين على النهي عن المنكر في زماننا هذا.
ومنهم: متبعو الوجاهة والشهرة، وأن يراهم الناس بعين التعبد والغيرة لله، تعالى، ولدينه، والنصيحة والشفقة على خلقه، وهذا صحيح فتراهم يبالغون يتجاوزون الحد المشروع من الإنكار ليقول الناس عنهم المحتسب فلان، أو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.
ومنهم: المشغوفون بحب الأمر والنهي، والاستعلاء على الخلق والتأمر بمثل ذلك لعجزهم عن نيل الإمرة الحقيقية، فكم دخل في الهيئات ممن قصده إيذاء الناس والاستعلاء عليهم، مما هو مشاهد ومعاين ومحسوس!
وختاماً: فمع أن مؤلف الكتاب كتبه قبل قرابة سبعمئة سنة إلا وكأنه كتبه لنا ولزماننا اليوم، ولعل المسؤولين في الهيئات أن يتواضعوا قليلاً للنقد وأن يُظهروا للمجتمع أنهم دعاة إصلاح لا تسلط، وأنهم يعملون لحماية الحريات لا للتضييق عليها. وسيكون إعلانهم عن برنامج إصلاح شامل هو الخطوة الأولى للإصلاح، وذلك بإعادة تأهيل الأعضاء (أو من يقبل منهم التأهيل)، والتركيز على المنكرات المجمع على تحريمها الظاهرة للعيان من دون تجسس، وأن لا يتجاوزوا الرفق في إنكارهم بأي حال من الأحوال.
كاتب سعودي، المشرف العام على موقع جدل.