كتَّاب إيلاف

هل الشيعة معتزلة حقّاً أم العكس؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في تفسير العلاقة بين الأمر الالهي وقدرة الانسان على الفعل، ربط المعتزلة بين علوم الكلام وعلم الفلسفة لتمييز تجربتهم التوحيدية واصولهم الخمسة التي ذكرنا (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر).
هذا التوجّه الفكري التحليلي لمفهوم التوحيد هو الذي أسّس مبدأ نفي الصفات عن الذات الالهية بعيداً عن أمور التشبيه والتجسيم اللذين يقول بهما خصوم المعتزلة. فالإقرار بوحدانيّة الله عندهم كما هي عند المذاهب كافة، لكنّهم يختلفون عن السلفيين الذين أقروا بتركيب الذات الالهية بعدد من الصفات. أي انّ مفهوم الكلّية عند المعتزلة مكتمل وبسيط، ويعني انّ الوحدانية هي كلٌّ يشتمل كلّ الاجزاء، ولا يمكن مقارنة ذات الله بتراكيب اخرى تستكمل كينونته - وكأنّه يشكو العوز إلى صفاتٍ اخرى مكمّلاتٍ له - كما فعل السلفيّون. فهو واحد مكتمل وليس مثله شئ.
هذا القول يعني ايضاً من زاويةٍ اخرى ان تعدّد صفاته تؤشر الى عدم الإقرار بوحدانيته ضمناً لانّ الوحدانية تساوي الكلّية التي لا تحتمل التعدّد أو التركيب أو الإضافة، لا مضموناً ولا عدداً.
بهذا الوضوح نفى المعتزلة كل مقولات السلفيين حول شخصنة الإله وصفات التشبيه والجهات والأبعاد وسواها، واعتمدوا تحكيم العقل في إقرار الوحدانية، مدعّمين بالآيات القرآنية وقدرة العقل الإنساني على الحكم، فالآية القائلة (ليس كمثله شئ) 11من سورة الشورى ومثيلاتها في القرآن، تحرّض العقل البشري على الفصل بين الامور، وهي التي استند اليها المعتزلة في تعزيز توجّههم الفكري، بينما أعتمد السلفيون ظواهر الآيات ومداليلها الحرفيّة في البرهنة على شخصنة الخالق وصفاته الملحقة. وهنا ايضاً حلّل المعتزلة لغويّاً وعقليّاً الآيات التي اعتمدها السلفيون، وأبعدوا عنها مداليلها الظاهرة في الألفاظ عن معانيها الشكليّة، ومنحوها معانٍ أكثر عمقاً ودلالةً ومجازاً.
فاستوائه على العرش مثلاً لا يعني الكرسي أو المكان كما عند السلفيين، بل هو الرفعة والسمو والإجلال. وعيون الباري ويديه، لا تثبت أعضاء جسده كما عند الانسان، بل تعني قدرته واستطاعته ورعايته لعباده. يعنون بذلك الآيات الحروفيّة الدلالة التي اوردها السلفيون، والتي منها (الرحمن على العرش استوى) 5 من سورة طه، و (يد الله فوق أيديهم) 10 من سورة الفتح، و (تجري بأعيننا) 14من سورة القمر، وغيرها.
الخلاف الأكبر الآخر والقائم حتى اللحظة بين أصحاب النظر العقلي للنصوص وبين أصحاب نظريّة - السلف الصالح - كامن في قول السلفيين بأن القرآن مخلوق منذ القدم وانّ الله قد خلق الكلام فيه، بينما قال المعتزلة بأن القرآن مخلوق في زمنه وليس بقديم. ويشير أحمد أمين في كتابه الهام (ضحى الاسلام) بأنّه لو افترضنا بأزليّة وقِدم القرآن، فإن ذلك لا ينافي فقط مفهوم التوحيد عند المعتزلة، بل يخالف عقلانيّة التشريع الاسلامي ذاته! اي يقول - أمين - كما قال المعتزلة بأنّ هذه الأزلية تعني ايضاً أزليّة الأوامر الواردة في القرآن، اي انّها صدرت قبل وجود البشر الذين سيتكلّفون بها! اي قبل وجود المأمورين، اي انها كانت دون مضامين!
فهل من المعقول ان يوجّه الله أوامره الى اللاشئ؟
ويضيف أحمد أمين: لايجوز هذا النوع من العبث مع الله، بل محال. فلكي يتحقق الكلام فهو بحاجةٍ الى تحقيق شرط وجوده، اي بحاجةٍ الى مكلِِّم ومكلًَم، فكيف يكون ذلك قبل وجود المأمورين، اي وجود المتكلِم فقط من دون مكلًم؟ وهنا يكون القول بأزليّة القرآن نفياً لعقلانيّة التشريع، وهو باطل. 1
بينما دعّم اصحاب المنهج العقلي آراءهم هنا بالكثير من النصوص، التي منها قوله (إنّا أنزلناه) 3 من سورة الدخان، التي توضح ان القرآن حادث منزل وليس أزليّاً، لانّ الازليّ لا يُنزل. وكذلك قوله (كتابٌ اُحكمت اياته ثمّ فُصّلت) 1 من سورة هود، التي تشير الى عدم ازليته وبانّه مؤلّف من اجزاء، واُنزل على دفعات، وايضاً في قوله (ما ننسخ من ايةٍ أو نُنسها نأت بخيرٍ منها) 106 من سورة البقرة، فالنسخ يعني التغيير، والأزلي لايمكن ان يتعرّض للتغيير.
كما نفوا مسألة رؤية الله بالعين المجرّدة يوم القيامة - كما يقول السلفيون - لانّ هذه المقولة تستوجب الصفات الجسميّة للخالق، اي ان تكون له أذرع وعيون وجهة ومكان وزمان وغيرهاوان كل ماجاء في هذا الصدد من مداليل في ظواهر الآيات هي دلالاتٍ مجازيّة رمزيّة لاتعني اكثر من الترقب والانتظار ورجاء المغفرة.
ماجاء به المعتزلة وعملوا عليه كان انتفاضة فكرية شاملة سياسياً واجتماعياً وانسانياً، وكانت استنتاجاتهم رسالة عقلانية محوريّة في الاسلام، ميّزت الاسس الفكرية لعقيدة المسلمين. بمعنى انّهم قدّموا العمق الانساني الاجتماعي للاسلام الذي يتبنّاه السواد الاعظم من الناس، مقابل الصياغة السلفيّة الظاهريّة التي تبنّتها السلطة الحاكمة وأتباعها وأجهزتها الاعلامية.
اي انّهم فصلوا بين ايديلوجية الشريحة الاوسع من المسلمين الذين هم بحاجة الى ميزان العقل في تحكيم الأمور الخلافيّة وبين شريحة السلطة ونظرتها التبريرية المناقضة للرؤية الاولى. اي بين انفتاح الافق أمام طاقة العقل البشري في ميادين البحث والتفكير والكشف والمعرفة، مقابل إنكفاء الطرف الاخر أكثر فأكثر نحو رؤيةٍ سلفيّة مغلقة، على مفاهيم ظاهريّة ضيٌقة ومحدودة في أفقها المعرفي، وفق مقتضيات ما رسمته سلطة الحاكم بقوّة السيف والمال.
سُمّوا المعتزلة ب (أهل التوحيد) لانهم ميّزوا رؤيتهم لمفهوم العدل الإلهي، وسُمّوا ايضاً (أهل العدل) لانهم ربطوا بين الأمر الإلهي والفعل الانساني كصورةٍ لهذا العدل. اي انّ ما سيفعله او سيختاره المسلم سيكون ثواباً أو عقاباً وجزاؤه من الله، وهي معادلة منطقيّة بسيطة تعتبر ان الشرّ لا يأتي من عند الخالق بل من فعل الانسان ومن اختياره لافعاله. بينما يرى السلفيون ان الله مالك كل شئ وعالم بكل شئ ومتصرّف بكل شئ، وهو الذي يُعيّن مواقع الاستبداد والظلم على مقتضى علمه ومشيئته، وعدل الإله يتحقّق بفعله مايشاء وحكمه بما يريد، وما على العباد سوى التسليم بأمره هذا والايمان بمشيئته وعدله. هنا نقول: انّ هذه الصيغة الفضفاضة والحازمة هي بذات الوقت مدخل تاريخي خطير برّر به أهل السلف - الصالح - مقولة عدم إشتراط توفرّ العدل والانصاف في شخصيّة خليفة المسلمين وإمامهم، بينما رأى اصحاب المنهج العقلي اشتراط صفة العدل في الخليفة، ليكون إماماً يتقبّل منه المسلمون بعدها العقوبات الشرعيّة، والاّ كيف يمكن ان يكون خليفةً وقائداً جائراً وغير عادل، ونتقبّل منه بذات الآن نفاذ حكمه الاسلامي فينا؟؟
هذا الربط المنطقي بين مفهوم عدل الخالق في رسالة الاسلام، والعدل الواقعي الانساني على الارض، مرتبط بقدرة المسلم على اختيار افعاله، وهو ما يستوجب الشخصيّة الانموذج والقدوة الاجتماعية الواقعية لمكانة الحاكم العادل أو القائد أو الإمام أو الخليفة.

هل الشيعة معتزلة أم العكس؟

يقول بعض الباحثين العرب والمستشرقين أن الشيعة أخذوا أصولهم وأفكارهم الأساس من المعتزلة، كما يتّهم السلفيون أهل الشيعة بأنّهم تأثّروا بالمعتزلة وأخذوا منهم وأصبحوا مثلهم.
نرى هنا ان هذه الاتهامات ميزة ايجابية وإطراء دون قصد، حيث يُنسب الى الشيعة انتسابهم الى أول منهج فكري علماني عقلاني في تاريخ الاسلام، اما المستشرقون فعادةً مايبحثون في تاريخنا برؤيةٍ أحاديةٍ مسبقة الاغراض، بينما تاريخ نشأة التشيّع يشير بيسر الى ان جذوره الاولى تمتّد الى الاصول والمنهج الفكري الذي صاغه عليّ بن أبي طالب، وهو أقدم بكثير من تاريخ نشأة المعتزلة. ولكن بلى، يلتقي الشيعة مع المعتزلة في أهمّأصلين بينهما الا وهما العدل والتوحيد، ويفترق الشيعة عنهم بالأصل الذي ميّز المعتزلة وهو المنزلة بين المنزلتين. ويقول الشيعة ان المعتزلة هم من أخذ مفهوم العدل والتوحيد من خطب واقوال عليّ بن أبي طالب ويستندون بذلك الى مقولة الكعبي في القرن الرابع للهجرة - وكان إمام المعتزلة حينئذٍ -: (للمعتزلة ومذهبها إسناداً يتّصل بالنبي وليس لاحدٍ من فرق الامّة مثلها، وليس يمكن لخصومهم دفعهم عنها، وهو أن خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يُسند الى واصل بن عطاء، وانّ واصل يُسند الى محمد بن علي بن أبي طالب، وابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي، وانّ محمداً أخذ عن أبيه، وانّ عليّاً أخذ عن رسول الله). وروي انه سُئل: كيف كان علم محمد بن علي؟ فقيل: انظر الى أثره في واصل. ويورد ابن المرتضى في أماليه (إعلم ان اصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام علي بن أبي طالب وخطبه..) وقال ابن أبي الحديد (اشرف العلوم هو العلم الإلهي، وان شرف العلم بشرف المعلوم... ومن كلام عليّ قد اُقتبس، وعنه نقل، ومنه ابتدأ واليه انتهى، والمعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر، ومنهم تعلّم الناس هذا الفن هم تلامذته وأصحابه، فكبيرهم واصل بن عطاء هو تلميذ أبي هاشم، وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد بن الحنفيّة، وأبوه تلميذ أبيه عليّ). ويرد ان ابو سعيد بن نشوان الحميري المتوفّى عام 573 للهجرة قوله: (ان لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي محمد، وليس لأحدٍ من فرق الأمّة مثلهم). 2
يستدلّ المؤرّخ أحمد أمين على ان الشيعة أخذوا تعاليمهم من المعتزلة، ويشير الى انّ زيد بن عليّ - مؤسّس الفرقة الشيعية الزيدية - قد تتلمذ على يد واصل، وان جعفر الصادق الذي سُمّي باسمه مذهب الشيعة الإثني عشريّة، قد كان على صلةٍ بزيد بن عليّ وهو عمّه.
العديد من الباحثين يأخذون على أحمد أمين استبعاده لفكرة تأثّر المعتزلة بخطب واقوال بن ابي طالب، ويؤكّدون ريادة آل البيت المشهودة بعلم الكلام والبلاغة والجدل منذ صدر الاسلام. ويتساءلون في ذات الصدد: إن كانت مقولات الحق والعدل وإرادة الانسان بأفعاله هي التي عرّضت المعتزلة وجمهورهم الى أشرس انواع الإبادة والإلغاء والتشويه والتكفير على يد خلفاء بني اميّة وبني العبّاس وفقهاء الحكّام، فإنّ ذات الاسباب والمقولات قد عرّضت أئمّة الشيعة وأتباعهم الى حملات من الإبادة والتشويه قد تفوقها مأساويةً عبر مراحل التاريخ، على يد ذات السلطة السياسية، وهو ما دعا كاتب كالأصبهاني لأن يخصّص مؤلَفاً باكمله يتناول فيه سيرة من أُبيدوا واغتيلوا وقُتلوا من أئمّة آل البيت وأبناءهم من الشيعة، وسمّى الكتاب (مقاتل الطالبيين) نسبةً الى علي بن أبي طالب.
أقرّ بعض شيوخ المعتزلة بانّهم قد أخذوا اصولهم عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وفي كتابه (طبقات المعتزلة) يضع المؤلف ابن المرتضى مرتبة عليّ بن أبي طالب في الطبقة الاولى من المعتزلة، والحسن والحسين في الثانية، وبعض ائمّة آل البيت في الثالثة، ويورد أقوالهم في العدل والتوحيد وفي الاصول والعقائد. فكيف وقع المؤرّخ أحمد امين بما وقع به المستشرقون بربطهم بين الثقافة الشيعية والأصول المعتزليّة؟ وبماذا ناقض المفكّر حسين مروّة في نزعاته المادية آراء المستشرقين وما جاء على ذكره أحمد أمين؟ وهل للشيعة فعلاً دور في نشأة علوم الكلام؟؟


المصادر
1-أحمد أمين، ضحى الاسلام ج3 ص 35 lt; بتصرّف gt;
2-جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل ج3 ص 187 - 191

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف