الفلسطينيون والنموذج القبرصي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من يصدق أنه مرّت حتى الآن ثلاثة وثلاثون عاما على تقسيم جزيرة قبرص الذي تمّ عام 1974، عقب اجتياح الجيش التركي للشطر الشمالي من الجزيرة الذي تسكنه أغلبية قبرصية من أصول تركية، لتصبح تلك الجزيرة الصغيرة (9251 كيلو متر مربع) مقسمة إلى دولتين : جمهورية شمال قبرص التركية (3555 كيلو) لا تعترف بها إلا دولة تركيا، وجمهورية قبرص اليونانية (5696 كيلو) تعترف بها كل دول العالم - ما عدا تركيا - على أنها هي جمهورية قبرص الوحيدة المعترف بها دوليا والعضو في هيئة الأمم المتحدة. عندما وقع ذلك التقسيم ظنّ العالم أنه مجرد وقت قصير حيث يتم حل المشاكل العالقة بين الشطرين وعودة الوحدة للدولة القبرصية، فإذا هذا الوقت يمتد ثلاثة وثلاثين عاما ويصوت القبارصة اليونانيون عام 2004 في استفتاء شعبي ب (لا) لعودة الوحدة بين الشطرين مما يعني أن هذا التقسيم أصبح أمرا واقعا، ولكن بدون أي اعتراف دولي بجمهورية شمال قبرص التركية حيث لا خطوط اتصال بينها وبين أية دولة في العالم، حتى أن مواطنيها عندما يريدون السفر لأي مكان في العالم لا يستطيعون ذلك إلا من خلال تركيا وبجواز سفر تركي فلا تعترف أية دولة في العالم بجوازها، والأمر الواقع هذا أصبح دائما بسبب انقطاع التواصل اللغوي، فكافة المواطنين القبارصة الأتراك الذين ولدوا منذ عام 1974 أي أنهم في سن الثالثة والثلاثين اليوم لا يجيدون اللغة اليونانية وبالتالي لا يمكنهم التواصل مع سكان الشطر الجنوبي، وبعد حوالي أربعة عقود لن يبقى حيّا في الشطر الشمالي أي مواطن يجيد اللغة اليونانية وبالتالي فلا عودة مطلقا للوحدة والدولة القبرصية الواحدة.
قفز النموذج القبرصي هذا للذاكرة استمرارا لتفكيري في الحدث الفلسطيني الذي عبرت عنه منذ أسابيع قليلة في مقالتي (إمارة حماس في غزة ودويلة فتح في رام الله : واقع فلسطيني قائم لسنوات طويلة)، فهل في هذا الواقع الفلسطيني بعض الملامح القبرصية التي أشرت إليها ؟. أنا أميل لهذا الرأي اعتمادا على تاريخ تعاطي التنظيمات الفلسطينية مع القضية الفلسطينية، حيث كانت هذه التنظيمات جميعها لا تفكر في مستقبل القضية بقدر تفكيرها في امتيازاتها الخاصة وأوضاع عناصرها وقياداتها الانتهازية لحد كبير بدليل الشواهد التالية من سجل هذه التنظيمات:
أولا: لا يستطيع مؤمن بالقضية الفلسطينية وغيور على شعبها أن يفهم وجود ما لا يقل عن عشرين تنظيما فلسطينيا منذ عام 1965 أغلبها امتدادات وانشقاقات من تنظيمي (حركة فتح) و (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، ومن عاش في أوساط هذه التنظيمات يعرف بشكل مؤكد أن أغلب هذه التنظيمات كان مجرد (ظاهرة بيانات) في المناسبات فقط، فلم يحدث مطلقا أن كان لهذه التنظيمات أجهزة عسكرية أو أن تكون قد أطلقت رصاصة واحدة على الاحتلال الإسرائيلي، والمضحك أن أغلب هذه التنظيمات كانت تعيش على الفتات الذي يرميه لها ياسر عرفات خاصة في مرحلة (جمهورية الفاكهاني اللا ديمقراطية) مقابل ضمان تصويتهم ومباركتهم لكل المواقف السياسية التي يريدها أو يتخذها، وقد أثبتت حرب فتح حماس الأخيرة صدق هذا الرأي فقد كانت كل هذه التنظيمات متفرجة لا تقدم ولا تؤخر تماما مثل أي مواطن فلسطيني في دولة أوربية نائية، بما فيها تنظيم كحركة الجهاد الإسلامي فالكل وقف موقف المتفرج لا يهش ولا ينش، وبالتالي فهم مجرد أرقام ونضال بيانات صحفية في المناسبات فقط، مما يؤكد أن اللاعبين الأساسيين في ملعب كرة القدم الفلسطينية هما فريق حماس ذو اللون الأحمر وفريق حركة فتح ذو اللون الأصفر، ويركلان بعض بشجاعة وغالبا ينتصر أي فريق منهما على الآخر بالضربة القاضية وليس بالنقاط على أساس أنهما يخلطان بين قواعد لعبة القدم ولعبة الملاكمة، تماما كالخلط الحاصل في برامجهما السياسية.
ثانيا: الدليل على ما سبق وما هو أسوأ منه أن هذه التنظيمات في غالبيتها أثبتت بالدليل الأحمر أن الدم الفلسطيني ليس خطا أحمر كما تدّعي بدليل حربي المخيمات في لبنان عامي 1985 و 1987 التي سقط فيها بالرصاص الفلسطيني ما لا يقل عن ثلاثة ألاف قتيل، والتصفيات التي كانت تقوم بها المنظمات ضد بعض في مرحلة جمهورية الفاكهاني، وأخيرا الحرب المجيدة بين حركتي حماس و فتح التي سقط فيه طوال العام والنصف الماضيين ما لا يقل عن ستمائة قتيل فلسطيني، وأبدت الحركتان فيها من الشجاعة والبطولة والصمود ما لم يبديانه أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي كان وما يزال يسرح ويتجول في القطاع والضفة ويغتال ويعتقل ويهدم دون ظهور لواحد من صناديد فتح وحماس الذين واجهوا بعض بتلك الشجاعة. و لا يستطيع أحد أن يذّعي أن تلك الحروب والمواجهات كانت من أجل التحرير أو تحسين شروط مواجهة الاحتلال بدليل أن حماس نفسها منذ تشكيلها الحكومة الفلسطينية في يناير 2006 لم تطلق رصاصة واحدة ضد الاحتلال، وتستمر في عروضها الهدنة مع دولة إسرائيل مرة لعشر سنوات ومرة لستين سنة، وتضيع مواقف الحركة بين حماس الداخل برئاسة إسماعيل هنية وحماس الخارج بقيادة خالد مشعل، والغائب الوحيد عن المشهد هو مواجهة الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
يضاف إلى السلوك اللا وطني لهذه التنظيمات خصوصيات تساعد على الاستفراد والانقسام الحاصل في المشهد الفلسطيني بين القطاع والضفة، ومن أهم تلك الخصوصيات :
أولا : عدم التواصل الجغرافي بين القطاع والضفة بسبب عدم وجود حدود مشتركة، وهذه الخصوصية منذ عام 1948 حيث استمر قطاع غزة (360 كيلومتر مربع) تابعا للإدارة العسكرية المصرية، والضفة الغربية (5760 كيلو متر مربع) أصبحت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية حتى عام 1967 عندما احتلت إسرائيل القطاع والضفة،لتصبح فلسطين كاملة تحت الاحتلال الإسرائيلي، علما أن القطاع والضفة يشكلان فقط 23 في المائة من مجموع مساحة فلسطين التاريخية، وضمن هذه التقسيمات والتعقيدات لم يكن سهلا التواصل بين فلسطينيي القطاع والضفة، لذلك بقيّ سكان القطاع إلى حد ما مرتبطين بمصر بما فيها مناهج التعليم والمقررات والكتب الدراسية، بينما سكان الضفة مرتبطين بالأردن في ذات الأمور، مما جعل تكوين النفسية والعقلية والسلوك مختلفا، لا يمكن دحض ذلك بهدف تحرير فلسطين فهذا الشعار لم يمنع ارتكاب المجازر من فلسطينيين ضد فلسطينيين كما ذكرت في شواهد على ذلك.
ثانيا : تمسك كل طرف بموقفه بعد انقلاب حماس الأخير الذي مكّنها من السيطرة الكاملة على القطاع، مقابل سيطرة حركة فتح على الضفة، وما أسميته (الطلاق البائن) بين الحركتين، فحماس تطالب بالحوار وفتح ترفض الحوار وقد كانت شروط محمود عباس واضحة لعودة حماس إلى بيت الطاعة وهي الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وكافة مؤسساتها، وحماس لن تعترف بذلك وهي غير ممثلة في المنظمة ومؤسساتها، ثم شرط الاعتراف بالسلطة الفلسطينية والاتفاقيات التي وقعتها مع إسرائيل وهذا ما لن تعترف به حماس، لذلك فحالة الطلاق القائمة ضمن المعطيات السابقة ستكون حالة طلاق نهائي لا رجعة فيه و لن تجدي أية وساطات، خاصة أن السلطات المصرية والسعودية لم تعودا متحمسة للوساطة بين الحركتين بسبب الغدر الذي واجهت به حماس الوساطة المصرية وتنكر الحركتين لاتفاق مكة قبل أن يجف حبره، وفي هذا الدليل على أن الحركتين لا تقيمان وزنا لا لقضية شعبهما ولا لوساطة الدولتين اللتين طالما بذلتا ما في وسعها لدعم السلام بين الأشقاء الأعداء في حين أن هؤلاء الأشقاء مستمرين في قتل بعض والاستفراد بالسلطة كل في إقطاعية يعتبرها ملك له بالوراثة غير المشروعة ولا الشرعية.
والدليل على هذا الطلاق النهائي تصريحات كل طرف ضد الآخر، فهذه التصريحات لم تترك للصلح مكانا، لأن هذه التصريحات تركز على خيانة وعمالة كل طرف فإذا كافة هذه القيادات من الخونة والجواسيس والعملاء، وقد كانت تصريحات الناطق الرسمي في الضفة جمال نزال واضحة، فقد صرّح صباح السبت الثامن والعشرين من يوليو الماضي : (أن حساب حركة حماس قادم لا محالة)، وهو نفسه الذي صرّح في رام الله يوم الحادي عشر من يوليو الماضي أيضا حرفيا : (إنه على الرغم من عدم وجود هامش عسكري للسلطة الفلسطينية ضد حماس في غزة، إلا أن هناك هامش لتحرك سياسي و مالي أمام الرئيس محمود عباس)، وهذا التصريح واضح في أن انعدام الهامش العسكري أمام حركة فتح سببه عدم وجود حدود مشتركة بين القطاع والضفة و إلا لكانت تحركت قوات فتح والسلطة بعد إعدادها وتجهيزها عسكريا لإنهاء انقلاب حماس بنفس الأساليب العسكرية، وربما من حسن حظ الشعب الفلسطيني عدم وجود امتداد جغرافي بين القطاع والضفة و إلا لاستمرت حروب فتح حماس إلى أجل غير معروف، ويؤكد جمال نزال في تصريحه استمرار الحرب والمواجهة مع حماس بأساليب أخرى إذ أكدّ (أن حركته ستواصل محاربة حركة حماس في قطاع غزة عبر الضغط السياسي والمالي وذلك بعد أن فشلت حركة فتح في هزيمتها عسكريا في حرب السيطرة على المقرات الأمنية وهروب عناصر الأجهزة وسيطرة حماس على غزة). وفي الأيام الأخيرة بدأت تطبيقات انقسامية واضحة مثل منع الصحف الصادرة في الضفة الغربية من التوزيع في قطاع غزة، ووقف كل برامج التلفزيون الفلسطيني الرسمي من البث من القطاع، و أساسا فإن تلفزيون الأقصى التابع لحماس يبث من القطاع فقط، وهكذا فالشعب الفلسطيني يواجه يوميا رسالتين سياسيتين متناقضتين من الألف إلى الياء، السياسة التي يعبر عنها تلفزيون السلطة في الضفة، والسياسة التي يعبر عنها تلفزيون حماس من القطاع، ومع استمرار هذا التوجيه والقولبة الإعلامية يبتعد المزاج الجماهيري في القطاع عنه في الضفة، يضاف له منع أية نشاطات لأية حركة في إقليم سيطرة الأخرى.
هل نحن أمام ملامح قبـّرصة؟
أنا لا أتمنى ذلك ولا أدعو له وما أكتبه ليس جلدا للذات بقدر ما هو بكاء على الذات التي تقتل ذويها ببشاعة أكثر من بشاعة الاحتلال، وربما تكون هكذا صراحة في الطرح تحذيرا لتلك القيادات أن تصحو من غفلتها، فسياساتها هذه لا تبشر سوى بوهم دويليتين يتمتع فيها أولئك الأمراء بامتيازاتهم الشخصية والتنظيمية، والغائب الوحيد هو الدولة الفلسطينية الحقيقية المستقلة والخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني.
ahmad64@hotmail.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية