كتَّاب إيلاف

قراءة في كتابات بول بالتا عن إيران

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

معالم للحداثة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية

كان "بول بالتا" مراسلا لصحيفة "لوموند" الفرنسية في إيران أثناء قيام الثورة الإيرانية وذلك من أيلول 1978 حتى نيسان 1979، هذا الحدث كما يقول مراسل "لوموند" آنذاك:" كان علامة فارقة في حياتي المهنية وحتى في حياتي التي أوشكت أن أنهيها ثلاث مرات في طهران، ما بين 10 و 12 شباط". يؤكد أيضا "بول بالتا": "أريد و قبل كل

بول بالتا

شيء، و من أجل إضاءة الكتابة عن إيران، أن أقول بأنني رجل يعمل على الأرض، بالمقابل إن أكبر الريبورتاجات التي قمت بها كانت مناسبة لتعميق توثيقي لإيران بهدف نشر المقالات في المراجع العلمية و في كتب مثل كتاب "إيران الثائرة" أو كتاب "إيران/العراق، حرب منذ 5000 عام". نشير هنا إلى أن " بول بالتا" في عام 1987 اختير زميلا في جامعة السوربون الثالثة في باريس ثم أصبح مديرا " لمركز دراسات الشرق المعاصر" في نفس الجامعة.
أعد " بول بالتا" دراسة هامة عن إيران تحت عنوان " مستقبل إيران : الرهانات الإستراتيجية و الاقتصادية" و كان من محاورها الحديث عن الحداثة في إيران. ويرى الكاتب أنه في معظم الأحيان الدراسات حول إيران مخفية تحت الجوانب السلبية بسبب ارتباطها بالمعلومات التي يقدمها الإعلام. يقول الكاتب معلقا على ذلك : " ما هو حداثي هو ما يعمل وفق التكنيك والروح المعاصرة، الحداثة هي تذوق ما هو حديث حتى ولو لم يكن لدينا الوسائل لخلقها أو استيرادها، بالمقابل، الحداثة هي حالة فكرية أو عقلية مؤسسة على البحث، التجديد و الإبداع". ثم يؤكد الكاتب أن تطوير الطاقة النووية المدنية في إيران هو من إحدى تجليات إرادة الشعب الإيراني وليس فقط السلطة في إيران، إرادة تهدف إلى تحديث البحث، العلم والتكنولوجيا.
سنحاول التطرق إلى أهم المحاور التي كتبها " بول بالتا" عن واقع الحداثة في إيران.

1ـ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية
المشروع المنشور في 4 تشرين الثاني عام 1979 و المتبنى بواسطة استفتاء في 3 كانون الأول تم التعتيم عليه في أوربا وحتى في العالم الإسلامي، بسبب حدث آخر : احتلال، وفي نفس التاريخ 4 تشرين الثاني، السفارة الأمريكية في طهران، حتى عملية التحرير، في 20 كانون الثاني 1981، لمجموعة من الدبلوماسيين الرهائن. هذا الدستور يجدد و يحدّث، ليس فقط مقارنة مع التقاليد القائمة في الإقليم و المحيط الإيراني التي نعرفها، على سبيل المثال كما في السعودية حيث لا يوجد دستور، ولكن أيضا على الصعيد النظري. هنا يعود " بول بالتا" ويذكر بأصول و جذور هذه الحداثة:" في الواقع آية الله الخميني أطلعني و أسرّ إليّ أنه رغب في مشاركة من قبل آية الله " محمد باقر الصدر" و الذي يعرفه منذ اللجوء إلى النجف، ولكن رسميا هذه ما طلب من هذا الأخير ومن قبل ( العلماء) اللبنانيين".
محمد باقر الصدر المولود في الكاظمية ببغداد ما بين 1932 و 1935، كان في ذلك الوقت العربي الوحيد من أصل ثمانية مراجع مرخصة من قبل الشيعة. صدام حسين قتله سرا في 9 نيسان 1980. يتمتع بثقافة ضخمة كما يؤكد " بول بالتا" حيث قابله لسعات طويلة ولمرتين في النجف. لقد كان وفق الكاتب، المنظر الإسلامي الوحيد الذي ترجم بمصطلحات سياسية، اقتصادية واجتماعية ما لم يكن بعد إلا تفكيرا لاهوتيا. مترجمه أو مترجم كتاباته " بيير مارتان" يعتبره " رمز الحداثة الإسلامية" و " ركن النهضة الإسلامية".
لقد كتب في مقدمته : " واعيا بالفراغ الفكري الذي يطبع الفكر الإسلامي في العديد من المجالات، لقد جهد في إقامة نظام من الفكر، رمى إلى تأسيس القواعد للنظريات السياسية و الاقتصادية في أماكن حيث الإسلام يظهر كخيار وحيد لحل مشاكل عصرنا " ( من مرجع دفاتر الشرق، العدد 8ـ9، الفصل الأول من عام 1988، باريس).
لم يكتف محمد باقر الصدر بقراءة فقهاء السنة و الشيعة، بل قرأ أيضا كبار مفكري السياسة و الاقتصاديين الغربيين، كما يؤكد ذلك كتابان من كتبه الكثيرة. " فلسفتنا" المنشور في النجف في عام 1959، وهو إجابة بالحجج و الدلائل على الأفكار الماركسية التي كانت سائدة في العراق آنذاك وفي العالم أيضا. أما كتاب"اقتصادنا" المنشور في عام 1960، يشير في مقدمة الطبعة الأولى، أنه لا يوجد علم إسلامي للاقتصاد. الكتاب يضم ثلاثة أجزاء: الأول يفند الماركسية ويدين الشيوعية، الثاني ينتقد الرأسمالية، الثالث يشرح ما يمكن أن يكون نظاما اقتصاديا إسلاميا حديثا و عادلا. ويقول " بول بالتا" أن العديد من آيات الله و المراجع الكبار الإيرانية أكدت له بأنها استلهمت الكثير من مؤلفات محمد باقر الصدر.
أرسل محمد باقر الصدر رسالة إلى الخميني معنونة بالتالي " ملاحظة أولية في الفقه" فيما يتعلق بتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية. نشرت بالعربية و الفارسية، خضعت للنقاش من قبل الشعب الإيراني وكانت المرجع الأساسي الذي استلهمته عملية بناء الجمهورية الإسلامية. إنه يعرّف دور " ولاية الفقيه" ثم يذكر أنه في الديمقراطيات الغربية، السلطة تأتي من الشعب بينما في الإسلام " الله هو المصدر الوحيد للسلطة". مع ذلك، باسم " الاجتهاد" إنه يستند إلى حجة لاهوتية من أجل تبرير أن، في الجمهورية الإسلامية، الأمة، مجتمع المؤمنين، يجب أن يكون هناك " سلطة تشريعية و أخرى تنفيذية".
كتب :" الأمة لديها الحق في ممارسة هذه السلطات، وفق النماذج المقترحة أو المعلن عنها في الدستور. هذا الحق شرعه الله، وهو مصدر حقيقي لكل سلطة، في نفس المعنى حيث الخليفة أخذ مكان النبي، إنه حق بالوكالة. من خلال ممارسة السلطة، الأمة تطور وتنمي مفهومها للمسؤوليات بشكل مهم جدا لأنها تعي بأنها تحكم كممثلة الله على الأرض. كل أعضاء الأمة هم متساوون في ممارسة هذا الحق وكل فرد منها إذا، وفي كل لحظة، يبين رأيه ووجهة نظره بحرية و يمارس النشاط في المجال الذي يريده. أيضا لكل الحق في ممارسة الدين و الطقس الذي يختاره".
إننا نجد هذه الأفكار في الدستور الإيراني المتبنى بواسطة الاستفتاء، وقد جاء في 177 مادة أو مبدأ تشكل هذا الدستور. عامل آخر للحداثة، الإيرانيات هن ناخبات و منتخبات بينما في دول أخرى مجاورة لإيران ليس للمرأة فيها حق الاقتراع. ولكن لابد من القول أن الملالي المحافظين في إيران في السنوات الأخيرة قلصوا من خلال احتيالات قانونية حقوق المرأة، ثم زادوا من سلطاتهم و أكدوا الطابع الثيوقراطي للدولة.( يمكن مراجع كتاب " سيبيده فاركونده"، وسائل الإعلام، السلطة و المجتمع المدني في إيران"، مقدمة بقلم " بول بالتا"، باريس 2002).

2ـ التطور في مجال التعليم
التعليم بكامله تمت أسلمته، لكن سعت الدولة على أن يكون الجميع في المدارس حتى الفتيات وقدمت جهود كبيرة في هذا الشأن وهذا ما يمكن أن نصنفه ضمن مجال الحداثة. بالإضافة لذلك، عدد الطالبات في الجامعات هو 60% ولديهن نتائج أفضل بكثير من الطلاب الذكور. التطور أيضا على الصعيد الديني. في عام 1979، يقول " بول بالتا" : " كرست يومين لزيارة كليات العلوم الدينية في المدن المقدسة "قم" و "مشهد". عدت إليها في عام 1995. رأيت أنها أدرجت العلوم الإنسانية و اللغات الأجنبية من أجل تكوين رجال دين لديهم القدرة على الحوار اللاهوتي و الإيديولوجي و الذي تضاعف في إيران وفي خارجها". واحد من أكثر الحوارات شهرة هو الذي كرس لنظرية ولاية الفقيه وقام به " عبد الكريم سوروش"، ولد في عام 1945، منظر إيديولوجي للنظام، في بداياته كان معارضا وظل حتى نهاية 1980. تفكيره يتركز حول وسائل اقتران الإسلام مع الحداثة ويمكن تصنيفه بأنه " أحد المفكرين الإسلاميين الجدد".( يمكن مراجعة بحث " زياد حافظ"، مجلة المواطن، مرجع حول "حركة المواطن اللبناني"، بيروت، أعداد 32،34،36، 1996ـ 1997. أيضا مراجعة كتاب " رشيد بنزينه"، المفكرون الجدد في الإسلام، باريس، 2004). لم يتردد " عبد الكريم سوروش" في التأكيد أن :" 90% من الفقهاء غير موافقين على مبدأ ولاية الفقيه".
في عام 1995، رئيس تحرير جريدة " كيهان" ( القيم)، يقول "بول بالتا" لخص لي موقفهم بهذه المصطلحات :" الدين هبة من الله. بالمقابل، إنه مفسر من قبل البشر. التفسير البشري يتغير وفق العصور و الظروف : إنه يخضع للتاريخ، المجتمع، الخ. في النتيجة، إذا الدين هو مقدس، الفكر الإنساني ليس كذلك. لدينا إذا الحق بأن لا نكون متوافقين مع نظرية الخميني. نفس الشيء، القرآن، هو كلام الله، ولكن وضعه في التنفيذ كان من قبل البشر : إذا إنه شرعي تحليل الظروف التي في داخلها هؤلاء عملوا، الميل نحو القواعد، دراسة المجتمع في ذلك العصر، مواكبة التطورات". حتى ولو لديه مشاكل مع السلطات كما العديد من المفكرين، إلا أن ما يقدمه مهم جدا وتجاوز بشكل كبير الحدود الإيرانية.
مثال آخر عن " محمد لوجند حسين" ولد في عام 1953، أمريكي كاثوليكي دخل الإسلام في عام 1983، يعلم فلسفة الأديان في " معهد الخميني في قم" منذ 1989. التحليل المقارن بين الإسلام و المسيحية يجذب أكثر فأكثر الطلاب الجدد إلى العلوم اللاهوتية. هنا يؤكد " بول بالتا" أنه كان في عام 1995 شاهدا على حوار في سلسلة من الدروس حول هذا الموضوع منها " فلسفة اللغة عند Ludwig Wittgestein
( 1881ـ 1951) هل يمكن أن تضيء قراءة القرآن ؟ "، طبعا هذا الموضوع لم يكن ليطرح في سنوات 1980.

3ـ الدور الهام للمرأة الإيرانية في المجتمع المدني، عامل آخر للحداثة
في أوربا الصورة التي تسيطر على الرأي العام هي تلك المرأة المغطاة بالسواد و التي نعتقدها امرأة خاضعة. بما أن القانونية و المناضلة في مجال حقوق الإنسان، " شيرين عبادي" كانت المرأة المسلمة الأولى التي حصلت على جائزة نوبل في عام 2003، وهي جائزة السلام، هذا ساهم في تصحيح الأفكار السلبية ولكن ليس بشكل كاف.ناخبة ومنتخبة ( العديد من النساء انتخبن في المجلس الدستوري الإسلامي أو البرلمان)، الإيرانيات يستطعن العمل في الخارج، الخروج وحيدات ( يقصد الكاتب من غير محرم)، قيادة سيارة، الخ.
يذكر " بول بالتا" العديد من الشهادات الشخصية :" لا أعرف أية مدينة في العالم الإسلامي تعرف سائقات للتاكسي كما في طهران. ربما يظهر الأمر كطرفة، ولكن هذه ما تبينه الحداثة في إيران، وكما تبين ذلك المجلة الرائعة " zanan" ( النساء)، أول مجلة ليبرالية مكرسة للنساء وصدرت منذ عام 1991. لأن معظم الناس يراهن وهن أيضا رمزا، المجلة وضعتهن، قبل عشر أعوام، على غطاء أحد الأعداد الخاصة المكرسة لدور الإيرانيات في المجتمع، وطالبت بدور أكبر و مسؤوليات أكثر للنساء في إدارة الحياة العامة. وهذا ما حصا فعلا. يوجد من الآن فصاعدا نساء في الشرطة، في التعليم، الطب، الأدب، الفنون التشكيلية، السينما كما " سميرة مخملباف" و التي مثلت في أفلام أبيها " محسن مخملباف" قبل أن تتوج في مهرجان " كان" كمخرجة و كاتبة سيناريو". ويذكر " بول بالتا" تعامل الإعلام الفرنسي معه حول المسائل التي تتعلق بإيران :" قبل أن أعود إلى إيران من أجل مهمة دراسية، في أيلول 1995، العديد من الإذاعات و التلفزيونات الفرنسية، المهتمة جدا، طلبت مني إعلامها عندما أعود من طهران. وهذا ما فعلته. عندما قلت أنني أريد التنويه بدور المرأة الإيرانية، لم يتصل بي أحد باستثناء" France culture" و RFI. ولكن عندما انتخب " محمد خاتمي" رئيسا للجمهورية الإسلامية في 26 أيار 1997، بفضل أصوات النساء و الشباب، كل وسائل الإعلام التي تجاهلتني أعدت معي مقابلات وحوارات طويلة".
ينهي " بول بالتا" حديثه عن إيران بالحديث عن رسالة وجهتها صديقة له من جامعة " ليون" الفرنسية Jacqueline Valantin، إلى أصدقائها في الجامعة، بهدف إقامة ندوة أو محاضرة حول السفر السياحي التي قامت به في شهر آذار إلى أوزباكستان و إيران. تقول ": بالنسبة لإيران كانت 12 يوما، المفاجأة الكبرى، و التي تقاسمتها مع أعضاء المجموعة التي كنت معها، هي البعد بل الهوة الضخمة التي تفصلنا بما نملك من أمور عن إيران، عن الحقيقة التي رأينا. مبدئيا، إيران بالنسبة لنا تذكرنا بعدم الأمن، و الخطف المحتمل...في الواقع، إنه بلد حديث جدا وديناميكي على شبكة الطرق. مع احتفالات "النوروز" (السنة الجديدة)، الإيرانيون في كل مكان، في المناطق الأثرية، في المدن، في الشوارع، صالونات الشاي، المطاعم...و دائما يضحكون وكرماء مع الضيوف. النساء بالتأكيد يضعن الغطاء، ولكنهن في كل مكان ليلا ونهارا، في المطاعم و الشوارع، وغالبا مع بعضهن، من غير حراسهن من الرجال.
لقد أظهرن الكثير من الفرح باستقبالهن لنا، وهذا بعيد عن الصورة التي نحملها من الخوف الذي يلف المرأة الإيرانية، لقد أحسسنا بالحماية و الأمن. لقد أخذنا الكثير من الصور لكنهن أخذن أكثر منا،مع أجهزة التصوير لديهن وهي من أحدث الأجهزة".
يقول " بول بالتا" : بالنسبة لي، أنا مقتنع، إذ المتشددون استمروا في عنادهم باحتكار السلطة، المجتمع المدني الإيراني سيكون خياره الديمقراطية و الحداثة، حتى ولو كان الثمن ثورة جديدة".

البروفسور "بول بالتا" متخصص بالعالم العربي، صحافي سابق في " لوموند"، المدير الشرفي لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الجديدة. مؤلف العديد من الكتب حول إيران، العالم العربي، الإسلامي و المتوسطي.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف