فلسفة التسامح... والفكر الكوني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"لا أحبّ التسامح، ولكنني لا أجد أفضل منه" (غاندي)
لعل أكثر انشغالات المشهد الفلسفي الحالي، تتمحور حول مفاهيم التسامح والعدالة، ومضامين الصفح، وهي محاور تؤسس لعدالة مرحلية، تُشكل انتقالا للأمم من مرحلة لأخرى في مسيرة تطورها الحضاري، لا سيما إذا ما تعرضت لصراعات وحروب أهلية، لأن أحد أهم مكونات النزاعات السياسية والصراعات الداخلية تلك التي توصف بالصراعات الدينية والاثنية والطائفية والقومية...
ولعل أحد أهم مكونات تأسيس دولة حديثة، في مرحلة ما بعد الحروب الأهلية، هو تجاوز تلك الصراعات، وبناء مساحة من التعاون، مبنية على مسامحة حقيقة بين الأطراف، فالصفح يُعد البوابة الرئيسية التي لا بد من المرور بها لبناء ديموقراطية فعلية.
إن إحدى القضايا الأكثر جوهرية بالنسبة للرقي الإنساني الحقيقي، تتأسس حول ماهية وكيفية تأسيس الرؤية العقلانية عن التسامح، والسؤال الذي يطرح دائمًا حول أي منظومة قيم تلك القادرة على بناء التجانس والإنسجام الفعلي في كينونة الفرد والجماعة والأمة والثقافة والدولة تجاه النفس والآخرين.
وهي مهمة يتوقف تحقيقها على مستوى تأسيس حقيقة التسامح، وبما أن التسامح هو شكل التعايش العقلاني للقيم، من هنا تصبح مهمة تأسيس منظومة القيم وتعايشها الطبيعي الصيغة العلمية الضرورية للتسامح نفسه.
بيد أن عملية تأسيس بنى التسامح ليست فعلا إرادويًّا محضًا، بقدر ما هو تراكم لصيرورة القيم بوصفها منظومة متكاملة. فلكل جماعة بشرية منظومتها الفكرية والعقديّة الخاصّة عن التسامح مما يجعل الأمر جزءًا من معاناة الامم نفسها؛ لذلك يبدو التسامح قيمة نسبية ومطلقة في آن، فهي قيمة نسبية لانها تختلف من أمة لأخرى ومن دين لآخر، وهي مُطلقة داخل المنظومة الثقافية الواحدة.
والسؤال هو: هل يمكن تأسيس منظومة تسامح عقلانية قادرة على أن تكون منظومة كونية؟
إن التسامح بوصفه قيمة، ينبع ويتراكم في مجرى ثقافة الامم، وتجاربها كافّة بما فيها الروحية، وقد شهدت الحضارات مواقفًا كرست قيمًا أخلاقية راقية وان كان الحديث عن التسامح المطلق صعبًا،غير أننا يمكن ان نؤكد على أن القيمة المجردة للتسامح هي نسبة ضرورية، ان لم نقل حتمية في نظام السمو الانساني وهي قيمة اقرب ما تكون إلى فكرة الواجب الأخلاقي أو المرجعية المتسامية.
فالصفح ليس فكرة طوباوية، بقدر ماهو قوة روحية كامنة في شيفرة تراكم سيرورة الروح الانسانية في رحلة حياتها او حيواتها نحو انعتاقها الى بارئها؛ ويكمن دور الكائن الانساني في تحويل تلك القوة الكامنة فيه أصلا من وجود كامن الى وجود بالفعل، وترجمة قدرات الروح الصفحية والتسامحية الى سلوك ظاهر يتجلى من خلال انفتاح حتى على من يُصنف انه "عدّو"، وليس مصادفة أن تصل الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنها تدرك بفعل منطق التطور الروحي إلى ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت بعض الفلسفات القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية.
إن هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الانسان الكوني.
وإذا ما تناولنا الحضارة الإسلامية مثالا في مجرى تطورها التاريخي وازدهارها، فإننا نرى الانتقال التدرجي والتراكم النوعي في مواقفها من النفس والآخرين؛ بمعنى انها مرت بدروب المعاناة الفعلية في قبول الخلاف والاختلاف لتحوله في نهاية الامر إلى "رحمة إلهية" و"حكمة ربانية"، وذلك بالانتقال من خلال مناهج العلم والعمل وجعلها أسلوبا لترقي المعرفة العقلية والروحية؛ فارتقت بهذا الصدد للدرجة التي جعلت من قبول إنجازات الأوائل والأواخر والتفاعل معها نموذجا شاملا، كما نراه على سبيل المثال في الموقف من الثقافات والأديان والأقوام والملل. ففي مجال الرؤية الثقافية ارتقت إلى مصاف تصنيف الأمم على أساس موقفها من العلوم والفلسفة، وفي مجال الأديان ارتقت إلى مصاف بلورة وصياغة نظرية التسامح الروحي في الموقف من الأديان وتوجتها لاحقا بفكرة وحدة الأديان لا سيما عند ابن عربي، وهي فكرة استلهمت بصورة نموذجية حقيقة الأبعاد الروحية في الوحدانية.
لعل طرح مفهوم الانسان الكوني - من خلال استلهام فكر ابن عربي - تنطلق من اعادة اكتشاف وجد الوجود من خلال ما هو موجود بمعايير المثل المتسامية، فالله هو محور الجذب المطلق في الكون، وما وجد في الكون الا كائنات انبثقت عن حضرة التكوين، وكل ما تولد من كائنات يدور في الفلك الرباني ويعبد الله على طريقته الخاصة به، وبما أننا كائنات انسانية فان تجليات استعددادات امكانياتنا الروحية تبدو اكثر وضوحًا بالنسبة لنا؛ فالانسان مجبول على العبادة لانها مفطورة فيه ومن ثم فإن التعبير عنها من خلال الطقوس او المعتقدات ليس سوى تجل لما يناسبه من استعدادات.
فما عبادة الأمم لله وشرائعها وأديانها ليس إلا هو إبداع لوحي الأمة الذاتي، ونابع من تلقائية إدراكها له. وبما انه غير متناه، لهذا وجدت كل أمة فيه ما هو مناسب لاستعدادها الخاص.
فما تنوع الديانات إلا تجل للحقيقة الوجودية ودرجة من درجات إدراكها في الوقت نفسه، وبناء عليه فإن الديانات لا يُنظر إليها بمعايير المؤمنين والكفار فالكل مؤمن أصالة، ولاتقاس الامم عندها بمقاييس الشرائع، فالإقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح ومكون أساسي في هوية الانسان الكوني، الذي يجعل القلب كيانا قادرا على التنوع في الصور واحتواءها في الوقت نفسه.
عندها تتحول الأديان وكتبها والطبيعة وما فيها إلى تجليات للمحبة، باعتبارها سر من أسرار الوجود، فهي التي تمنح لكل ذرة معناها الخاص بوصفها نسبة في نظام المطلق، وما رجوع الكائن الانساني الى نفسه الا رجوعا الى معالم روحه المطلقة.
إن هذا الطرح يضع الروح في أرقى درجات التسامح فتنتفي "الانا" المتعارضة مع "الآخر"، وهي الحالة التي تبلغها الثقافة المزدهرة عندما ترتقي في مدارج الإدراك الروحي للحقيقة القائلة، بان التسامح في حقيقته هو منظومة التكامل الإنساني في دروب الحرية والنظام.
باحثة في الأنتربولوجية
Marwa_kreidieh@yahoo.fr
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية