مفارقات التسامح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تبدو أولى مفارقات التسامح فى كونه يولد دائماً فى رحم التعصب، ويتم استحضاره غالباً فى فترات العنف والإرهاب، وكأنه لابد من تعميده بالدم أولاً حتى تكتب له الحياة ! فقد أصدر الامبراطور "قسطنطين" فى أوائل القرن الرابع الميلادى مراسيم التسامح والعفو عن المسيحيين بعـد أن عانوا أشد أنواع الاضطهاد الدينى. ثم اعتنق هو نفسه المسيحية بعد ذلك.
واللافت للنظر أن الجهود التى بذلت من أجل إرساء مبدأ التسامح قبل ذلك التاريخ، كان يقف ورائها رجال ليسوا مسيحيين من أمثال "تمستيوس" الذى وجه خطاباً إلى الإمبراطور "فالينس" حضه فيه على إلغاء المراسيم التى أصدرها لاضطهاد مخالفيه من المسيحيين، وشرح له نظرية جديدة للتسامح_ تشبه الي حد كبير نظرية اسبينوزا في القرن السابع عشر، قال فيها : "أن سلطان الحكومة لا يستطيع أن يؤثر فى معتقدات الإنسان الدينية، وأن الرضوخ للحكومة فى هذا الأمر لا ينتج إلا اعترافات يحـدوها الرياء والنفاق، وينبغى إفساح المجال لكل مذهب وأن من واجب الحكومة المدنية أن تحقق سعادة الأفراد جميعاً سواء من كانت معتقداته صحيحة أو غير صحيحة. إن الله نفسه ليبين لنا رغبته فى أن يعبده الناس بوسائل شتى وإننا نستطيع الوصول إليه من ألف سبيل".
بيد أن مراسيم التسامح هذه، فقدت مبناها ومعناها بمجرد أن تمكنت السلطة الدينية من فرض هيمنتها بالكامل فى نهاية القرن الرابع الميلادى، فقد قام البابا "ثوفيلس" بابا الاسكندرية فى عام 385 بتحويل المعابد الفرعونية (الوثنية) إلى كنائس وأديرة، مما يدل على عدم تسامحه مع الديانات الأخرى.
بل أن هوس التعصب الدينى امتد إلى الفيلسوفة "هيباشيا" التى : "انتزعت من عربتها انتزاعاً، وعريت عن ثيابها، وجرت إلى الكنيسة، وذبحت ذبحاً وحشياً على يد "بطرس القارى" " والمسيحيين المتهوسين وكشط لحمها عن عظامها بمحار حاد الأطراف وقذف فى النار بأعضاء جسدها وهى ترتعش بالحياة".
وهذا يخالف دعوة السيد المسيح إلى المحبة والتسامح والصفح، وثمة مثال فى الكتاب المقدس عن "التسامح"، أنه مثال الزارع الذى زرع حنطة فى حقله فإذا بالحقل يمتلئ بالزوان. وليس فى امكانه اجتثاث الزوان لأن المحصول بأكمله يكون معرضاً للخطر".. كان رأى السيد المسيح هو "دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد، وفى وقت الحصاد أقول للحاصدين أجمعوا أولاً الزوان، وأحزموه ليحرق وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزنى ".
لكن لفظة التسامح فى المسيحية تتكشف من خلال كلمة أخرى هى "الحلم". ففى رسالة بولس الرسول إلى أهل "فيلبى" يقول : "إن حلمنا يجب أن يكون معروفاً لجميع الناس لأن الرب قريب". والكلمة الأصلية المترجمة "حلم" هى كلمة يونانية Epieikes
، وهى تعنى الروح المستعدة للتسامح والصفح بدلاً من طلب تنفيذ العدالة وهذه هى المحبة الكاملة.
أما أوروبا المسيحية فلم تعرف التسامح الدينى والسياسى إلا فى القرن السابع عشر ولم تدرك أنه فضيلة إلا منذ القرن السادس عشر، بعد أن دمرت الحروب الطائفية العديد من المدن والقرى وقضت على مئات الألوف من سكانها. وهنا فقط بدأ الفلاسفة فى التساؤل : لماذا حدث ذلك ؟.. لماذا مزق الكاثوليك والبروتستانت بعضهم بعضاً، وهم ينتمون إلى دين واحد، وكتاب واحد ؟.. هل هناك من طريقة أخرى لفهم الدين غير هذه الطريقة المتعصبة الملونة بلون الدم ؟
من هنا ظهرت كلمة التسامح أولآ فى كتابات الفلاسفة فى القرن السابع عشر، أو قل زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية. حيث نادى "جان بودان" و "مونتينى" و "اسبينوزا" فى "البحث اللاهوتى الفلسفى"، و "روجر وليمز" فى رسالتيه" العقيدة الدموية للاضطهاد بسبب الضمير" 1644 و "العقيدة الأكثر دموية" 1652، و "جون ميلتون" و "جون لوك" فى كتابه "رسالة فى التسامح" 1689 1692، وغيرهم، بضرورة التسامح بين المخالفين فى الرأى والعقيدة، وحق الاجتهاد، واتخاذ العقل ميزاناً وحكماً.
في مقابل هؤلاء الفلاسفة العظام، كان الكاردينال "بوسويه" أكبر أصولى كاثوليكى فى القرن السابع عشر، وهو الذى خلع المشروعية اللاهوتية على سياسة لويس الرابع عشر الهادفة إلى استئصال المذهب البروتستانتى من فرنسا خاصة ومن أوربا بوجه عام.. فما حجته في ذلك ؟
إن حجته هي نفس حجة البابا بندكت اليوم، وهي : "إن الاعتقاد المسيحى على طريقة المذهب الكاثوليكى لا يتغير ولا يتبدل على مدار العصور. أنه صالح لكل زمان ومكان لأنه إلهى بالكامل. وذلك على عكس الاعتقاد البروتستانتى الذى تغير أكثر من مرة أو تطور وتحول.. ومجرد تطوره أو تغيره دليل على زندقته وهرطقته وأنه من صنع البشر.. وبالتالى كيف يمكن أن نساوى بين تراث بشرى وتراث الهى ؟ وكيف يمكن أن نضع البروتستانت الزنادقة على قدم المساواة مع المؤمنين الحقيقيين (الكاثوليك) ؟.
هكذا أصدر فتوى سحقهم وقتلهم وطردهم جماعياً من فرنسا، وهو ما حصل بالفعل، فمن لم يقتل منهم، أو يتراجع عن مذهبه قبل فوات الأوان هرب سراً إلى البلدان الأجنبية، كألمانيا وهولندا وانجلترا.
وذلك علي العكس مما كان يدعو اليه مواطنه المفكر "بيير بيل" الذي قال : "لا يوجد شئ أسوأ، من تقرير هذا المبدأ القائل بأن كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم أن يبيدوا سائر الأديان. أن هذا يؤدى إلى عودة قانون الغاب وإرجاع الجنس البشرى إلى نفس الحال التى يتحدث عنها رجال السياسة، والتى كان فيها كل فرد سيداً وله الحق فى كل شئ ما دامت لديه القوة للاستيلاء عليه".
أما "بول دو موشيل" فرأي : "أن التسامح الدينى كما اكتشفته أوربا فى القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، سيظل المثال الأبرز للتسامح، فالملل المتعددة للمسيحية لم تكن تتعارض مع بعضها البعض بشكل عارض أو طارئ،وإنما بصورة جذرية، وكانت تعتبر نفسها : التفسير الحق للدين الشامل" وهو ما يعرف "بامتلاك الحقيقة المطلقة" فى الخطاب الفلسفى المعاصر والواقع أن ما قرره "بيير بيل" عام 1686، هو نفسه ما ذهب إليه "جون لوك" فى منفاه الاختيارى بـ "هولندا" حين كتب "رسالة فى التسامح" باللاتينية ونشرها دون توقيع عام 1689.
وكان يقصد التسامح الدينى بمعنى : "أنه ليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية". ولهذا، فإن "فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين الحق" ؛ ومعنى ذلك أن التسامح الدينى يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن "خلاص النفوس من شأن الله وحده. ثم أن الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً. ثم أن قوة الدين الحق كامنة فى اقتناع العقل، أى كامنة فى باطن الإنسان".
وبسبب هذه الأفكار هوجم لوك فألف رسالة ثانية فى التسامح فى يونيو 1690، ورسالة ثالثة فى يونيو 1692.
وبعد سبعين عاماً من رسالة لوك الأولى فى التسامح ظهر كتاب "فولتير" (مقال فى التسامح)، وفولتير كان يعتبر نفسه تلميذاً للوك، ومن أكثر المعجبين به. واستشهد به قائلاً : "انظروا إلى الرسالة الممتازة لجون لوك عن التسامح "مما يعنى أن الفرنسيين والانجليز والأوروبيين بشكل عام كانوا مهمومين آنذاك بمسألة التعصب الدينى ويحاولون أن يجدوا لها حلاً.
لكن فولتير يختلف مع لوك عندما يتحدث هذا الأخير عن "المسيحية العقلانية"، وهو عنوان أحد كتبه. ففى رأى فولتير لا يمكن للمسيحية والعقل أن يجتمعا معاً، على الأقل بحسب ما كانت المسيحية مفهومة وسائدة فى عصره.
أضف إلى ذلك أنه عندما طالب فولتير فى "مقاله" بالتسامح مع البروتستانت المضطهدين لم يصل به الأمر إلى حد مساواتهم الكاملة فى الحقوق مع الكاثوليك، لأنه كان يعرف أن ذلك أمر مستحيل فى وقته.
والفهم السائد آنذاك كان أصولياً متعصباً، وبالتالى فإما أن نتبع العقل أو أن نتبع الدين. والأمر محسوم بالنسبة لـ "فولتير"، ولا يعنى ذلك أنه كان ملحداً أو كافراً كما أراد خصومه المتعصبين أن يصوروه وفقاً لقاعدة (إما hellip; أو)، إما أن تكون مؤمناً أو كافراً. لقد أثبت فولتير العكس، عكس هذه القاعدة، أنه يمكن للمرء أن يكون مؤمناً وضد التعصب فى الوقت نفسه.
بيد أن البروتستانتية التى تأسست فى القرن السادس عشر على يد كل من "لوثر" (1546) و "كالفن" (1564) و "زونجلى" (1532)، وحققت انفصالاً صريحاً عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، مما أدى فيما بعد إلى انهيار الوحدة الدينية فى الغرب، هذه البروتستانتية لم تكن متسامحة فى بدايتها، فقد خاض البروتستانت (أى المحتجين) حروباً طاحنة مع الكاثوليك عرفت بحرب الثلاثين عاماً الدموية، بدأت عام 1618 بثورة البروتستانت فى بوهيميا وانضم ملك السويد إليهم، كما انضمت فرنسا وانتهت الحرب بعد أن دمرت اقتصاد ألمانيا فى عام 1648 بمعاهدة "ويست فاليا" التى تبلور بموجبها مفهوم الدولة بالمعنى الحديث،أي ذات سيادة ولها حدود معترف بها من الدول الأخرى.
ولما كانت البروتستانتية ترفض الاعتماد على التفسيرات الكاثوليكية للكتاب المقدس، فقد اضطر "لوثر" ومن سار على هديه إلى تفسير هذه الإرادة بنفسه، ومن ثم كانت النتائج التى توصلوا إليها لا تختلف فى انتهازيتها عن أوامر أمير علمانى لا يهتم أساساً إلا برخاء دولته وازدهارها.
الأخطر من ذلك أنهم أحلوا محل سلطة رجال الدين الروحية مجموعة جديدة من القوانين والتشريعات الدينية كانت أكثر سلطوية واستبدادية، فحكم كالفن، على سبيل المثال، جماعات المؤمنين البروتستانت فى مدينة "جنيف" حكماً استبدادياً مطلقاً، وفرض نظاماً صارماً على المجتمع، بل كان فى كثير من الأحيان أشد عنفاً وبطشاً من محاكم التفتيش الاسبانية الكاثوليكية، مع الخارجين على عقيدته لدرجة أنه اعتقل الطبيب والفيلسوف الأسبانى "ميشيل سرفه" وأمر بإحراقه حياً.
لقد انتهت دعاوى المصلحين الدينيين التى انطلقت أساساً من حرية الإنسان فى ممارسة العبادة وفى فهمه الكتاب المقدس وفى علاقته بالرب دون وساطة الكاهن الكاثوليكى، إلى نوع من الثيوقراطية المطلقة وإن تدثرت برداء الحرية والفردية فى فهم الدين، والى التعصب وعدم التسامح، وهو جريمة نكراء، حسب تعبير وايتهد ، يولدها الهوس الإصلاحى دائماً.
وإذا كان المصلحون الدينيون متعصبين، شأنهم فى ذلك شأن الذين ثاروا عليهم أصلاً، فإن صفحات التاريخ الحديث ليست أنضر وجهاً فى هذا الصدد . وكأن التسامح يولد من رحم التعصب، وأن التعصب قد يعقب التسامح، وأن فرصة التسامح هي في المسافة الفاصلة بين تعصب وآخر.
والسؤال هو : كيف نباعد زمنياً بين فترات التعصب المختلفة ؟ أو بالأحرى كيف نطيل هذه الفترة الانتقالية، التى يظهر فيها التسامح، لأقصى درجة ممكنة ؟
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية