كتَّاب إيلاف

مسألة العنف: بين عنف الخطاب وإكراهات الواقع

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"إن كان العنف هو تلك المقدرة على نعت الآخرين به، فإن أفضل طريق للحد منه ربما يكون في التزام الصمت"

إن مسألة العنف وتعريفه وطرح مقاربته مسألة مفتوحة، تختلف بإختلاف الإرث الثقافي والاجتماعي واللغوي والانتربولوجي للشعوب.
فتعريف العنف يرتبط أولا وقبل كل شيئ، بإدراكات و تجارب جماعية وفردية، وبأفعال و ردود أفعال تتباين المواقف حولها بتباين الاستراتجيات و المواقع، مما يفتح الباب أمام كلّ الاحتمالات، بما فيها حرب التعريفات؛ وثانيًا، أن كلّ حديث عن العنف يحمل في طياته اتهامات تجاه الطرف الموصوف بالعنف كما يحمل حكمًا على هذا الاخر بوصفه عنيفًا من خلال إتهامه و تجريمه وإطلاق الأحكام عليه.
إن تعريف العنف بوصفه خطابًا ومصطلحًا يصبح سلاحًا يبرئ المتكلم المنتج للتعريف من جهة، و يتهم بل ويجرّم المتحدث عنه أو إليه من جهة أخرى.
وإذا ما ألقينا نظرة على تاريخ الشعوب نجد ان علماء الأنتربولوجية أطلقوا مصطلحات يمكن ان نصفها "بالعنصرية" تجاه شعوب ما قبل الثورة الصناعية حيث سموها شعوبًا "بدائية"، وهذا التصنيف والتعريف يحمل في طياته عنفًا رمزيًّا ومقنّعًا، فالغازي الأجنبي- الاوروبي سابقًا والاميركي حاليًّا- منح نفسه حق تصنيف الشعوب وفق مصالحه ووفق منظومته الفكرية والثقافية، فأطلق مصطلح العنف على بعض الطقوس والممارسات الثقافية للشعوب الاخرى التي كانت تُعد أعمالها هذه جزءًا من تراثها، فقد وصف ردود افعال تلك الشعوب تجاه حضارته بالعنيفة علما ان تلك الشعوب كانت تحاول ان تدافع عن نفسها ليس إلا.
إذن ان المسيطر السياسي والعسكري يفرض عنفًا مزدوجا مباشرا وغير مباشر وهو العنف المباشر من خلال اقتحامه اراضي تلك الشعوب و عنف الخطاب من خلال تصنيفه وفرض خطابه عليها، فالعنف يتحدد في وضعية اجتماعية-ثقافية وسياسية معينة، حيث يستخدم فيها الضغط ومجموع الوسائل الأخرى من عنف الخطاب.
الأمر الذي يجعلنا نشكك في تعريفات العنف لأن أي تعريف يقدم للعنف لابد و أن يكون فيه حيف وظلم وشيئ من الفوقية والعنصرية حيث سيكون فيه رابح وخاسر، هذا عدا الخلفيات التي تقف خلفه.
كما أن كل اتفاق يقدم باعتباره اتفاقًا من أجل السلم الاجتماعي، مثلا، يمكن لطرف آخر أن ينظر إليه من منظور العنف، فيجد فيه العنف قابعًا في قلب العملية السلمية، وما فلسطين والعراق عنا ببعيد.
ولتقريب الصورة على ارض الواقع بوصفنا شعوبًا عربية قابعة في منطقة جغرافية ساخنة، نجد اننا نتعرض لاستخدام وسائل ضغط متنوعة وشديدة من قبل من منح نفسه حق تصنيف الشعوب وفرض الخيارات على الأنظمة بالقوة، بحيث تعدم إمكانية الاختيار، بل وتعدم حتى إمكانيتها في الهروب، أو في الانعتاق، أو في رفض الوضعية التي تفرض عليها كشعوب او كدول؛ إن هذا العنف يبلغ درجته القصوى عندما لا يعدم فقط إمكانية الإنسان في الرد، و لكنه يعدم الإنسان نفسه.
و يقوم تعريف العنف، في هذه الحالة، على تحديد آليات إنتاج مختلف أشكال الضغوط والوسائل التي يصل الإنسان بها إلى اباحة القتل بحجة فرض "الديموقراطية" في العراق، او "الأمن الوقائي" في فلسطين....
و يمكن أن نقارن، على هذا المستوى، حالة العنف بحالة اللاعنف، أي بتلك الوضعية التي يكون فيها الإنسان متحررًا من إكراهات و من وسائل الضغط والإجبار بحيث يكون المجال هو مجال الإقناع و التفاوض أو أي شيء من هذا القبيل. و هكذا، عوض أن يتحدث الناس عن العنف، يتحدثون عن حالة سلم أو سكينة أو سلام.
ان شعوب الارض بما فيهم من تنوع اديان وشرائح مجتمعية من نخب ومثقفين يتعرضون لضغط عنف الخطاب من قبل "الدول النافذة"، مما يحد من الحرية، ومن حرية النظر، وحرية النظر في الواقع المُعاش؛ والعنف في هذه النظريات يعني سجن الإنسان من طرف الخطاب السائد في رؤية واحدة وصورة واحدة فقط لا غير. و إنتاج الخطاب السائد لنظريات واعتقادات ترفع أسوار الصمت حول نظريات أخرى ممكنة، وتصورات مغايرة لنفس الواقع.
إن العنف الرمزي والهيمنة الرمزية، لا ترتكز أساسًا على الخطاب السائد في مجال المعارف والمؤسسات العقابية السجنيّة والممارسات العملية باسم القانون وحسب، بل على الضغوط اليومية على إدارات الشعوب وتتدخلها المباشر حتى في الممارسات اليومية والمناهج التعليمية والعادات السائدة التي تكوّن الإنسان من خلال التربية و"التدجين" و"التطويع"، خاصة تربية الجسد ومتطلباته.
ويبقى عنف الخطاب و العنف الرمزي قابلين لأن يحددا وأن تدرس فاعليتهما في مجالات عدة، مثلا، حينما تكون هناك شرائح اجتماعية تسعى إلى العيش حسب معايير مغايرة للمعتقد السائد او للمنظوم المجتمعي حيث يتم إقصاؤها أو القضاء عليها بالقوة، أو بنوع آخر من النفوذ كالدعاية و التخويف التي لا تقل عنفا عن سابقتها، وخاصة النفوذ المنظم من طرف مجموعات أو شبكات أو تنظيمات او حتى دول
إن مشكلة العنف مشكلة شائكة، وأن حضور العنف قائم، وأن القضاء عليه أشبه ما يكون بالمستحيل. و ربما كان من الأحسن أن نفكر في الحد منه بالبدء بالاعتراف بأنه يسكننا و يطبع تركيباتنا الاجتماعية والثقافية بطابعه السلبي أو الإيجابي، و بالتالي لابد من التعامل معه على هذا الأساس، رغم أن هناك تصورات فلسفية أخرى معروفة ذهبت إلى القول بإمكانية "السلم الدائم"، علما أنه لابد من الحذر في التعامل مع كل من أطروحة السلم الدائم حسب ما تدعيه الليبيرالية، و أطروحة العدل التام تحت ظل المساواة التامة. فمع هاتين الأطروحتين يتم إدخال المطلقات في السياسة؛ كما أن ما تسميه اليوم بعض التيارات "بالنظام الإسلامي" أو "المنهج النبوي" يدخل، هو أيضا، مطلقات دينية في صميم الممارسات السياسية، وهذا خطر على المجتمعات إذ أنه يفتح باب تفشي العنف بدل الحد منه، ويسد باب الرفق والتمرّن والتمرين على الحوار والاتفاق في ظل السلم النسبي، والقدرة على تنظيم العيش في أفق الحياة.
باحثة في الأنتربولوجية
Marwa_kreidieh@yahoo.fr
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف