غزة والسؤال المغمس بالمرارة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم يكن ينقص أهل قطاع غزة سوى أزمة التيار الكهربائي بعد كل المصائب التي حلت بهم أخيرا. لكن الوضع المعيشي المأساوي في القطاع يجب ألا يخفي سؤالا مغمسا بالمرارة هو الآتي: هل هناك خوف حقيقي من تكريس واقع تقسيمي على الصعيد الفلسطيني؟ لدى سماع الكلام الذي يصدر عن مسؤولي "حماس" في غزة وطريقة تصرفهم مع القوى السياسية الأخرى، يخشى أن يكون الهدف من أستيلاء الحركة الأسلامية على القطاع عن طريق ميليشيا خاصة بها تكريس واقع تقسيمي. وبكلام أوضح، يخشى أن يكون هدف "حماس" الفصل النهائي بين الضفة الغربية وغزة ما دام ليس في أمكانها تكرار تجربتها في الضفة لأسباب عدة على رأسها أن موازين القوى هناك مختلفة وأن طبيعة المجتمع الفلسطيني في الضفة وتركيبته مختلفان عن ذلك الذي في غزة.
تتبجّح "حماس" بأنها أستطاعت فرض الأمن في غزة. لا شك أنه كان هناك فلتان أمني في القطاع تتحمل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية، وبالتالي ل"فتح" مسؤولية معينة عنه وليس المسؤولية كلّها بطبيعة الحال. ولكن ما لا يمكن تجاهله في المقابل أن مسؤولية الفوضى الأمنية التي كانت سائدة في القطاع مسؤولية مشتركة. لم تفعل "حماس" شيئا، منذ فوزها في الأنتخابات التشريعية قبل ما يزيد على سنة ونصف سنة ثم تشكيلها حكومة خاصة بها، بأستثناء تغذية حالة أسمها فوضى السلاح من جهة والعمل بجدّ كلّي من أجل أقامة ميليشيا خاصة بها سمّيت "القوة التنفيذية" من جهة أخرى وذلك عن سابق تصوّر وتصميم. وهكذا، صار سهلا الآن على من لعب دورا أساسيا في خلق فوضى السلاح في القطاع الأدعاء بأنه قضى على هذه الفوضى وجعل الأمن مستتبا بمجرد أنه باتت لديه مصلحة في الأمن وفي فرضه بالقوة عبر ميليشيا خاصة به.
كان ملفتا قبل أستيلاء "حماس" على غزة في منتصف حزيران - يونيو الماضي أن الحركة الأسلامية كانت توزع السلاح على كل من أراد. أكثر من ذلك، كان مسلحوها ينزلون ألى الشارع بأستمرار بغية أطلاق النار في الهواء وتأكيد أن هناك فلتانا في الشارع وأن لا سلطة للقوى الأمنية التابعة للسلطة الوطنية عليه. هذه لعبة قديمة مارستها "حماس" لكنها لا تنطلي على أحد غير السذج الذين يعتقدون أن فساد "فتح" وأجهزتها كان وحده وراء تلك الفوضى التي عمت القطاع على نحو لا سابق له منذ اللحظة التي أنسحبت أسرائيل منه صيف العام 2005 .
أن الكلام عن وجود أمن مستتب في غزة ليس في مكانه. قبل كل شيء، لا وجود في الوقت الراهن لأمن حقيقي في غزة. هناك سلطة تمارس القمع بطريقة لم يعهدها الفلسطينيون في الماضي حتى أبان الأحتلال الأسرائيلي. في فترة الأحتلال، كان الفلسطينيون يعبرون على الأقلّ عن آرائهم السياسية المتعددة. كان لديهم الحق في التظاهر ضد الأحتلال وحتى ضد السلطة الوطنية وقراراتها والمواقف التي تتخذها. الآن، بات الفلسطينيون يعيشون في ظل نظام شمولي لا يشبه سوى ذلك الذي أقامته "طالبان" في أفغانستان والذي وفّر ملجأ آمنا لتنظيم "القاعدة". كان ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، يفتخر بما كان يسميه "ديموقراطية غابة البنادق". كان الشعب الفلسطيني مسلحا وكانت هناك منظمات عدة وحتى ولاءات مختلفة. لكن السلاح لم يحل يوما دون وجود تعددية سياسية تسعى "حماس" حاليا ألى ألغائها عن طريق التعرض حتى للأعراس بحجة أنه تطلق فيها أهازيج يفهم منها أن المحتفلين ينتمون ألى فتح".
يفترض في "حماس" أن تستوعب أن الأمن وحده لا يصنع سياسة. ما يصنع السياسة هو الموقف السياسي الواضح المرتكز على برنامج يمكن أن يساعد في أزالة الأحتلال. مثل هذا البرنامج السياسي يمكن أن يكون مدخلا لمصالحة تشمل أعادة الوضع في غزة ألى ما كان عليه قبل الأنقلاب الذي نفذته "حماس". لا بديل آخر من الأتفاق على برنامج سياسي موحد وعن عودة "حماس" في الوقت ذاته عن أنقلابها والأجراءات التي اتخذتها. لا بد من تعاطي الفلسطينيين مع موضوع السلام صفا واحدا مستندين ألى برنامج سياسي يقبل به المجتمع الدولي. ولهذا السبب، يفترض في "حماس" أن تمتلك ما يكفي من الشجاعة والأعتراف بأن ما فعلته كان خطأ وأن رفض العودة عنه سيكلف الفلسطينيين، خصوصا أهل غزة الكثير.
ثمة واقع ليس في أستطاعة أي جهة التخلص منه أو تجاوزه. هناك مليون ونصف مليون فلسطيني في سجن كبير أسمه غزة. المؤسف أن زوال الأحتلال الأسرائيلي لم يدفع الفلسطينيين ألى تحويل غزة لنموذج لما يمكن أن تكون عليه الدولة الفلسطينية المستقلة. على العكس من ذلك، تدهورت أوضاع القطاع بعد الأنسحاب الأسرائلي بسبب فوضى السلاح أوّلا. ومع مرور الوقت، تبين أن أسرائيل كانت الربح الأول من ألأنسحاب تظرا ألى أنه بات في أستطاعتها القول للعالم أن الفلسطينيين غير قادرين على أدارة شؤونهم بأنفسهم، ولا يستأهلون بالتالي دولة مستقلة.
من حيث تدري أو لا تدري، خدمت "حماس" السلطة الوطنية الفلسطينية عندما حررتها من عبء غزة. السلطة أستعادت حرية التحرك سياسيا بتشكيل حكومة برئاسة الدكتور سلام فياض تحظى بأعتراف العالم. عادت غزة عبئا أسرائيليا، أعادت السلطة الوطنية لأسرائيل الهدية المسمومة التي تصر "حماس" على أبتلاعها، علما أنها لن تكون في يوم من الأيام قادرة على ذلك. في النهاية ماذا تستطيع "حماس" أن تفعل بالقطاع أذا لم تستثمر الأنجاز الذي تعتبر أنها حققته في المشروع السياسي الوحيد القابل للحياة، أي المشروع الذي ينادي به رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس؟
يقول المنطق أن على "حماس" التي لا تمتلك مشروعا سياسيا غير الشعارات الطنانة التي لا معنى لها التراجع اليوم قبل غد. في حال لم تفعل ذلك، عليها أن تتذكر أن كل شيء في الشرق الأوسط يبدأ كأجراء موقت ثم يتحول مع الوقت ألى أمر دائم. عليها أن تتذكر أن قبرص مقسمة منذ العام 1974، على الرغم من أنها جزيرة صغيرة. كيف ستكون عليه الحال حين لا يكون هناك ما يربط الضفة الغربية بغزة؟ ما الذي يمنع من العودة ألى الوضع الأداري الذي كا سائدا بين 1948 و1967 من القرن الماضي؟ على "حماس" التفكير مليا في الأمر، لا لشيء سوى لأن السلطة الوطنية في رام الله ليست مستعجلة على أستعادة غزة ولا تعتبر ذلك من أولوياتها. نعم، ليست مستعجلة على أستعادة غزة حين سيكون الثمن أنسداد تام لأي أفق سياسي أو مشروع تسوية في المستقبل المنظور. هذا الكلام لا يعني أن التسوية في متناول اليد بمقدار ما يعني أن السلطة الوطنية، والرئاسة الفلسطينية تحديدا، تمتلكان الآن هامشا من الحرية في التحرك والمناورة سياسيا أكبر بكثير من ذلك الذي كان متوافرا عندما كانت غزة مرتبطة بالضفة الغربية. وهذا يعني في طبيعة الحال أن هناك في رام الله من سيفكر ألف مرة قبل أن يقبل بشروط مصالحة تسعى "حماس" ألى فرضها أنطلاقا مما أرتكبته في غزة!
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية