كتَّاب إيلاف

الشيخ والمريد: نواة الجدب الحضاري

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"إنك لا تكافئ أستاذك إذا بقيت حياتك كلها تلميذاً له... فإن التبعية في الفكر لا قيمة لها." نيتشه

سأل سائل عن سر تعثر العرب والمسلمين وتقدم الغير من الغربيين والآسيويين الصينيين واليابانيين وغيرهم وعن أسباب كبوة الإصلاح والنهضة رغم تعدد المحاولات وتكرر التجارب السياسية والفكرية والاقتصادية وفي كل مرة كان جواب واضحا فهو كثيرا ما يتكئ على مصطبة التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للملة والاستهداف التي تتعرض له ثروتها الطبيعية والبشرية وسوء التصرف في الموارد والطاقات وتفويت الفرص ولكن فاتهم أن علة تأبد الاستبداد وسبب محنة العباد يوجد في الداخل وتتلحفه الثقافة التقليدية وتحتضنه من كل اعتداء معتقدة أنه كنزها الثمين ولم يخطر ببالها البتة أن أصل البلاء ومنبع التقهقر والانحطاط هو في الرجع القهقرى وهذا الداء لا يوجد في الاقتصاد ولا في الاجتماع وليس متأتي من السياسة ولا من الثقافة بل يختلط فيه التربوي بالديني والفقهي بالتصوف والتقليدي بالحداثوي والوضعي باللاهوتي لأن الجميع متورطون في حبائله وهذه الورطة التكوينية هي العلاقة بين الشيخ والمريد،فما المقصود بعلاقة الشيخ بالمريد؟ ماهي مجالاته؟ ومن هو الشيخ؟ ومن هو المريد؟ وكيف تحولت إلى داء عضال سبب العطالة بالنسبة لحضارة اقرأ ومنع فيها كل تطوير أو ترقي؟ وما العمل لتجاوز هذه الحالة؟ وهل يكفي تحطيم العلاقة لتحقيق ماهو مرتجى؟ لكن ماهي العلاقة المستحدثة التي يمكن أن تعوض علاقة الشيخ والمريد التقليدية وتنحت الحرية والتقدم؟

كثيرة هي الدراسات والكتب التي حاولت التي أن تفهم استفحال ظاهرة التسلط والاستبداد وصعوبة تفاديها في الفكر والقول والفعل وكثيرة هي المقاربات والتقديرات التي ادعت القدرة على التفطن إلى الأسباب والدواعي وزعمت تقديم الحلول والقيام بالمعالجات ولكن قليلة هي التحليلات العلمية والنظرات الموضوعية التي وقفت على أصل الداء واهتدت إلى موطن الإشكال وفهمت رأس الأمر في هذه القضية الخلافية ولعل الأستاذ عبد الله حمودي في كتابه:الشيخ والمريد والذي له عنوان فرعي تحت اسم:النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة هو واحد من الباحثين الجادين الذي اتخذ مسلكا طريفا وناجعا في تناول هذه القضية وتوصل إلى نتائج وجيهة ومعتبرة وقد شخص اكتشافه بهذه العبارات التالية:"تسرب خطاطة ثقافية من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي. وهذه الخطاطة التي استندت إليها علاقات السلطة واستمدت منها ديناميتها هي في نظري علاقة الشيخ بالمريد التي أصبحت العلاقة النموذجية لعلاقات السلطة الأخرى،ومن خلال تمحيصها تظهر تطابقاتها البنيوية مع تلك العلاقات،سواء في مجال التعليم العلمي والحرفي أو في المجال السياسي والنقابي أو في مجالي الإدارة والنظم الأخرى..."[1] ولذلك بحث الكاتب منذ التمهيد عن طرق معالجة الإشكال المركزي التالي: كيف يمكن أن نفسر أن تحكم مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج بنيات سياسية تسلطية؟ أي كيف يمكن أن تواجه السلطوية فكريا وعمليا؟
على هذا النحو فان الداء العضال وأصل البلاء هو في العلاقة القائمة والمستمرة بين الشيخ والمريد وفي تفضيل التقليد منهجا والركون إلى سلطة الماضي مذهبا والالتزام بهذا الأنموذج على الصعيد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي وعدم الاقتصار على المجال الديني أو المعرفي التربوي فنفس العلاقة التي نجدها أثناء العبادة الجماعية قد نجدها تتكرر في العلاقة الاجتماعية بين الابن وأبيه وبين الانسان والذي يرأس الخلية الاجتماعية التي ينتمي إليها ونفس الشيء يتكرر في المجال السياسي حيث أن علاقة المصلين بالإمام هي نموذج العلاقة بين الراعي والرعية في الحكم والتي تتطلب الامتثال التام والطاعة العمياء والخضوع المذل وتركز على واجبات الناس تجاه الراعي وتهمل حقوق الرعية ومطالبهم تجاهه وقد وقع إضفاء طابع القداسة والشرعية على هذه العلاقة وأصبحت تنتمي إلى مجال المحظور الذي لا يمس ومن يتطاول عليها ويحاول الخروج عنها فكأنه تطاول على الله وحاول الخروج عن الدين. فالشيخ يعتقد امتلاك الحقيقة المطلقة ويطلب من الأتباع قبول آرائه وحفظها عن ظهر قلب وتطبيقها على أرض الواقع دون فحص أو تمحيص وينظر إلى هؤلاء على أنهم قصر
مازالوا لم يخرجوا من الوضع الطبيعي الأول ولم ينتصروا على طفولتهم بعد وأن مهمته تتمثل في قيادة القطيع لدخول الزريبة وإرشادهم إلى الطريق المستقيم الذي إن اتبعوه لن يظلوا البتة. الشيخ في المجال الديني يناظره الحاكم في المجال السياسي والرأسمالي في المجال الاقتصادي والأستاذ في المجال التربوي والمريد في المجال الديني يناظره أحد الرعايا في المجال السياسي والكادح في المجال الاقتصادي والتلميذ في المجل التربوي والصلة الرابطة بين القطبين هي صلة هرمية عمودية حيث السيادة والهيبة والوقار للشيخ والتبعية والعبودية والخسة للمريد ومن الاستتباعات السيئة لهذه العلاقة نجد الاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي والتربية البنكية والجدب الحضاري الذي يخلف الضعف والهوان والتقهقر على الصعيد الفردي والجماعي والروحي والمادي وكلها تعمق الهوة بين دول المركز المتقدمة ودول المحيط المتراجعة عن النمو.
ومن المعلوم أن هذا النمط من العلاقة يمنع التجديد ويحرم الاجتهاد في الأصول ويعتبر أي إبداع بدعة وضلالة وأن الخلق تخلقا وترهات ويسمح فقط بالاقتداء والمحاكاة والتعظيم والتمتع بالبركة التي يمنحها الشيوخ والأئمة على الأتباع ولا يسمح بالاجتهاد إلا في الفروع عن طريق آلية القياس العقيمة ويرون أن ذلك هو المطلوب من الأمر الإلهي في الآية الكريمة: "وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم" بينما هم في الواقع أساؤوا فهمها وأولوها على غير مقاصدها لأنها ربما تعني: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والساكت على الاستبداد والظلم شيطان أخرس.والغريب أن الشيوخ يستميتون للبقاء في مشيختهم من تحقيق أكبر قدر من المنفعة المادية واستغلال نفوذهم من أجل الهيمنة والشهرة والمريدون يفضلون البقاء في وضعيتهم خوفا من انقطاع العطايا والمنح المتأتية من شيوخهم وخشية تبدل الأحوال نحو الأسوأ.

إن المطلوب هو تفكيك أواصر هذه العلاقة وتجاوز سلطة الشيخ على المريد وتحطيم أخلاق الطاعة باعتبارها أخلاق العبيد وبقايا الثقافة الإقطاعية التي لم تتعد عتبة جدلية السيد والعبد من أجل تحضير الأرضية لميلاد الفرد باعتباره حرا في اختياره مسؤولا عن أفعاله مكلفا بعقله وارث مؤسسة النبوة،وهذا الأمر لا يتحقق بقتل الأب بارمنيدس ولا بثورة المريدين على الشيوخ وخلع عباءتهم بل بخلخلة البنية التي تحكمت لقرون في الأطر المعرفية والاجتماعية والسياسية لقرون عديدة في حضارة اقرأ والإجهاز على النظام الأبوي من أجل بناء علاقة جديدة يكون فيها التفاعل الخلاق هو السائد بين المعلم والمتعلم فالجميع ما يزال يتعلم ويطلب العلم من المهد إلى اللحد وما أوتي الناس من العلم إلا قليلا... زد على ذلك أن المذاهب الكبرى والأفكار الحاسمة لم يلقنها الشيوخ للمريدين عن طواعية وبصيرة بل تشكلت نتيجة الثورة والصراع والانقطاع والتمرد الذي قام به المريدون على شيوخهم نتيجة خلاف في وجهات النظر وتباين في الرؤى،فلنتذكر حادثة مرتكب الكبيرة ورأي المنزلة بين المنزلتين الذي جعل مجرد مريد مثل واصل ابن عطاء يخرج عن شيخه أبو الحسن البصري ويؤسس كلاما جديدا في أصول الدين سيصبح له شأن عظيم فيما بعد وسيكون علامة مضيئة في مضمون الثقافة الإسلامية وستسمى المعتزلة لأن الشيخ اختزل ثورة مريده واكتفى بالقول: لقد اعتزلنا واصل،فليعتزل كل المريدون اليوم شيوخهم في كل المجلات تربية ومعرفة واقتصاد وسياسة واجتماع وسترون حال الفكر في حضارة اقرأ كيف سيتبدل.
إننا لا نطلب من الشيخ أو الأستاذ أن يخلي مكانه للمريد فتلك محافظة وإعادة إنتاج نفس العلاقة ونظل ندور في نفس الحلقة المفرغة وننتج نفس البنية التسلطية القمعية بل ننادي بأن ينصت الذين هم في مقام الشيوخ إلى آراء مريدهم وتلامذتهم ويمكنوهم من المشاركة ويقومون بدمقرطة طريقة اتصاله بالآخرين ويدربوهم على صياغة القرار بأنفسهم فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر وأن يكفوا عن الاستيلاء على أفكارهم واستخدامها لأغراضهم وضمها لممتلكاتهم الفكرية بغير حق وأن يتحلى الجميع بالتواضع ويعترفوا بالتناهي البشري فالحقيقة نسبية وخطأ وقع تصحيحه عبر مجهود يشارك فيه الجميع،وبعبارة أخرى الحقيقة هي مجتمعية وكل قول مردود عليه ويمكن نقده والمرء ليس معصوما من الخطأ وأي ادعاء بالمشيخة وأهل الاختصاص وامتلاك العلم اللدني هو ادعاء زائف. وهنا لنا في ديلتاي خير دليل لما قال: "إذا أردنا أن نكون التلاميذ الحقيقيين لكبار العلماء فلابد أن نفعل إزاء علمنا ما فعلوه هم إزاء علمهم"

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف