كتَّاب إيلاف

متى تتحرّر مجتمعاتنا من الخطوط الحمراء؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الخطوط الحمراء: المعنى والتعريف
لقد كنت مسرورا يوم الخميس التاسع من شهر اغسطس / آب 2007 عندما انهالت علّي جملة اسئلة ذكية واستفسارات غاية في الدقة بعد ان انهيت محاضرتي التي القيتها في جامعة لوكهييد ونقلتها جامعتين اثنتين اخرتين في كندا عبر الساتلايت، وكانت بعنوان: " التاريخ الاجتماعي للشرق الاوسط: البنية المفككة والذهنية المركبة " .. اذ دارت معظم النقاشات على الازمات القاتلة التي تعاني منها اليوم مجتمعاتنا في الشرق الاوسط.. واساليب مواجهتها والتفكير السائد ازاءها، ومعضلة السلطة والهيمنة ليس من قبل الانظمة السياسية الحاكمة، بل من قبل الانظمة الاجتماعية السائدة ، ومسألة الحريات والمرأة وحقوق الانسان والاقليات.. الخ وكان الاتهام الأكثر شيوعا وذيوعاً في منطقتنا، وعوالم شبيهة بها في العالم الاسلامي قاطبة تلك التي تسمى بـ " الخطوط الحمراء "! أنه بمجرد ان يفكر الانسان الحر تفكيرا عقلانيا، سيجد امامه حواجز وسدودا لا يستطيع ان يتخطاها ابدا، ولا يمكن له ان يكون حرا في اطلاق رأيه بصراحة تامة.. وليس له القدرة على تحّمل تبعات ما يقوله او يكتبه على الرأي العام، او حتى ما يخطط له من المشروعات.. ووصلت الحال ان ليس له الشجاعة على ان يتحدث حتى عن تجارب الاخرين في حياتهم وثقافاتهم وانشطتهم ومنجزاتهم ومشروعاتهم المعاصرة، كيلا يتهم بالاعجاب بهم!! ان شبكة معقدة من الخطوط الحمراء تلتف حول عقولنا ومشاعرنا، وتدخل في اعماق انفسنا.. وان كل ما نشهده وما نسمعه يكاد مقدار التحرر فيه لا يرى ابدا.. وتكاد مصداقية ما يعلن بصراحة بمنتهى الندرة. ان الخطوط الحمراء ـ باختصار ـ هي مجموعة المحرمات والممنوعات الصعبة التي تحول بين الانسان وحرياته المشروعة والمتنوعة في التعبير عما يريده ويفكر فيه وينجزه في حياته. ان تناقضا صارخا لا استطيع فهمه حتى اليوم، ذلك ان اي مشروع سياسي او فكري او فسلفي متحرر يعد خطا احمرا.. في حين بوركت اغلب مشروعات القتل والارهاب في السنوات الاخيرة!!

الواقع المزيّف والتناقضات القاتلة
في الحقيقة، تعد مجتمعاتنا من اهم المجتمعات الحيوية والنشيطة والعريقة على مر التاريخ، وكان لها الفضل في انتاج مخزون ثقافي وابداع حضاري وتعايش انساني.. ولقد انقلبت الاوضاع اليوم رأسا على عقب، فصار ما يتداول من مصطلحات عن الموضوعية والتحليل ونسبية الامور والديمقراطية في الرأي والتحرر الفكري والانعتاق.. الخ انما هي مجرد اكذوبات لا اساس لها من الصحة ابدا في مجتمعاتنا قاطبة ، اذ ان اغلب الاطروحات مزيفة، وان معظم المواقف مداهنة لما يعج في الواقع من تناقضات لا اول لها ولا آخر! ان ثمة اسقاطات ومزدوجات وثنائيات يزدحم بها التفكير، فتضج الساحة بالتضليل والاكاذيب.. او يحاول الانسان الهروب مع اية هشاشة فكرية او الضياع في بحر من الانشائيات للتمويه من دون وضع النقاط على الحروف ومن دون ان يحارب تلك " الخطوط " بالرغم من كشفه عنها!.. وهكذا حال النخب في مجتمعاتنا التي ربما يعيش بعضها صراعا داخليا نتيجة زحمة المحرمات وبلادة الممنوعات.. انها تعيش ازمة داخلية، فلا هي باستطاعتها رفض ما يفرض عليها علنا، ولا هي بقادرة على البقاء حبيسة حياة قاحلة وفجة وبليدة..
ان مجتمعاتنا فاطبة، والتي وجدت نفسها ضمن هذا السجن الازرق، ويا للاسف الشديد، ليس لها الا ان تجد الهروب باساليب سايكلوجية تدغدغ المشاعر بالراحة المزيفة وارضاء النفس بالاطمئنان.. او انها تجد طريقا آخر بتعذيب الذات والجسد بالضرب المبرح كي تشعر انها اخرجت كبتا لا حصر له.. او انها تجد في ذاكرتها ما تردده صباح مساء وترسم الامجاد في مخيلتها لتشعر انها اكبر من كل العالم.. او انها تهرب الى اي " نصوص " دينية او شعرية او اسطورية لترددها بكل لذة من دون ان تخرج عن طور اشكالها وتزويقاتها.. في حين انها لا تفكر ابدا في مضامينها الضحلة والتي لم يعد هناك اية علاقة بينها وبين حاضرنا اليوم.!

اي فكرة نقدية خط احمر..!!ّ
قال لي الروائي المغربي الراحل محمد شكري قبل 25 سنة عندما التقيته في طنجة: " ان اسوأ عبارة يرددها العرب هي التي تقول: ما كل ما يعلم يقال.. فلماذا تموت الصراحة؟؟ ". واعيد واكرر لماذا اخفاء ما يعلم؟ لماذا لا يتعود الانسان في مجتمعاتنا على المفاتحة والمصارحة والمطارحة؟ لماذا يخشى؟ لماذا يخاف؟ لماذا الكتمان؟ لماذا التآمر؟ لماذا الاسرار؟ لماذا التخفي؟ لماذا الاستعارة والاسماء المستعارة؟ لماذا التورية؟ لماذا اياك اعني واسمعي يا جارة؟ ان مجتمعاتنا لا تعرف النقد ابدا، ولا تفكيك الفكر الحر، ولا المعارضة السياسية ، ولا المخالفة الاجتماعية ولا التباين في التفكير.. ربما تجد ملاذها في التمايز، وجعل الذات فوق الشبهات أزاء الاخرين، وان خالفتهم احتقرتهم، وان تباينت معهم اضطهدتهم، وان عارضتهم كفّرتهم وجعلت الاقصاء والتهميش والاحتقار والتعذيب والموت اساليب تعامل لهم باسم الخطوط الحمراء!
ان النقد المباشر للسلطة والمسؤولين، وللسياسة والسياسيين في معظم مجتمعاتنا غير محبذ وغير مقبول ابدا، وان مجرد التساؤل في الدين والعقائد والاصول يعد مروقا وكفرا ولا سبيل للانسان في مجتمعاتنا، حتى في اطلاق النقد البناء، إلا الاعتماد على اساليب اللف والدوران، او عرض نماذج خارجية لتحقيق غرضه، او تبيان رسالته التي يؤمن بها، سواء في التقاليد والاعراف الجارية، او في العقائد والايديولوجيات السائدة، او حتى في التوجهات السياسية المعروفة. معنى ذلك ان اي تجربة ديمقراطية لا يمكنها ان تعيش في مجتمعاتنا اذا كانت هذه المجتمعات مكبلة بقيود ثقيلة جدا.. وان مجرد التفكير في هذه القيود والاسلاك الشائكة يجعل صاحبها في طور الانسحاق والفناء، فيزداد كبته وغيضه وكرهه للحياة واسترخاصه روحه! لقد انتجت الخطوط الحمراء مجتمعات مسحوقة وكسولة واتكالية تؤمن بالخرافات والبدع والتمسح وتحرق زمنها بتوافه الامور!

الخطوط الحمراء.. ماذا انتجت؟
ونحن نراقب تسلسل التراجع المهول في التفكير على امتداد القرن العشرين، نجد ان مجتمعاتنا لا تتعلم من تجاربها هي نفسها، نظرا لقوة الموجات العاطفية القاتلة التي مرت وتمّر بها.. وان مجموعة تجارب ليست فاشلة، بل قاتلة مرّت على امتداد خمسين سنة لا يمكن ان نتخّيل مثلها في اية مجتمعات اخرى في هذا العالم، ما لم تتعلم من نتائجها ودروسها! ان مجتمعاتنا لم تعتمد التعبير الحر في التحرير وكتابة الواقع والقراءة التاريخية، كونها شعوب لا تقرأ المعرفة، وان قرأت فان الغلبة ستكون للخيال والاسطورة والاشعار! انها تعتمد المشافهة والمناقلة وترديد الخطاب بغير اصله، وانها تغرقه بالانشائيات والكلام العادي! انها تستسيغ السماع لمن يدغدغ احاسيسها ، ويثير عواطفها، ويهوّل الامور ويصنع لها الامجاد الفارغة.. انها لا ترضى ابدا على كل من يفكك مثالبها وينتقد اساليبها ويعالج تفكيرها.. انها بالرغم من الخطوط الحمراء المتشابكة التي تحيطها ولا تستطيع ابدا تخطيها، فانها تخلق لها المزيد من الخطوط الحمر التي تضعها في دواخلها فتقّيد حركتها تقييدا كاملا.. بل وتجعلها جامدة لا يمكنها اداء اي حراك سياسي او فكري او اجتماعي او حتى ثقافي.. انها لا تفكّر بالواقع وحاجاته بالقدر الذي يشغل نفوسها بما وراء الواقع واشتراطاته.. انها فاقدة للتوازن بين الواقع والخيال، وفاقدة للتوازن بين الدين والدنيا، وفاقدة للتوازن بين الروح والمادة.. اما بشكل عام، فان ذهنيتها مركبة يستحيل ان تؤسس فيها اي توازن يذكر ابدا.. وعليه، فهي بحاجة الى ثورة فكرية حقيقية تكتسب من خلالها الوعي والاستنارة.

الرعب من المستقبل
ان الخطوط الحمراء قد انعكست بالضد على الاجيال الجديدة التي غدت منحازة للتزمت عند هذا الطرف او منحرفة وضائعة عند الطرف الاخر! ان تربية الاجيال على الخوف والرعب من الخطوط الحمر التي يستخدمها كل من الدولة والمجتمع، قد ولّدت انعكاسات خطيرة في مجتمعاتنا قاطبة، وخصوصا عند الاجيال الجديدة التي تكاد تكون ضائعة في متاهة فوضوية.. بل وان الخطوط الحمراء ساهمت في خلق الشعور بالتعاظم والقوة والمثالية الخيالية واحتقار الاخرين.. انها قد افقدت الانسان انسانيته وجعلته متوحشا وارهابيا قاتلا.. لقد جعلته ينظر الى المجتمعات السوية كونها خارجة عن اطار كل ما هو حلال واصبحت لا تعرف الا الحرام.. فيقدم على قتل الاخر من دون ان يعرفه ومن دون اي شعور انساني ببراءته!

وأخيرا: العلاج يكمن في التحرر من التناقضات
ان الخطوط الحمراء من المحرمات والممنوعات وما يجوز وما لا يجوز.. التي تغزو مجتمعاتنا اليوم قد قيدّت عملية الابداع تقييدا كاملا.. وانها قد جعلت من المرأة انسانا ناقصا، وضربت كل الاعتبارات في الصميم. ان اي خط احمر لا يأخذ اعتبارات الانسان وطبيعته وحرياته وحاجاته ومتطلباته وتفكيره وصناعة مستقبله، فهو عائق حقيقي في سبيل ليس تقدمنا، بل وجودنا. فهل فكرّنا يوما ان نغّير الوان هذه الخطوط كي نحرر تفكيرنا واذهاننا من كل المركبات؟ هل نجحنا في تفكيك بنيوياتنا التاريخية؟ انه من دون ذلك لا يمكن ان تحظى مجتمعاتنا بأي تقدم وازدهار. ان هذه " الدعوة " لا تريد جعل مجتمعاتنا منحلة بلا قيم ولا اخلاق.. بل تطمح ان تغدو مجتمعاتنا حرة في ارادتها وصناعة مستقبلها من خلال مشروعها الحضاري بلا خطوط حمراء. فهل وعينا الدرس وألممنا بالتاريخ؟ وهل باستطاعتنا ترجمة الواقع بلا خطوط حمراء؟ انني اشك في ذلك لثلاثين سنة قادمة!
www.sayyaraljamil.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف