وجبات الموسم..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
هذا هو عنوان كتاب المفكر الفرنسي الرحل ريفيل، الذي سبق أن توقفنا لدى كتابه "هوس العداء لأمريكا"، كما عدنا إليه عند رحيله في السنة الماضية بوصفه أحد كبار المفكرين اللبراليين في فرنسا والعالم. كان ريفيل صاحب مؤلفات كثيرة تجمع ما بين السياسة والفكر والثقافة والفنون، ناهيكم عن كونه عضوا في الأكاديمية الفرنسية.
إن كنابه "وجبات الموسم" فريد، محتوى وأسلوبا، فهو يلخص أهم الأحداث السياسية والفكرية والثقافية الفرنسية لعام 2000 عندما كان الاشتراكيون لا يزالون يحكمون منذ نجاح ميتران عام 1982.
الكتاب يتناول أهم الأحداث، شهرا بعد شهر، ومن هنا لا يمكن في هذا المقال الموجز تلخيصه بالجملة مع التعليق المناسب. نكتفي هنا بالتوقف عند محطات فليلة من الكتاب، أي من هنا ومن هناك. وحسب التسلسل الزمني.
لنأخذ لقطات من شهر أبريل من عام 2000.
يتوقف ريفيل مثلا لدى وقائع هجمات منظمات زراعية فوضوية على محلات الهمبرغر باعتبارها في نظرهم رمز "الإمبريالية الأمريكية". إن جوزه بوفيه هو قائد حملات التحريض الصاخبة ضد هذه المحلات، وهو شخصية وجدت وتجد نفسها موضع ترحيب اليسار وحتى وزراء في حكومة جوزفان الاشتراكية، ولا يزال بوفيه شخصية سياسية رشحت نفسها لمنصب الرئاسة. في 19 أبريل انفجرت قنبلة في محل للهمبرغر في مدينة دينان، وقتلت إحدى العاملات. إن منظمة بوفيه وهو شخصيا قد تبرءوا من الجريمة، ولكن وسائل الإعلام لم تشأ أن تسأل بوفيه عما إذا لم تكن دعاياته التحريضية دافعا لأحد المتطرفين لاقتراف تلك الجريمة. إن مروجي دعايات الكراهية والتحريض، سواء ضد محلات بعينها، أو أشخاص، أو أحزاب، أو معتنقي دين معين، ألخ. يتحملون مسئولية خاصة عن كل جريمة تقترف تلبية للأفكار التي يبشرون بها، وهو ينطبق بوجه خاص على دعاة التطرف والكراهية باسم الإسلام، حيث إن دعايات الدعاة الإسلاميين تؤجج مشاعر العنف والحقد عند من غسلت أدمغتهم، فيقترفون كبريات الجرائم باسم الدفاع عن الإسلام.
في 6 أبريل من 2000 انعقد في القاهرة مؤتمر يضم ممثلي 67 دولة حول قضايا أفريقيا، و يعلق ريفيل قائلا: " إن ما يصدمني أكثر في الثرثرة السياسية لمعظم دول العالم هو الموضوع المهيمن في التنصل من المسئولية". قاصدا ما اعتادته الدول الأفريقية من إلقاء مسئولية كل ما يجري عندهم على الغرب، واتهامه بالتقصير في تقديم المساعدات. إن هذه لدول تتجاهل أن ما يقدم لها من أموال منذ أربعين عاما ينهب أو يهدر"، كما يتناسون أن المساعدات لم يكن ممكنا تقديمها لأثيوبيا بسبب حربها مع أريتريا، تلك الحرب الموجودة أسبابها في أفريقيا نفسها، كما هي حرب الكونغو، ولا يمكن أيضا عدم الإشارة لفظائع قادة دول أفريقية مثل كابيلا، الذي تحالف مع ميليشيات الهوتو، التي اقترفت جرائم الإبادة في رواندا عام 1994.
إن ظاهرة تعليق المسؤوليات المحلية على المشاجب الخارجية والأمريكية خاصة، واعتبار كل ما يجري من مآزق سياسية وتخلف وتناحر يعود للدسائس "الصهيونية" أو الإمبريالية الأمريكية"، هي السلعة الأكثر رواجا في سوق السياسات العربية.
في 15 أبريل نشرت جريدة لوموند دراسة هامة لناتالي غيبرنت عن مطالب وأوضاع طلبة الأقليات في المدارس الفرنسية، ولاسيما المسلمين منهم.
تلك الدراسة تأتي بوقائع كثيرة عن مطالب الطلبة في العزل وفق الدين والأصل في المطعم، والمطالبة بتمكين الطلبة المسلمين من الصلاة في الممرات، وإعفائهم من الواجبات في رمضان. كما يطالب بعضهم المدرسيين بتحوير محتوى ومواد التعليم، خصوصا في الأدب الفرنسي، والتاريخ، والبيولوجيا، بما "لا يتعارض مع مبادئ الإسلام". أحدهم لا يجرؤ على قراءة نص لفولتير في الصف، وأستاذ اتهم بالعنصرية لكونه كان يشرح نصا لشاتوبريان. إن المدرسة، كما يؤكد المؤلف، يجب أن تكون محايدة بقدر ما يتعلق الأمر بالأديان، ويجب أن تكون عامل توحيد، وتثقيف بالقيم الديمقراطية ومبادئ الجمهورية. إذن، منذ ذالك الزمن وقبله، كان المتطرفون والمتزمتون الإسلاميون الفرنسيون، كما سائر الإسلاميين في الدول الغربية الأخرى، يحاولون تحريف القيم الديمقراطية والفرنسية، وتغيير مسار المجتمع، ليتبنى طقوسهم وأفكارهم المتخلفة المخالفة لقيم العصر، وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير.
أما في بعض وقفات الشهر التالي، أي شهر أيار، ففي 3 منه كانت تظاهرات وأعمال شغب أعداء العولمة في زيوريخ. لقد أحرقوا السيارات، وفي لندن اعتدوا على تمثال تشرشل. لقد شنوا حملة هائجة على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين اقترحا تشكيل مؤسسات أكثر كفاءة لتقديم القروض للبلدان الفقيرة، ويكتب المؤلف "كيف يمكن أن يكون تخريب المستشفيات ومطاردة الأطباء فكرة عبقرية؟1"
في 25 من آب 2000، أعلن نظام صدام عن حظر زيارة فريق التفتيش الدولي. يكتب المؤلف أن صدام يقدم دليلا جديدا على عدم التزامه بقرارات تعهد بالالتزام بها. إن الخبراء المحايدين كانوا قد أكدوا على أن نظام صدام كان يصنع ويحفظ كميات كبيرة من السلاحين الكيمائي والجرثومي. أما لو كان ما يعلنون غير صحيح، فأي مبرر إذن لمنعهم من التفتيش؟؟ ولا يقصر ريفيل في انتقاد كل الطبقة السياسية الفرنسية، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بسبب مواقفهم من القضية العراقية، أي معارضة تشديد الضغط الدولي على النظام السابق لإجباره على احترام القرارات الدولية. لابد هنا من تسجيل أن وزير الخارجية الفرنسية الحالي، برنارد كوشنر، كان من بين قلية نادرة من الساسة الفرنسيين ممن أدانوا النظام المنهار لانتهاكاته البشعة لحقوق الإنسان العراقي ولحقوق القومية الكردية وبقية الأقليات، وكوشنر هو نفسه الذي يفتتح في عهد رئاسة سركوزي مرحلة جديدة من السياسة الفرنسية تجاه العراق، وهو ما يعكس أيضا عودة الحرارة للعلاقات مع الولايات المتحدة.
تلك كلمة موجزة للتعريف بالكتاب، الغني مادة، وهو يطرح ويثير إشكاليات لا تزال كثرة منها قائمة لليوم، ولكن على مستوى غير مستوى أمس، بعد تحولات كبرى في فرنسا، والعالم، والعراق في أعقاب 11 تموز.
إن الكتاب يوحي لي بالفكرة التالية: هل سيقوم يوما ما كاتب عراقي لامع، له ثقافة غنية، وتجربة سياسية غزيرة، بتأليف كتاب من هذا النمط عن "الطبخات العراقية" في سنوات عهد صدام، وعهد ما بعده؟ لا شك أن هكذا كتاب سيكون في مجلدات، ويتناول العشرات من الأحداث الخطيرة التي يربط بينها جميعا قاسم مشترك أكبر: هو الدم، والخراب، والنهب والفساد، والتخلف المروع الذي وصل له الفرد العراقي بعد عقود من حكم صدام، ثم صعود الأحزاب الطائفية للسلطة من بعد سقوطه. الكتاب المقترح سيتضمن دون شك كيف تعمل إيران، وسوريا، وأوساط خليجية، لتمزيق العراق وفرض أجندتها على أرضه، ويقدم دراما رهيبة من بين كبريات الدرامات التي عرفتها الشعوب منذ عقود من السنين. فهل من سيتصدى لمثل هذا العمل الكبير والشاق، أو قيام مجموعة من كتابنا المقتدرين بالمبادرة لإنجازه؟
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية