يهود العراق، ذكريات وشجون، 27
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كان الوالد قلقا من ولوعي بالألعاب الرياضية والمطالعة وإهمال دروسي في المدرسة وقال يجب أن نؤمن مستقبل سامي بطريقة أخرى فهو ليس من المتفوقين في الرياضيات واللغة الإنكليزية ولذلك لا يرجى منه في أن يصبح تاجرا. ولم يكفّ الوالد عن التفتيش عن طريقة أفضل. قرأ إعلانا في إحدى الصحف البغدادية أن وزارة الداخلية ستعقد دورات لمساحي الأراضي في العراق يتمكن بعدها الخريجون من المدارس الابتدائية من الحصول على راتب محترم. سـرّ الوالد لهذا النبأ، إذ وجد فيه ضالته، فسامي يطلع من الحق في مثل هذه الأمور، ورشحني، دون أن يستشيرني، كالعادة في العراق، فالوالد يقرر لأولاده مستقبلهم، لمنصب المساح ذي المستقبل المضمون. كانت شروط القبول أن يكون الطالب قد أنهى الدراسة الابتدائية ويحسن الحساب ونال درجة ثمانين على الأقل وأن يكون طويل القامة لكي يستطيع حمل آله القياس والنظر في دربينها (منظارها) لقياس الأراضي. كنت آنذاك في الصف الخامس الابتدائي، ولكن هذه أشياء ستعوض عنها شطارتي، أما صغر سني وطول قامتي فقد تفتقت عبقرية الوالد عن حل بسيط لها، أن أضع على رأسي سيدارة فيصلية عراقية وأسير منتصب القامة بمرافقة أبو علوان لأبدو أبن مسلم لكي تتسهل الأمور. ووافق أبو علون أن يقوم بدور الوالد ومرافقتي إلى المدرسة الإبتدائية للبنين في البتاويين لأجراء فحوصات القبول وهي المدرسة التي يقال إن نوري السعيد الهارب تم إلقاء القبض عليه قربها (وقد شاع في إسرائيل أن حفيده، ابن صباح نوري السعيد، من فتاة يهودية قدمت به الى اسرائيل في الهجرة الجماهيرية، فأصبح رئيسا لبلدية المدينة التي أطلق عليها أسم هضبة بغداد لأنها تعج بيهود العراق. وهذا برهان آخر على أن الدم ما ينقلب ماي). اكتشف نوري السعيد ولد من المحلة قرب هذه المدرسة عندما قام الوزير السابق بمحاولة العثور على مخبأ آمن له وهو متنكر بعباءة نسائية سوداء، ولكنه لم يدرك أن بنطلون بيجامته كان ظاهرا من أسفل العباءة، فاكتشف أمره ولد شاطر، ونال الثعلب العجوز مصرعه الأليم، ولكن أحفاد نوري السعيد تكاثروا في إسرائيل مطعمين الدم اليهودي بدم أحد زعماء العراق العتاة. ومن يدري فلعل أحدهم سيتبوأ في يوم من الأيام منصب رئيس الوزراء في إسرائيل الديموقراطية، ويطلع على جده الداهية السياسي. فالدم لا ينقلب ماي كما تعلمون.
قام الوالد بحضور العائلة بعمل "براوات" (تحضير وأعادة ترتيب التفاصيل لاحكام التمثيلية) لتتويجي مساحا بالتاج العراقي، أي السيدارة الفيصلية. جاء والدي بسيدارته وأمرني أن اعتمرها. وضعتها على رأسي فأذا بالسدارة تنزلق وتغطي عينيي والى حنكي. أنفجر الجميع بالضحك وأنا واقف لا أدري ماذا جرى، فقد أظلمت الدنيا فجأة أمام عيني وهم يضحكون. تظاهر الوالد بالجدية. فهو لا يحتار ولا يفقد برودة أعصابه في مثل هذه الحالات، بينما كانت أمي في مثل هذه المواقف تقول "أبدالكم قلولي وين أغوح أ وين أجي، سوولي جاره!"،. قال الوالد برباطة جأش: "ما يخالف، هسا نسوي جارة والسيدارة متنـزل على عينك". أخذ إبرة وخيط وقاس طول رأسي وعلّم على السيدارة وخيطها. وضعها مرة أخرى على رأسي وأمي تحاول كتمان ضحكتها وهي تغمز بعينيها الى أخواتي وأخوتي، وقد برز القسم المخيط من وراء رأسي مثل قبعة نابليون المثلثة، وهي تقول " أش قيسوي ابحالو الولد المسكين"، قال الوالد: هسا ساغت تمام، أشو تال جاي. ووضع السدارة على رأسي فلم تنزلق على عيني، بل كبحت أذناي انزلاقها هذه المرة وبرزتا كالمروحيتين وتعالى الضحك من الأخوة. قال الوالد: والله هسا ساغت تمام، وطيلع بيها سامي كني عغيض (عريس). غاح يطلع أكبر وأحلى مساح بالعراق! ضحكت الوالدة والأخوات بشفقة، وضحك جاكوب بتشفٍ من أبو عيون العغبي. وقالت الوالدة: "شوفوا اش قيلعب بحالو السامي المسكين، هايي كلها كيف سميتونو على اسم أبويي المغحوم". كانت الوالدة على عادة اليهود في العراق قد أصرت على اطلاق اسم والدها المرحوم "شاؤل" عليّ إلى جانب اسمي العراقي "سامي" الذي كان سيقيني من التفرقة الدينية آنذاك. وكان والدها قد توفي فجأة وقبل أن يرى فرحة بناته وأبنائه الستة، فآلمهم ذلك. ولذلك أطلقوا على كل ذكر ولد في العائلة بعد وفاة الجد أسم شاؤل، وإذا ذكروا أسم شاؤل كان عليهم ان يخصصوا أي شاؤل هذا، هل هو شاؤل ابن صيون أو ابن ساسون أو ابن حاييم أو أبن سليم، وأنا اصبح اسمي بين أفراد عائلة والدتي: شاؤل ابن سنيورا. وعندما هاجرت إلى إسرائيل وجدتها فرصة سانحة وغيرت اسمي طوعا الى شموئيل آملا أن اصبح شاعرا مثل السموأل (شموئيل) بن عادياء اليهودي. كان السموأل موضع اعجاب بين يهود البلاد العربية وقد ألف الأديب اليهودي نسيم ملول من أصل مغربي تمثيلية "شهامة العرب أو السموأل وامرؤ القيس" عندما كان مدرسا في مدرسة الأليانس في الحلة واعجب بها سكرتير الجمعية الأدبية سلمان شينه، فألف فرقة تمثيلية مع أنور شاؤل ومراد ميخائيل وغيرهم وقرروا تمثيلها في بغداد ودعوة رئيس الوزراء آنذاك عبد المحسن السعدون كضيف شرف لمشاهدتها. أعجب رئيس الوزراء السعدون إعجابا كبيرا بالممثلين وبالتمثيلية وبموضوعها الذي يشيد بالتعاون اليهودي العربي وروابط الصداقة والاخلاص بينهم، وأوصى أن تعرض مرة أخرى على شرف الملك فيصل الأول وبحضوره مع حاشيته، واقيم عرض خاص لجلالته. وعندما القى خصم امرئ القيس القبض على ابن السموأل كما رواها صناجة العرب الشاعر االمخضرم الأعشى عندما التجأ الى شريح بن السموأل في الأبلق الفرد في تيماء طالبا أن يجيره مذكرا إياه بوفاء والده حين جاء الحارث بن أبي شمر الغساني وأسر ابن السموأل وقد رجع من الصيد وطالبه بتسليمه دروع امرئ القيس وحريمه، أبى السموأل أن يخون صديقه، فقال الأعشى لشريح مخلدا هذه الحادثة وطالبا منه أن يجيره:
كن كالسموأل إذا طاف الهمام به في جحفل كسواد الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال لـه قل ما بدا لك إني سامع حارِ
فقال: غدر وثكل أنت بـينهما فاختر وما فيهما حظ لمختارِ
فشـك غير بعيـد ثم قال لـه اقتل أسيرك إني مانع جاري
فلما أبى السموأل، قال له الحرث، إني قد أسرت ابنك فادفع الي الدروع والا ضربت عنقه، وعندما أهوى الحارث بن أبي شمر الغساني خصم امرئ القيس بسيفه ضاربا عنق الغلام الرهينة، صرخت ابنة السموأل في التمثيلية وهي تنظر الى مصرع أخيها من سور الأبلق: رباه! قتلوا أخي، قتلوا أخي!"، صرخ الملك لصرختها وكاد يغمى عليه متأثرا من هذا الموقف، وانهمرت الدموع من عينيه، فأوقفوا التمثيلية إلى أن هدأ روع جلالته. رحمة الله عليك يا صاحب الجلالة الهاشمية الأغر. هكذا كان رد الملك المحبوب من شعبه والذي أوصاه قائلا "الدين لله والوطن للجميع"، فجمع العراقيين تحت لوائه في وحدة وطنية رائعة. وشتان ما بين تصرف الملك الهاشمي النبيل وبين تصرف الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان في مقال له ردّ فيه شهامة السموأل ووفاءه الى أمر "الربا" جاعلا منه شيلوكا عربيا ضحى بابنه في سبيل المال وهو الثري صاحب الأبلق الفرد في تيماء، متهما أياه بانه كان يأمل الحصول على الربا بعد عودة امرئ القيس من رحلته الى القسطنطينية والتي قال عنها شاعرنا الأمير الكندي الفاسق:
بكى صاحبي لما رأى الـدرب دونـه وأيـقـن أنـّا لاحـقـان بقــيـصرا
فـقـلـت لـه لا تـبـكِِ عــينـك إنــّا نحـاول ملـكـا أو نموت فـنعذرا
على مثل هذه الشهامة تثقف طلاب العراق آنذاك وعلى مثلها يبكون، حتى جاء ساطع الحصري ومفتي القدس والمقدادي والعبوشي وأيقظوا الفتنة النائمة. وهكذا تشوه السياسة والدعاية القومية والتعصب الديني حقائق التاريخ وتزرع التفرقة والكراهية والحقد الأسود بين الشعوب.
وقد اقتديت بتغيير اسمي الى شموئيل بفعل كل من أنور شاؤل الذي لقب نفسه بابن السموأل ومراد ميخائيل الذي لقب نفسه بالسموألي ولم يكن السبب أن السلطات في إسرائيل اجبرتني على تغيير اسمى كما ادعى حسين الأعرجي في مقالة نشرها بعد لقائنا في كولون بدعوة من الأستاذ الشاعر خالد المعالي. والبرهان على ما أقول هو أن الوزير بنيامين بن أليعزر ما زال يدعى حتى في الكنيست باسمه العربي العراقي فؤاد الذي يحمله بفخر.
بوخوم، ألمانيا، في 21/7/ 2007،
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة أيلاف.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف، ولا يجوز نشرهذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وأذن خطي من المؤلف، أ.د. شموئيل (سامي) موريه