هل يمرض الحكام وقد مات من هو أكرم...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1
حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة وستين عاما، صعُب الأمر كثيرا على الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد حسبه خالدا، ولم تصدق موته عيناه، فوقف في الناس، وهدد وتوعد بالقتل أو بالقطع، كل من يقول أن رسول الله قد مات: (عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دهش الناس، وطاشت عقولهم، واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله عنه فخُبل، وأما عثمان رضي الله عنه فأُخرس، وأما علي كرّم الله وجهه فأُقعد. وقام عمر وقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران عليه السلام، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة، بعد أن قيل قد مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه - السيرتان الهشامية والحلبية).
وقد يكون عمر رضي الله عنه معذورا، فالميت ليس إنسانا عاديا، بل رسول الله وحبيبه وصفيه، ثم أن الرجل أخطأ كما اعترف لابن عباس، في فهم وتفسير الآية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا- البقرة 143) وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. كما نسى وجود الآية التي تقول أن محمدا سيموت وما هو إلا بشر مثلكم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين- آل عمران 144). وتساءل حين قرأها أبو بكر رضي الله عنه: أهذه الآية في القرآن؟ وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن، لما نزل- (السيرتان: سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية).
وبالرغم من جلالة الحدث، وفداحة المصاب، وأهمية الميت الذي لا يضاهيه في الأهمية بشر. وبالرغم من أن ابن الخطاب أنكر بادئ ذي بدء موت الرسول، إلا أن عمرا رضي الله عنه، لم ينجر لنظرية المؤامرة، ولم يتهم أحدا لا من اليهود، ولا من غير اليهود، رغم كثرة أعداء الرسول الذين حاولوا قتله وتمنوا موته. فالموت حق لا مهرب منه، خاصة لرجل جاوز الثالثة والستين، كافح وجاهد، وحمل أعباء أمة، ورسالة.
2
دُهش الكثيرون من الفلسطينيين، حين مات رئيسهم الختيار أبو عمار عن عمر ناهز الخامسة والسبعين (4/8/1929- 11/11/2004). ولمَ العجب، وقد مات من هو أعز وأكرم منه عند الله في سن الثالثة والستين؟ وأصيب بعضهم بالذهول أيضا، وكأن الختيار خالد لا يموت، أو كأنه قد مات وهو في عز شبابه! أو كأن متوسط الأعمار في بلادهم تسعين عاما لأولياء الأمر والزعماء، والثامنة والستين فقط، لباقي خلق الله من الرجال. أو كأن المرحوم عرفات لا يمرض! وإن مرض لا تميته الأمراض مهما كثرت واشتدت! ولا تهرم خلاياه، ولا تتوقف عن التجدد، مهما طعن في السن وشاخ! أو لعل الفلسطينيين كانوا على ثقة تامة من أن قوة حرس الرئاسة، والأجهزة الأمنية، كفيلة بأحباط مخططات ومؤامرات الأمراض التي ستداهم الرئيس، وتناوشه، وتهاجمه من كل جانب. وقد كانت كثيرة عديدة تلك الأمراض، لدرجة أن أحد المسؤولين الفلسطينيين المقربين جدا من المرحوم عرفات، أجاب على سؤال أحد الصحفيين، بالقول: (بل قل ما هو المرض الذي لم يناوش أبا عمار).
3
لا تكاد تهدأ حملة التشكيك والشبهات والاتهامات بأسباب موت الرئيس عرفات، حتى تستعر من جديد. وآخر هذه الحملات بعد تلك التي أثارها القائد الحمساوي الدكتور محمود الزهار، هي التصريحات التي أدلى بها قبل أيام السيد بسام أبو شريف المستشار السابق للرئيس عرفات، وأعلن فيها أن الرئيس الراحل تعرض لمؤامرة قتل بالسم، وطالب بتشريح جثته. وقال أنه لا يستبعد أحدا من الاشتراك في هذه المؤامرة.! لأن الرئيس كان محاصرا في المقاطعة. وحين يملك الدليل الدقيق على اتهاماته سيعلنه على الملأ. كما اتهم السيد أبو شريف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك والأطباء الفرنسيين بأنهم يعرفون السبب الحقيقي لموت عرفات (الموت بالسم) لكنه أي الرئيس شيراك يتكتم على تلك الحقيقة لسببين. أولا: خوفه من حدوث ردود فعل في الشرق الأوسط قد تعني براكين. وثانيا: حرصه على استمرار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين (أنظر نقطة نظام- العربية). وكأن ردود أفعال الطرفين نحو بعضهم بعضا، هادئة وسلمية، أو كأن عملية السلام بينهما تسير على أحسن ما يرام، ولا تشوبها شائبة!
ومنذ الساعات الأولى لانتقال الرئيس عرفات إلى فرنسا للعلاج، بدأت حملات الغمز واللمز، والاتهامات المبطنة بين القادة الفلسطينيين. وكما يبدو فإن الكعكة الفلسطينية كبيرة وشهية، والكل يريد حصة دائمة ومعتبرة منها. بما فيهم السيدة سهى زوجة الرئيس عرفات، التي وجهت قبيل الإعلان عن وفاة زوجها بثلاثة أيام، رسالة إلى الفلسطينيين اتهمت فيها بعض قادتهم الكبار، بأنهم حفنة من المستورثين، يريدون دفن عرفات وهو حي. ودعت الشعب الفلسطيني إلى رفض الزيارة التي يعتزم القيام بها إلى باريس، للاطمئنان على صحة الرئيس، كل من السادة محمود عباس وأحمد قريع وروحي فتوح.
4
إن بعض الفلسطينيين الذين تستهويهم نظرية المؤامرة لم يقبلوا بالوفاة الطبيعية للرئيس عرفات، بالرغم من كبر سنه وكثرة أمراضه، واعتبروا موته اغتيالا مدبرا، وأن مؤامرة حيكت في ليل بهيم، شاركت فيها أطراف عديدة، قريبة وبعيدة، استعمارية وإمبريالية وإسرائيلية، دست السم للسيد الرئيس في أذنه أو عينه أو ثيابه أو طعامه أو شرابه. وقد لا يلام هؤلاء الفلسطينيين لأنهم لم يسمعوا من قبل، ولم يعلموا أن أبا عمار يشكو مرض ما! وإذا ما أذيع خبر عن نزلة برد، أو وعكة صحية ألمت به، سارعت وسائل الإعلام الوطنية والصديقة والممولة، المرئية والمسموعة والمكتوبة والمهموسة إلى تكذيب الخبر جملة وتفصيلا، علما بأن صحة الحاكم ليست مسألة عائلية، بل هي شأن عام تهم جميع المواطنين.
5
من رابع المحرمات في بلدان العالم الإسلامي الحديث عن مرض الحكام، بل لعله أخطر هذه المحرمات، لأنه يبعث القلق والاضطراب في صفوف المواطنين، والخوف بين صفوف الجند المقاتلين. وينشر الرعب في نفوس المقربين، والتراخي واللامبالاة في صفوف الموظفين، ويقوي عزيمة السارقين. كما أنه يحيي آمال المعارضين، ويفتح شهية الطامحين والطامعين في الحكم، ويحرضهم على تكثيف حركتهم ومضاعفة جهودهم المعادية للحاكم، ناهيك عن التأثيرات السلبية الاقتصادية والسياسية والمالية و.... الخ على البلد.
لذلك عندما نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية (معا) في 14/5/2007 خبرا مفاده أن الزعيم الليبي معمر القذافي أصيب بجلطة دماغية استدعت نقله إلى أحد المستشفيات، وقد تم استدعاء أبنائه عل وجه السرعة، لأن حالته خطيرة جدا. لم تسكت الحكومة الليبية على الخبر. بل (قام السيد عبد الرحمن شلقم، أمين الاتصال الخارجي في الجماهيرية الليبية بتوكيل المحامي حسن صالح نصر الله عضو نقابة محامي فلسطين وتقديم دعوى ضد "وكالة معا الإخبارية" ومديرها العام ناصر اللحام. واعتبرت الدعوى أن هذا الخبر عار عن الصحة، وأن نشره قد ألحق ضررا كبيرا بموكلنا وبصفتنا وبأشخاصه، وبرمز دولتها، كما ألحق ضررا بالاقتصاد العالمي أثر على الاستقرار السياسي في المنطقة كما أثر على العلاقات الثنائية بين كل من ليبيا وفلسطين، وأضر بالأمن الخارجي، وقد شكل ذلك مخالفة لقانون العقوبات الفلسطيني رقم 74 لسنة 1936 وخاصة المادة 77 منه. وطالب المحامي أن يُتخذ بحق المدعى عليه ناصر اللحام الإجراء المناسب طبقا لقانون العقوبات ولقانون الإجراءات الجزائية وقانون المخالفات المدنية). دون أن ننسى أيضا اللغط الشديد الذي يدور حاليا في مصر حول الرجل الذي سيخلف الرئيس مبارك، بسبب ما أُشيع عن مرض الرئيس البالغ من العمر (79) عاما، ومغادرته البلاد سرا إلى فرنسا أو ألمانيا للخضوع لعلاج سريع ومكثف (أنظر إيلاف العدد 2290 أخبار خاصة).
6
كم من العمر يجب أن يعيش الرئيس عرفات؟ كم من السنين يجب أن يعيش رجل مثقل بهموم ومشاكل شعبه، ومتاعب أصعب وأعقد قضية في العالم، رجل حمل على منكبيه تطلعات شعب مشرد، وآمال وطن محتل ممزق، بالتحرر والوحدة؟ كم من السنين، يمكن لهكذا رجل محكوم بالإقامة الجبرية، تناكفه مجموعة من شعبه، وتقف في وجه مخططاته وسياساته، أن يعيش بعد الخامسة والسبعين؟
لقد أمضى الرئيس عرفات الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته في مقره الإجباري لم يبرحه أبدا، يحيط به رهط من أقرب المقربين والمحبين والخلصاء، ليس فيهم عدو أو معارض أو محايد، يسهرون جميعا على حمايته وراحته، يحضّرون طعامه، وينظفون ثيابه، ويتابعون نومه واستيقاظه، ويختارون زواره. كما يحيط به أطباءه المخلصون، يسهرون على صحته وعلاجه، ويراقبون كل حركة من حركاته، وكل تطور أو تغيير في صحته. فمن هو المتهم الخائن الذي تآمر على حياة الرئيس؟ هل يمكن لجهة خارجية أن تغتاله دون معاونة ومساندة من الداخل؟ وهل يستطيع شخص بمفرده مهما أوتى من ذكاء ودهاء أن يقتل الرئيس؟ أم أن هناك مجموعة تعاونت وخططت ونفذت؟ ما هي الأدلة التي يملكها هؤلاء المشككون المطالبون بلجنة تحقيق؟ أم أن المهم ألا نخرج من تقاليدنا وثقافتنا التي تعزو كل شيء لنظرية المؤامرة.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية