كتَّاب إيلاف

جذور العلمانية في الإسلام المبكر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الدولة الدينية الثيوقراطية التي ينشد كثير من الإسلاميين إقامتها، لا تقوم على أي سند شرعي حقيقي في الإسلام، وبعبارة أخرى، فإنه لا دليل عليها في القرءان الكريم وصحيح السنة المشرفة، أما الدولة في التاريخ الإسلامي، فليست في واقع الأمر إلا بدعة ابتدعها المسلمون الأوائل، وتحديدا بعض الصحابة (رض) بعد وفاة الرسول (ص) في سقيفة بني ساعدة، وقد كانت إلى حدود مقتل علي بن أبي طالب، بدعة حسنة قبل أن تسوء مع انقلابها إلى ملك عضوض على يدي معاوية بن أبي سفيان.
والإسلام كما أوضح الأستاذ جمال البنا محقا، هو دين وأمة، وليس دينا ودولة كما يؤمن الإسلاميون، وهو أمر بينه القرءان وزكاه، من خلال المذكور في آيات كمثل "اليوم أكملت لكم دينكم.."، و" وإن هذه أمتكم.."، أما الدولة فلا ذكر لها في النصين الأساسيين المؤسسين للإسلام، إلا من لي المؤولين لبعض الآيات التي أشير فيها إلى "الحكم"، والحكم القرءاني يحمل دلالات دينية أكثر منها سياسية.
وأمة المسلمين قد تقيم لها دولة أو دولا، كما جرى طيلة القرون الماضية، أما مقولة الدولة الإسلامية الواحدة الموحدة فليست إلا وهما يتردد، فقد كان الغالب تماما في التاريخ الإسلامي تأسيس المسلمين عدة دول وصلت اليوم إلى أكثر من خمسين، ناهيك عن انقسام المسلمين إلى عدة فرق وطوائف ومذاهب، فضلا عن انتسابهم إلى أعراق واثنيات ولغات وأجناس وقارات متعددة.
وأهم ما في هذا الرأي، أن طبيعة الدولة أو الدول في الإسلام ليست محددة تماما، وأن الذين قالوا بطبيعة دينية ليسوا أقوى حجة في السند الشرعي والتاريخي، من الذين يقولون بأنها علمانية أو مدنية، وكلا المصطلحين حديث أو معاصر، حيث لم يكن الفكر السياسي والتاريخ البشري ساعة ظهور الإسلام بداية القرن السابع الميلادي، قد بلور صراعا حقيقيا بين الكهنوتيين والإنسانيين حول طبائع الدول، على الأقل على النحو المتداول حاليا.
والرأي إذا، أن الدولة في الإسلام المبكر، سواء التي أنشأها الرسول (ص)، أو تلك التي طورها الخلفاء الراشدون (رض) من بعده، كانت أقرب إلى أن تكون دولة علمانية، وهي لم تكن في كل الأحوال دولة دينية، فقد كان الرسول الكريم (ص) يؤكد على أنه "إبن إمراة من قريش تأكل القديد"، كما ذكر القرءان في أكثر من موطئ طبيعته البشرية، و حسم حديث تأبير النخل "أنتم أدرى بشؤون دنياكم" مسألة العلاقة البشرية التي تربط الحاكم بالمحكوم في دولة يثرب، كما أجاب الرسول عليه السلام أصحابه إلى أن أمور الحرب والسياسة إنما هي من عنده وليست وحيا منزلا، ولهذا أمكنت المراجعة وجاز في أمرها التعديل.
ولا يورد المؤرخون ما يشير إلى ملامح كهنوتية للدولة الإسلامية، إلا عندما يتطرقون إلى الفترتين الأموية والعباسية، حيث يفصح أحد الخلفاء الأمويين على أنه "إنما يحكم رعيته بأمر الله"، أما الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي فقد قال "أنه ظل الله في الأرض"، وقد تطورت الأحكام والآداب السلطانية منذ الأمويين والعباسيين تدريجيا إلى صياغة ملامح ثيوقراطية للدولة في الإسلام، تقوم على مكانة إلهية للحاكم، وتطويع مستديم للآيات القرءانية والسيرة النبوية وتراث الصحابة من أجل إقناع الرعية وإخضاعها، حيث قدس التراث بدل فهم مقاصد النص.
بالعودة إلى دولة يثرب التي وضع الرسول محمد (ص) حجر أساسها، وأقام بناءها المؤسساتي والقانوني والتوسعي عمليا الخلفاء الراشدون (رض)، وخصوصا الخليفتان الأولان أبوبكر وعمر، فإن الوقوف على طبيعتها البشرية غير المقدسة، لم يعد عملية شاقة من الناحية الأكاديمية والعلمية، ففضلا عما كشفه الرسول عليه السلام من أن قراراته السياسية والحربية كانت جزءا من سيرته البشرية غير المعصومة، فإن بيانات الخلفاء الراشدين الرئاسية المتتالية قد صبت في مجملها في تكريس الطابع غير الكهنوتي للدولة التي أسسوها وقادوها.
لقد سمح الرسول (ص) لصحابته بأن يخالفوه في قراراته السياسية والعسكرية، و يناقشوه ويراجعوه ويوجهوه، بل إن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) لم يجد غضاضة في إبطال حكم يوحي به ظاهر الآية القرءانية، وهو المتعلق بحقوق المؤلفة قلوبهم، حيث قال أن المسلمين كانوا في حاجة إليه ساعة نزول الآية، فيما يرى أن عقدا من الزمان قد غير من حال المسلمين، حيث لم يعودوا في حاجة إليهم، فكم من حكم يستحق إعادة تأويل النص القرءاني بعد مضي قرابة الخمسة عشرة قرنا من نزول الوحي.
و يقول أبو بكر الصديق (رض) في خطبة التولي بعد اجتماع السقيفة، أنه ولي على الناس وليس بخيرهم، وقد دعاهم إلى إعانته إن أحسن، وإلى تقويمه إن أساء، ولا يعتقد أن حاكما ثيوقراطيا يسود الناس ممثلا لله، يعترف لمواطنيه بأنه يخطئ ويصيب، وبأنه يقبل التقويم والمراجعة، والثابت أنه قد أم الناس في الصلاة والرسول (ص) على فراش المرض، غير أن صهيبا الرومي (رض) قد صلى بالناس وعمر بن الخطاب (رض) طريح بسبب الطعنة، غير أنه لم يولى الخلافة.
و يعلم المسلمون أن الخلفاء الراشدين (رض) لم يكونوا أفقه الناس بالدين في زمنهم، وأن هناك من الصحابة (رض) من كان يتفوق عليهم في العلم الديني، غير أن الاختيار السياسي في دولة رسول (ص) أو دولة الخلفاء كان اختيارا زمنيا ولم يكن اختيارا أكليركيا، وإلا كيف جرى تولية معاوية على الشام وهو من الطلقاء الذين أسلموا بقوة السيف سنة فتح مكة.
إن باحث أكاديميا مرموقا كالأستاذ خليل عبد الكريم، يرى أن مشروع محمد بن عبد الله (ص) كان في الأصل مشروعا سياسيا استهدف تحقيق حلم أجداده قصي وهاشم وعبد المطلب في إقامة دولة مركزية لقريش (انظر كتابه القيم "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية)، وقد جرى توظيف الدين لخدمة هذا المشروع، مما قد يفهم منه أن الأصل في حياة الرسول (ص) الدولة، والاشتقاق هو الدين، غير أنني أرى شخصيا خلاف ذلك تماما، فقد جاء محمد عليه السلام للناس بدين سماوي عظيم، وكانت الدولة في حياته عرضا زمنيا بشريا اضطرته قريش إلى تأسيسه، بعد أن منعته من حرية التعبير وحاصرته وعذبت أتباعه وطردته إلى يثرب.
وللباحث أن يتساءل، ما كانت ستنتهي إليه طبيعة الإسلام لو أن الرسول محمد (ص) لم يضطهد في مكة ويهجر إلى المدينة، وهل كان لدولة يثرب أن تتأسس لو خلي بين داعية التوحيد والقرشيين، فلم يحاصر الهاشميون في الشعاب، ويهرب المهاجرون إلى الحبشة، ويهدد صاحب الرسالة والدعوة بالتصفية الجسدية وذهاب دمه بين القبائل؟
ثم من حق الباحث أن يسأل أيضا، عما إذا كان المسلمون الأوائل سيؤسسون دولة، لو أن الدعوة المحمدية بعثت في مجال جغرافي لا يعيش حالة فراغ سياسي وغياب دولة، كما كان عليه أمر الحجاز في بداية القرن السابع الميلادي، فقد كانت توجهات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مختلفة لما بعث في فلسطين حيث يسود قيصر روماني، في حين أن جوهر الرسائل السماوية الثلاثة واحد، وهو التوحيد، فهل يعقل أن يكون الدين الإلهي في حالة دينا محضا، وفي حالة أخرى دينا ودولة؟
إن الإسلاميين المعاصرين يمارسون حالة توظيف للدين لإدراك أهداف سياسية، وقد يكون مقصدهم من ذلك خدمة الدين وتقوية شوكة الدولة، غير أن تجارب البشر عامة، والمسلمين على وجه التحديد، قد أثبتت لكل ذي نظر، أن أكثر أنواع الدول إساءة إلى الدين هي الدولة الدينية، وأن أكثر السياسيين فشلا وفسادا هم الإكليروس ورجال الدين، ولهذا كان لا بد من جهد يبذل من علماء الإسلام قبل غيرهم، يبين أن توظيف الدين لأغراض دنيوية مهما كانت النوايا التي تقف وراءه حرام، وجهد يبذل أيضا من كل المسلمين يدركون معه أن لا أحد يمكن أن ينطق بإسم الله، وأن ما يقدم على أنه شريعة ليس في واقع الأمر إلا آراء من صنع بشر، يخطئون ويصيبون.
إن الدين عند الله الإسلام، أما الدولة فشأن البشر، تصلح وتفسد بحسب النظام الذي يرتضونه لأنفسهم، فالله ليس في حاجة إلى دول وحكومات وأحزاب وعساكر تحمي كلمته، إنما يفرح بالمؤمن الصادق الذي أتاه فردا وسيحاسب فردا، لم يؤمن خوفا أو طمعا أو خشية إقامة حد الردة عليه.
كاتب تونسي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف