كتَّاب إيلاف

جيوبوليتيك البحر المتوسط: الخصوصية والاستثناء (2)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في كتابه " جيوبوليتيك البحر المتوسط" يقسم " ييف لاكوست" عمله إلى ستة عشر فصلا ترتبط بمباشرة بالموقع الجغرافي للدول المحيطة بحوض المتوسط. ويقسم المؤلف حوض المتوسط كما جيوبوليتيك البحر المتوسط: قراءة في كتاب ييف لاكوستيلي:
المتوسط الغربي ويضم الدول الواقعة شمال ـ غرب (إسبانيا،فرنسا، إيطاليا)، الدول الواقعة جنوب ـ غرب (تونس، الجزائر، المغرب، البرتغال). المتوسط الشرقي ويضم الدول الواقعة شمال ـ شرق (تركيا، البلقان، الدول اليوغسلافية السابقة،ألبانيا، بلغاريا،اليونان، قبرص)، الدول الواقعة جنوب شرق (ليبيا، مصر). ويفرد "لاكوست" جزءا كبيرا من كتابه للحديث الدول العربية الشرق أوسطية التي كانت في فترة معينة تحت الاحتلال الفرنسي ومن ثم تحت تأثير الثقافة البعثية (سوريا، ولبنان)، و ثم الأردن، إسرائيل وفلسطين. أما في الفصل الأخير فيتحدث عن دول تتأثر وتؤثر بالواقع الجيوبوليتيكي للبحر المتوسط (إيران والعراق).

عندما يتحدث "لاكوست" عن خصوصية البحر المتوسط جيوبوليتكيا، يرى أن المتوسط ليس بحر وشواطئ، بل إنه دول محيطة به تشكل صفات مشتركة،علاقات متبادلة وصراعات تاريخية. فالبحر المتوسط أصبح معروف دوليا ليس بسبب السياحة وقناة السويس فقط، بل هناك أسباب سياسية بالغة الأهمية. إذا هو كل جيوبوليتيكي بخصوصية كبيرة. كذلك شكل المتوسط مركزا لصدام الحضارات، فالصراع الفلسطيني/الإسرائيلي على الأرض له قيم جيوبوليتكية، فرغم أن فلسطين ليست إلا مساحة صغيرة بالنسبة للعالم العربي، إلا أنها مصدر لذاكرة من الصراع التاريخي /الديني في المتوسط الذي امتد منذ الحروب الصليبية. إن الحديث عن البحر المتوسط وفق الكاتب هو أبعد من الحديث عن حوض بحري نسميه بهذا الاسم.لأن الدول المحيط مفتوحة على عوالم أخرى مثل المحيط الأطلسي (المغرب، إسبانيا،فرنسا)،أو كما الحال في المتوسط الشرقي، الخ.

جغرافيا، الواجهة الأوربية للبحر المتوسط تتكون من ثلاثة شبه جزر جبلية كبيرة: شبه الجزيرة البلقانية أو الهيلينية (اليونان)، شبه الجزيرة الإيبيريه (إسبانيا والبرتغال)، و إيطاليا. ولكن يضيف "لاكوست" على هذا التقسيم ما يسميه شبه الجزيرة الرابع " الأناضول" حيث كانت بالنسبة للإغريق المكان الذي تشرق منه الشمس وتشكل جزاء كبير من تركيا حاليا وتمتد بين البحر المتوسط و البحر الأسود وهي أكبر ضخامة بقليل من " الإيبيريه". في المتوسط جزر كثيرة، في بحر إيجة بيت تركيا و اليونان. قرب شبه الجزيرة الإيطالية حيث توجد أكبر جزر متوسطية" صقلية". طبعا وهناك الجزر الدول (مالطا وقبرص).أما الواجهة الأفريقية و المتوسط الشرقي بعكس الأوربية، إنها كتلة واحدة.

بشريا، نعرف جميعا وكما يؤكد المؤلف بوجود فروق كبيرة بما يمكن تسميته الظواهر الإنسانية بين شمال وجنوب البحر المتوسط: فمن المغرب إلى مصر (الواجهة الجنوبية)، الدين الإسلامي هو المسيطر باستثناء 10 مليون قبطي في مصر، (والإحصائية للمؤلف) و اللغة العربية هي الغالبة باستثناء بعض الأقاليم في المغرب التي تتحدث البربرية. في الواجهة الشمالية، هناك تنوع كبير في اللغات أدى لمشاكل جيوبوليتكية كثيرة، (على الأقل هناك 12 لغة معروفة). والظواهر الدينية في الشمال تظهر بشكل أكثر أو أقل بين دول الشمال التحولات العلمانية في مجتمعات هذه الدول: هناك ثقافة كاثوليكية في الغرب(البرتغال، إسبانيا، كرواتيا)، ولكن في الشرق من شمال المتوسط، هناك كاثوليكية، أرثوذكسية و إسلامية وقامت فيما بينها صراعات جيوبوليتيكة كثيرة.

ومن حيث عدد السكان: هناك فروق أيضا كبيرة بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية. في الشمال، من البرتغال إلى تركيا، يعيش 280 مليون نسمة (70 مليون منهم في تركيا). ويحسب معه الشعب الفرنسي أيضا. ويذكر "لاكوست، هنا أن دور فرنسا المتوسطي ناتج عن قوة الدولة وليس فقط عن سكانها الذين يعيشون على ضفاف المتوسط. في جنوب المتوسط، 150 مليون نسمة (منهم 70 مليون في مصر) و70 مليون في دول المغرب. (طبعا العوامل المناخية ومستوى المعيشة لعبت دورا هاما في فروق عدد السكان أو النمو السكاني على ضفتي البحر الموسط).

التمييز بين " دول متطورة" وأخرى " دول عالمثالثية"، يقول لاكوست، ظهر في الإعلام بعد الحرب العالمية الثانية بعدة سنوات كإحدى نتائج التنافس الجيوبوليتيكي و الإيديولوجي بين القوتين العظمتين المنتصرتين في الحرب ضد النازية. حيث في البداية حصلت القطيعة بإقامة" الستار الحديد" الشعار الذي أطلقه تشرشل عام 1947، بين أوربا الشرقية والغربية. في الولايات المتحدة تم إطلاق فكر تتستر تحتها المفاهيم الجيوبوليتيكية الأمريكية، وهي محاربة الجوع والفقر في إي مكان في العالم أو بمعنى آخر في"الدول النامية" حيث ذكر المصطلح under development بداية في واشنطن، بعد بداية الحرب الباردة بقليل والخطابات الشهيرة للرئيس الأمريكي " ترومان" عام 1947، حيث أعلن مساعدة دولته للبلدان الفقيرة المهددة بالخطر الشيوعي، (و كأن ترومان كان يعرف من ذلك التاريخ أن الشيوعية ليست إلا إفقار على فقر) هذه الجملة بين قوسين ليست من كتاب "لاكوست". كان على الرؤساء الأمريكيين إقناع الشعب الأمريكي بنفقات الدولة المحتملة لمحاربة خطر الجوع في العالم، إي في عدد كبير من بلدان آسيا،أمريكا اللاتينية و حتى في أوربا (ونتذكر هنا خطة مارشال لإعادة إعمار أوربا التي أطلقت عام 1948). من هنا صدر في عام 1951 ولأول مرة في العالم الكتاب الشهير " جيوبوليتيك الجوع" لمؤلفه الطبيب والجغرافي البرازيلي " جوزيه دو كاسترو" بناء على طلب الدولة الأمريكية.

بالنسبة للأمريكيين يقول"لاكوست"، هذه الحملة ضد الجوع في العالم كان لها منعكسات متناقضة.في فرنسا، وخاصة في أوساط اليسار، أحدثت مرحلة جديدة في الانتباه إلى ما يسمى" الدول النامية"، لتتحول المساعدات لهذه الدول إلى شكل جديد للصراع العالمي: بلدان نامية/بلدان متطورة. وهنا نستحضر كتابات سمير أمين عن "التبادل اللامتكافئ" كتقديم هندسي للكون: " دول مركز" مهيمنة، " ودول محيط" مهيمن عليها، رأسماليات تشكل المركز، دول نامية تشكل المحيط.دون شك، البحر المتوسط كان له مكانا كبيرا في النقاشات حول الدول النامية في فرنسا، ففي باريس يعيش عدد من المفكرين الماركسيين القادمين من أفريقيا و أمريكا اللاتينية. وأيضا بسبب الحديث الدائم فيها عن المرحلة الاستعمارية وصعوباتها، ومنعكساتها حتى اليوم.

إن الأساس أو الأصل الجيوبوليتيكي للأفكار حول الدول النامية أو التقسيم شمال/جنوب بالنسبة للدول للمتوسطية، يقول" لاكوست" يسمح بفهم أفضل للأهمية التي نعطيها للمواجهة بين الواجهتين للبحر المتوسط. هذا الامتداد البحري من الغرب إلى الشرق، يشير أيضا إلى فصل بين مجموعة الدولة الأوربية المتطورة، أو ما يسمى اليوم "الاتحاد الأوربي" عن أفريقيا الشمالية التي هي جزء مما نسميه " العالم الثالث"، إذا يمكن تطبيق مقولة شمال/جنوب،المطبقة على العالم، على ضفتي البحر المتوسط أيضا.

ولكن في حوض المتوسط الأشياء أكثر تعقيدا من النموذج الكلاسيكي المعرف شمال/جنوب. وعلينا أن نسأل وفق المؤلف، إذا كان إطلاق صفة شمال/جنوب على ضفتي المتوسط سيؤدي إلى تقزيم وضعه وتعقيداته. فهذا التعارض شمال/جنوب أو دول نامية و أخرى متطورة لا يتطابق مع الخطاب التقليدي حول هذا الموضوع، ففي الجزء الغربي من المتوسط، في جنوب إسبانيا أو جنوب إيطاليا، قبل عشرين عاما، كانت تعتبر هذه المناطق " نامية". أيضا نموذج شمال/جنوب لا يتطابق على حوض المتوسط الشرقي، على سبيل المثال بين اليونان في شماله ومصر في جنوبه. فالإمبراطورية العثمانية مارست هيمنتها عبر عدة قرون على الشمال كما على الجنوب، في البلقان أيضا، لكن هذه الهيمنة كانت مختلفة جدا عن التي فرضتها فرنسا في بلاد المغرب، في الجزائر أو الشرق الأوسط.

يرى "لاكوست" أنه في البلاد أو الواجهة الجنوبية للمتوسط، أن الشعور بوجود شمال/جنوب أو دولة نامية وأخرى متطورة هو قوي لدي سكان هذه المنطقة، بسبب القرب الكبير من الواجهة الشمالية، والرحلات الدائمة إلى هناك، و أهمية ظاهرة الهجرة. كل هذا يقود للتفكير أن في كل حوض المتوسط، الأوضاع الجيوبوليتيكية أكثر اختلافا وتعقيدا مما يسمى عالميا نموذج شمال/جنوب. لهذا السبب، قبل تحليل كل من دول المتوسط على حدة، ينبغي أن نبدأ بقراءة من أعلى من أجل مقارنة سريعة من زاوية جيوبوليتكية لمختلف البلدان من الواجهتين الشمالية والجنوبية لحوض المتوسط. وهذا ما سيكون في الحلقة الثالثة.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف