كتَّاب إيلاف

هل من مؤسّسات فكرية عربية حقيقية؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مقدمة
مع فاتحة القرن الحادي والعشرين، كان لابد من استجابة حقيقية لعصر التحديات المستقبلية قد بدأت بالعمل الجاد على أيدي بعض نخب العلماء العقلاء والمؤهلين في كل اجزاء هذه المنطقة التي نخرتها من دواخلها كل أوزار القرن العشرين، ويشترط ان يكون التأسيس على ايدي اناس حقيقيين ومفكرين مستقلين ومثقفين مبدعين.. لا يمتّون بصلة الى كل ترسبّات القرن العشرين السياسية ولا الى بقاياه الايديولوجية والاصولية، وليست لهم اية ارتباطات سلطوية كأن يعملون ذيولا للاخرين.. ان المنطقة بكاملها، وخصوصا ذلك المجال الذي تتحرك فيه الثقافات الاساسية في الشرق الاوسط ينبغي لها، بل كان عليها ان تجد البدائل الحقيقية لما ينتشر فيها من منظمات ومؤسسات واجهزة لا تمت بأي صلة الى اي مشروع حضاري يمكنه ان يجد مكانه تحت الشمس، وينافس الثقافات الاخرى في العالم .

مؤسسات باجندة خاصة
لقد باتت اغلب المؤسسات والمنظمات في كل من تركيا وايران والبلدان العربية لا تفي ومتطلبات هذا العصر، ولا اريد في هذا الباب ان اتحدث عن تركيا وايران والباكستان، فذاك موضوع آخر قدمنا تحليلا له بالانكليزية في الانترناشنال كوريار ( 2 ديسمبر 2005 ).. ولكنني عندما اخاطب المثقف والقارئ بالعربية، فان من اللياقة ان احدد خطابي عن مؤسسات وجمعيات ومنتديات عربية باتت لا تفي اليوم بمستلزمات العصر ابدا.. واذا كان بعضها قديم قد تأسس منذ عقود من السنين، فان بعضها حديث العهد لم يمض على تشكيلة الا بضع سنوات.. واذا كان بعض تلك المؤسسات قد ارتبط بوجه او بآخر مع هذه الحكومة او تلك السلطة، فان بعضها الاخر كان قد تأسس على ايدي امراء ورؤساء جمهوريات وحكومات ووزراء سابقين.. انني لست ضد ذلك أبدا، ولكنني ضد الاجندة التي يفرضها قادة وزعماء ومسؤولون على مؤسسات يؤسسونها او تلك التي ترتبط بهم ارتباطا شخصيا في غير بلدانهم.. أي انني لا اقصد تلك المراكز والمؤسسات التي يؤسسها البعض على اراضيهم، ولكنني اقصد تلك المؤسسات التي يؤسسونها في بلدان اخرى ولم تقدم او تؤخر شيئا .

حاجتنا الى المنظومات الاهلية بديلا
من اسمى ما يمكن التطلع اليه، ان يأتي انبثاق المؤسسات الفكرية والثقافية والاعلامية في مثل هذا الوقت بالذات من بدايات القرن الواحد والعشرين كي يلبي حاجة أساسية يتطلبها الواقع المرير الذي تمر فيه أوضاع المنطقة كلها، ولكن السؤال: هل يمكن ان تبقى مثل هذه " المؤسسات " مستقلة " باهدافها ومبادئها واساليبها وخططها ومشروعاتها..؟؟ الجواب ": لا ابدا، بسبب احتدام الصراعات السياسية والايديولوجية والتي زادتها اليوم تفاقم الصراعات المذهبية والطائفية والاثنية والاجتماعية بشكل عام ! انني أعتقد جازما بأن اي تأسيس لمثل هذه " المنظومات " يعد من الانجازات الحضارية التي لابد ان تغدو مثلا رائعا ومتميزا في ريادته لبقية الحقول المهنية الأخرى، ومن اجل أن يخطو الفضاء الثقافي والفكري خطواته السديدة هي الأخر على درب جديد يرسمه القرن الجديد، خلاصا من استمرارية الآليات العقيمة والأساليب الدوغمائية التي تتمثلها اليوم المنظمات والاتحادات المهنية العربية القديمة المتحجرة التي كانت قد انبثقت في عقود القرن الماضي، ولأسباب أيديولوجية وعوامل سياسية أو سلطوية كما ألفتها الحياة العربية على امتداد نصف قرن ! ناهيكم عن المنتديات والمؤسسات التي تتسمّى بالفكر العربي وهي لا تساهم ابدا في تقديم اية مشروعات استراتيجية حقيقية للمنطقة برمتها..
ان مؤسسات ( جديدة ) كهذه يقتصر عملها على اصدار مجلة او اخراج برنامج تلفزيوني او عقد ندوة حوار او بث محاضرة عامة.. الخ لا يمكنها ان تعد مؤسسة حقيقية ابدا، بل انها مجرد تجمع لتوزيع اعانات ورواتب ليس الا ! انني لست ضد ان يقوم ولي للعهد او امير او رئيس دولة سابق بتأسيس اي مؤسسة فكرية او مركز للدراسات.. ولكن لابد ان يؤخذ بالحسبان مدى قوة ما تنجزه مؤسسته التي ينفق عليها؟ وما المشروعات الكبرى التي حققتها مقارنة بما حققته مؤسسات ومنظمات اخرى في العالم؟

من اجل تجمعات ( = فوريومات ) جديدة !
لقد كنت قد أشرت في أكثر من مكان إلى الحاجة الماسة والضرورة الملحة التي باتت عليها المنطقة اليوم كي تبدأ تاريخا معرفيا ابتكاريا جديدا بتأسيس مراكز بحوث خاصة ومؤسسات ومنتديات ( تسمّى بـ فوريومات ) ومنظمات أهلية خاصة هي الأخرى لتحلّ بديلا عمليا وتاريخيا ومستقبليا عن تلك الاتحادات والنقابات والمنظمات والمؤسسات التي كانت قد انبثقت في القرن العشرين، ووقعت منذ ولاداتها عهد ذاك أسيرة سياسات حكومية أو توجهات سلطوية أو تيارات أيديولوجية أو خنادق حزبية.. فلم تخدم قطاعاتها النخبوية أبدا، ولم تحقق للمجتمعات في المنطقة قاطبة مقاصدها الحضارية العليا، كما ولم توصلهم إلى الحد الأدنى من تطلعاتهم وأهدافهم النبيلة الحضارية والانسانية التي من اجلها قامت، كما وأنها لم تكن نظيفة أو نزيهة في علاقاتها وارتباطاتها بين الدولة والمجتمع.. فضلا عن كونها بقيت على امتداد ما يقرب من خمسين سنة تخنقها الانقسامات السياسية والانشقاقات الحزبية وتؤثر فيها الانقلابات وصراعات الأنظمة والأزمات والحروب الداخلية، ولم تكن وسيلة فعالة في خدمة التنمية الثقافية والبشرية العربية للمجتمعات الكبيرة والاقليات الصغيرة في منطقتنا كلها .

لابد من تحولات جذرية
لقد حدثت في العالم كله عند بدايات القرن الحادي والعشرين عدة تحولات وتغيرات جذرية في هذا الجانب الذي انتقلت فيه المنظمات والاتحادات من الأطوار الأيديولوجية والسياسية التي هيمنت عليها السلطات باسم التيارات التقدمية والحزبية والقومية سابقا او الدينية والتراثية والاصولية حاضرا ـ كما أسموها ـ إذ بقيت تلك الاتحادات والمنظمات حبيسة الرؤى والقرارات السياسية.. في حين تجد الجماعات النخبوية والجمعيات الأهلية مجالا حيويا لتطوير آليات العمل فيها ضمن لوائح قانونية من اجل أن تتشكل منتديات او تجمعات (= فوريومات) واسعة جدا تضم ابرز العاملين من أبناء النخب الذين يمتازون بمهاراتهم العالية وتفوقاتهم البراغماتية في الأداء والعمليات الوظيفية ضمن أطر الأعمال الخاصة غير المرتبطة بأية سياسة معينة لدول أو حكومات أو أحزاب وأيديولوجيات.. ولقد نجحت التجمعات الأهلية الجديدة في أداء مهامها وقدمت للمجتمعات البشرية خدمات واسعة النطاق في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، باستثمارها لمهاراتها وتخصصاتها وأعمالها ومواقعها على شبكة المعلومات الدولية ( = الانترنيت ) واختزالها للزمن من دون ان تمد أيديها لشحذ المساعدات والتمويلات.. وما أكثر تلك التمويلات العربية التي صرفت على تلك الاتحادات كي تمتلئ بها جيوب فئة ضئيلة من المنتفعين الانتهازيين والوصوليين المارقين .

المستلزمات الاساسية
لقد كتبت عند مفتتح القرن الواحد والعشرين مطالباتي بمستلزمات اساسية قلت فيها: " إن أبرز ما تتطلبه مجالات العمل للتجمعات الجديدة التي يستوجب انبثاقها خلال هذا العقد الاول من القرن الجديد على أيدي نخبة ممتازة من المتخصصين العرب، ومن أجل أن تتعزز ثقة المجتمع العربي بهذا التجمع النخبوي الخيّر كمؤسسات أهلية لها خصوصيتها: الإسراع بالعمل على إصدار لائحة قانونية يتضمنها نظام أساسي داخلي تحفل بنوده بجملة من الضوابط التي تحكم طبيعة العلاقة بين تجمع هذه الرابطة والمختصين من العلماء العرب أولا، وبين تلك المؤسسات والمجتمع العربي الكبير ثانيا، ثم تحديد الوظائف الحقيقية التي لابد أن تضطلع بها هذه المؤسسات الأهلية في مسيرتها العلمية بعيدا عن أي تأثير رسمي أو حكومي من اجل متابعة التطورات العالمية المذهلة التي حدثت في مختلف العلوم والاداب والفنون والاعلام وتكنولوجيا المعلومات... فضلا عن دور هذه المنظمة الأهلية في رفد الحياة العلمية العربية بكل جديد، ودورها في تأسيس منهج علمي في البحث العلمي كي تغدو لكل مجتمعاتنا مكانتها المستقبلية عالميا، وبالتعاون مع أبرز الهيئات والمراكز والمؤسسات العلمية المستقلة.. فضلا عن حرص هذه المؤسسات لتبني قضايا تاريخية واستراتيجية حيوية من اجل تحقيق الأهداف النبيلة والأصيلة التي سعى الآباء والأجداد للوصول إليها، وبعيدا جدا عن سياسات التمزق والعبث والانقسامات والفرقة التي كرستها الأنظمة السياسية والتيارات الأيديولوجية في القرن العشرين.. وهذا ما نطمح أن تكرسه بنود الانظمة الداخلية لهذه المؤسسات والتجمعات الجديدة التي نتمنى من أعماقنا أن تغدو خطواتها السديدة: نهجا تأسيسيا جديدا لمناهج وأساليب عربية جديدة أخرى في حقول نخبوية أخرى لابد أن تنبثق في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين " .
إن هكذا توجهات نظيفة ونزيهة لهكذا تجمعات اهلية في فضاء معاصر تزدحم فيه التحديات العولمية، إنما ستعمل على ملئ الفراغ الذي تعاني منه مجتمعاتنا في مطلع القرن الحادي والعشرين، والعمل الجاد والخير لتحديث الحياة العلمية بأزهى صورها.. وتخليصها مما يكتنفها من الشحوب والبلاهة والعطب.. فضلا عن تشجيع الكفاءات والمبدعين وتحجيم أدوار أولئك الذين يقفون حجر عثرة في طريق التقدم، وما أكثرهم من جامدين ومعوقين وتواكليين وعجزة متثائبين كسالى وخاملين!!

واخيرا: مناشدة لمن بيده القرار
وأخيرا، فانني اناشد كل المسؤولين الكبار الذين بايديهم كل محركات ما قصدته من مؤسسات ومنتديات ان يطالبوا بتحقيق مشروعات ضخمة.. وان يبحثوا عن كفاءات معينة يمكنها ان تقدّم شيئا الى العالم.. ولابد من تشجيع كل المبادرات والخطوات لكل الرجالات العاملين من المفكرين والمثقفين بالتوفيق والنجاح بإثراء هذه المؤسسات الجديدة بالمزيد من الأسماء والرموز والمختصين من العلماء الذين يتوزعون في كل من المشارق والمغارب في العالم اجمع .

www.sayyaraljamil.com


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف