كتَّاب إيلاف

ما بين بيوتنا وشوارعنا، نون

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قبل ان ابتديء مقالي هذا أود ان اسأل القراء ان كانوا قد مروا على الاحياء العربية والاسلامية في اوروبا. واود ان اسالهم ايضا هل لاحظوا الفارق مابينها وأحياء الاوروبيين الكفار كما يحب ان يسميهم بعض المتطرفين وشيوخ الجوامع؟
الاجابة حتما لن تكون مختلفة عما هي عندي، فالامور واضحة لكل ذي عين ولب، والشوارع لا تُخبيء مابها ابدا، لأنها مفتوحة وعامة وواسعة بما يكفي لرؤية الأعمى والبصير لكل الفوارق بين شوارعهم وشوارع ابناء امتنا المجيدة، بين النظافة والوسخ، بين الهدوء والضجيج، وبين الراحة والزحمة..
كنت اعتقدت سابقا ان السبب الرئيسي لكل المصائب في شوارعنا العربية هو اهمال السلطات لها وعدم اعطاء الشوارع الاهتمام الكبير الذي يجعلها بمصاف شوارع الغرب النظيفة والمريحة، لكنني عندما عشت في اوروبا اكتشفت اضافة لاهمال السلطات العربية للخدمات والشوارع فان هناك مايلتصق بشخص الانسان العربي اينما ذهب، اي هي ذهنية العربي أوالمسلم التي تحدد تصرفاته وسلوكه، وهي طقوسه وقوانينه وفلسفته بالحياة، التي تشكله على شاكلة الشوارع العربية والاسلامية، المزدحمة وغير النظيفة والتي تختلف عن شوارع الغربيين او الكفار..
عندما يسافر العربي الى بلده او الى بلد عربي اخر يصعب عليه الذهاب لوطنه الام، محاولا ايجاد وطن تعويضي في احد البلدان الشقيقة كما تعودنا ان نسميها- رغم مجانفة التسمية للواقع السياسي - يدفعه حنين سنوات الغربة والبعد عن الاحبة والاجواء الشرقية بكل ما فيها منذالطفولة حتى اليوم الذي تمكنت فيه من روحه وصارت منا بمجرى الدم او هي منه سواء.
لكنه حينما يسير بتلك الشوارع المزدحمة، لايملك سوى المقارنة ببلدان الغرب التي عاش بها لسنوات طويلة.
اعترف انني واحدة من الذين اصيبوا بداء المقارنة بين الشرق والغرب، رغبة مني بالحصول على افضل حياة لأناس احببتهم لانهم اصلي الذي حملت لونه ولغته وصفاته.
قد تؤلمني المقارنة وتبكيني غالبا، وقد تجعلني غاضبة على واقع لا استطيع تغييره - وانا الضعيفة الا من كلمة - في زمن تباع وتشترى به ارواح وضمائر وعمائم وجيوش وبنوك..
لكن ماحيرني ليس هذا بل هناك امر تشترك به جميع شعوب العرب والاسلام، الا وهو ظاهرة الازدحام بالشوارع التي صرت ابحث باسبابها واتسائل:
لماذا تزدحم شوارع العرب؟
ولماذا يحب الانسان العربي المكوث بالشوارع اكثر ما يحب الانسان الغربي؟
لماذا يعشق الغربي البيوت ويهرب العربي من البيت بأدنى حجة؟
توصلت الى اسباب كثيرة، منها ماهو معروف ولايدعو للشك به حينما نراها في بلداننا العربية التي تفتقر للتنظيم الاداري الناجح والخدمات الضرورية التي تتركز غالبا بالعواصم دون سواها..
و برغم ان وضع شوارع بعض الدول العربية مزريا وغير جذاب، نراها تمتليء بالناس من كل الاعمار والفئات، غنيهم وفقيرهم. بعكس شوارع الغرب النظيفة والمشجرة وذات المصطبات المريحة والاماكن الخلابة التي تقفر احيانا من الناس وتبدو وكأن منعا للتجوّل قد قرر عليها.
كنت بداية الامر عندما اسير بشوارع اوروبا الفارغة بعد اوقات الدوام الرسمي - غالبا- الا من امرأة او رجل يسير مع كلبه كواجب يومي يقوم به خدمة لهذا الحيوان الذي احبوه واسكنوه بيوتهم وقلوبهم، اعزي ذلك للبرد، ولان الشوارع باردة والبشر يلتجئون للدفء في بيوتهم الهادئة الجميلة، لكن الامر تغير عندما راقبت الصيف ووجدت ان الامر لايختلف كثيرا، وطقوس الناس هي الذهاب للمنزل بعد يوم من العمل حتى ان كل موظف يودع زميله نهاية الدوام بابتهاج متغنيا بذهابه الى المنزل قائلا: اخيرا الى المنزل
هذا الفرح بالذهاب الى المنزل يوميا غير موجود في طقوسنا، قد نتغنى بالعودة للمنزل بعد سفر وغربة لكننا لانتغنى به نهاية كل يوم عمل، انهم يفرحون بالعودة للمنزل كمن يذهب لعيد يومي لاينتهي، حتى ليخيل للمرء ان لدى كل فرد منهم جنة تنتظره بالبيت..
في بداية الامر ركنت الى ان المناخ هو السبب، او ان طول يوم العمل يدعو للرغبة بالراحة في البيت واستسهلت التفسير، لكنني ما ان رأيت الأحياء التي تسكنها امة الاسلام من اتراك وعرب وغيرهم في الدول الغربية، ورأيت كيف يقف شبابهم امام المنازل وتمتليء مقاهيهم بالجلوس للعب الطاولة والكسل واضاعة الوقت او قتله كما يعبر البعض عنه بالاحاديث وتدخين النارجيلة في أحيائهم حتى بالشتاء، ادركت ان العلة لاعلاقة لها بالانواء الجوية ولا بهبوب الريح الباردة ودرجات الحرارة.
عرفت ان العلة فينا نحن العرب المسلمين الذين تهلكنا طقوس المنزل بكل ممنوعاته.
عرفت اننا امة تجهد نفسها لقتل الوقت الذي تستغل الشعوب كل علومها لللحفاظ عليه واستعماله بما ينفع الانسان، الوقت الذي يشبه بالذهب لاهميته.
عرفت ان الرجل يهرب من كثرة الاولاد وضجيجهم احيانا، او يهرب من كثرة النزاعات مع الزوجة، ويهرب الابن والابنة من طقوس وتابوات وموروثات بالية لايحتملونها عليهم الالتزام بها بقسوة، بعضها وضعت لها العقوبات في المنزل كالتدخين او العلاقة مع الجنس الاخر، لهذا يستسهل الشباب ممارسة الممنوعات خارج المنزل، وقد تهرب الزوجة بعد الاتصال بصديقاتها متفقة معهن على الخروج الى الاسواق او اماكن العبادة كزيارة المراقد لتتحدث بحرية عن قهرالزوج لها وتشتكي لزميلاتها بالاضطهاد الذكوري.
عرفت اننا شعوب تطردنا بيوتنا لتزدحم بنا الشوارع التي نخرّبها بسبب ذلك الازدحام، ولان الشوارع لم تخصص لكثرة المكوث بها.
عرفت بعد البحث والاستقصاء والاسئلة الكثيرة عن طريق الايميلات التي طرحتها على شباب وشابات عرب وعلى نساء ورجال، ان 80 بالمائة من العرب لا يحبون المكوث في البيوت بعد العمل، وان ارواحنا بعيدة عن السكينة والهدوء والاسترخاء، ويتبع هذا اننا بعيدون عن التأمل ومحاولة الابداع والابتكار، حتى صار الضجيج محببا لدى الكثيرين وقد استغربت لاجابة نسبة لابأس بها من الناس من عدم قدرتهم العيش في اجواء المدن الهادئة، حتى شبه بعضهم الهدوء بالموت وقال لي البعض انني لا استطيع العيش الا مع ضجيج المدن..
رغم ان الهدوء هو الاصل والضجيج طاريء، ورغم ان عدم الازدحام هو الاصل والازدحام خطر وغير صحي، لكنه تمكن منا ودخل تكويننا النفسي لنبقى ندور بمانحن به..
من خلال كل ماتقدم، هل نستنتج اننا نمر بازمات اجتماعية خطيرة ومعرقلة لتطور عقولنا وامكاناتنا بل هي تسبب تعطيلها وبالتالي تخلفنا عن الركب الحضاري؟
فظاهرة الهروب من المنزل الى الشارع ماهي الا دلالة واشارة لما يدور داخل الاسرة التي هي نواة المجتمع التي نراها تهرب من بعضها دون فهم ومصارحة في متطلبات الفرد الاساسية لسويته وسلامة روحه.
الاسرة تلك النواة الاجتماعية لا تعرف اين تتجه سوى الى الشارع ليتلقفها بكل مابه من مخاطر وعيوب، النواة الاجتماعية التي هي المدرسة الاولى والتي ان صلحت صلح وان فسدت فسد، يهرب منها الانسان العربي ليتشظى بعيدا عنها ويصبح مجهولا لها كما تجهله هي.
فلا علاقاتنا ببعض صادقة وقائمة على فهم الاخر واقرار حاجاته الاساسية واولها حريته، ولا استطعنا ان نصحح ما أخطأ به قبلنا في هذا المجال، وان تحدث احدنا بهذه العلل اتهم بالنفاق للغرب أواحتقار عادات الامة وتقاليدها الاصيلة، ونسيان التراث والدين..
فالى اين بكل هذه العلل المسكوت عنها نحن سائرون؟

balkis8@gmail.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف