كتَّاب إيلاف

بعذابٍ آخر، تدفعُ عن نفسها الموت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

قرأت في احد المواقع الالكترونية مقالا بعنوان "شكرا أمي.. جعلتني لقيطا!..
وقد نشر مع المقال صورة الرضيعة التي وجدت مرمية مع النفايات في احدى مناطق العاصمة الاردنية...
الامر محزن جدا، بل مفجع أن يُرمى الاطفال بهذه الطريقة اللا انسانية والتي لا تمت للحضارة بشيء، وهي حالة تتكرر في بلداننا العربية والاسلامية على مدى ازمان كثيرة، وتخلف لنا فئة مقهورة من البشر تعامل بشكل مشوه، تلتصق بها النظرة الدونية ابدا، فئة اسميناها اللقطاء، اذ التقطتهم الأيدي من على قارعات الطرق والمساجد والمفارق، كخرق بالية مع سقط المتاع..
الغريب بالأمر ان كاتب المقال ومعه كل المجتمعات العربية والاسلامية التي استقى ثقافته منها، تحمّل المرأة وحدها اعباء هذه الجريمة حينما يصل الامر بالأم الى التضحية بفلذة كبدها كي تتفادى القتل الذي لا مفر منه.
وقد عرفت العاصمة الأردنية كسواها من المدن العربية والاسلامية على مدى التاريخ بما فيها المدن المقدسة والاكثر تدينا والتفافا بأحجبة العفة والطهارة، عرفت جميعها قتل النساء دفاعا عن الشرف،اي ان المرأة عندما تقع في محنة ممارسة الجنس مع رجل وهي في مجتمع يفرض عليها الحرمان لحين الزواج الذي قد لا يأتي او الموت، تعرض نفسها لهذه العقوبة المرعبة وهي الموت والفضيحة معا..
وعلى مدى التأريخ الممتد لآلاف السنين والعرب يتغافلون عن هذا الواقع، ويستمرؤون اللعبة:

رجال ونساء يمارسون الجنس،تحمل المرأة فينكشف الحمل وغالبا ماتقتل،قد تستطيع المرأة الخروج من مأزق الحمل، ربما تنجح بالهرب من الموت حتى الولادة، ترمي طفلها خوفا من الموت وضغط الرجل الشريك والتقاليد والدين وكل الموروثات، يستهجن الناس وجود طفل بلا اهل، تـُلعن امهُ الف مرة على السنة الجميع، يتهرب الشريك ولا يعترف بخطيئته محتميا بتقاليد مجتمعه الذكوري، يخرج من الجريمة كالشعرة من العجين، يصبح لدينا لقطاء، نعاملهم معاملة حقيرة ليصبحوا مرضى نفسيين هم ضحايا مافعلناه، يسيطر على رؤوس الجميع ويحكمهم اقتران الخطيئة بالمرأة وجعلها صنوة الذنب لتصبح نجسة وعورة واقل من مستوى بشر...

لماذا لا يواجه العرب والمسلمون انفسهم ويعترفوا بخطاياهم ازاء الاطفال الضحايا، ويحلوا القضية بطريقة انسانية تعترف للمرأة والرجل بحقهما في الحياة والحب على حد سواء وتحملهما بالتالي مسؤولية الطفل كي لا يكون لدينا لقطاء؟
لماذا تلام المرأة وحدها حتى لو كانت المغتصبة والضحية، وحتى وهم يعرفون ان ظرفا طارئا ما، قد دفعها لهذا الفعل في بلدان الفقر والجوع والسياسات الخاطئة التي ترمي الشعوب بكل اشكال القهر والعذاب؟
لاادري لماذا يتجاهل رجال القانون والدين هذه القضية ولا يقضون بأن المرأة عندما ترمي طفلها غير الشرعي تكون في حالة الدفاع عن النفس، اي انها امام خطر محدق، داهم ومؤكد يتهدد حياتها وليس لها خلاص منه سوى بالتضحية بالطفل، فالمرأة عندما تقتطع من جسدها فلذة كبدها وترميها للكلاب السائبة فهي انما اضطرت لذلك كمن يقطع يدا او ساقا من جسده رغبة بالحياة بعد ان تأكد من ان ذلك الجزء سيقتله ولا سبيل لدفع الموت معه الا بالقطع..
متى يكون لدينا رجال قضاء شجعان يستطيعون ان يوجهوا التهمة للمجتمع، ولذكوره اولا فهم الذين يبدؤون بجريمة قطع رقاب النساء التي تترتب عليها كل الجرائم الاخرى بحق الاطفال؟
ومتى يقول رجال التشريع والقضاء بان المرأة عندما ترمي فلذة كبدها فلا عقوبة عليها ولا جريمة لانها تستفيد من العذر المحل الذي تقره كل القوانين الوضعية والسماوية حيث الدفاع عن النفس يسقط كل عقوبة؟
والنقطة الاخرى التي تصرخ من عمى بعض الرجال ازاء خطاياهم، هي اخراج انفسهم من دائرة الجريمة نهائيا والقائها على المرأة وحدها، مع ان الزنا هو الجريمة الوحيدة التي لا يمكن ان تتم الا بوجود اثنين هما الرجل والمرأة.
فلماذا تتحمل المرأة وزر كل شيء ولايأتي احد على ذكر الرجل المخطيء معها ان كان الحب خطيئة تدفع المرأة من أجله حياتها كلها بدون ان تنال حق الدفاع عن نفسها؟
لقد كتب الكثير من الادباء والمبدعين عن هذه المأساة، اتذكر منهم جبران خليل جبران، وطه حسين وجورج حنا ويوسف ادريس، ونوال السعداوي وغيرهم مئات المبدعين على مر التاريخ العربي، ولم تجد دعواهم اذنا صاغية سوى من قراء يبكون حرقة للمأساة ولا يقدرون على شيء ازاء النظرة الشرسة للمرأة.
يتذكر جميعنا فلم " الحرام " وهو من ابداع يوسف ادريس ومثلت البطولة به الفنانة فاتن حمامة، وكيف ان المرأة كانت مضطرة الى منح جسدها مقابل كيس من البطاطا تقوّت به اطفالها وزوجها المريض، وكيف كانت حالتها الصحية والنفسية بعد دفنها فلذة كبدها، حتى ماتت قهرا ومرضا وفجيعة مما فعلت.
يؤكد هذا الفلم ان حجم عذاب المرأة حين ترمي طفلها الذي تربطه بها اكبر رابطة حب عرفتها البشرية حتى الان وبدون منازع، فعذابها ليس اقل من الموت بل هو اكبر منه واعظم، انه موت من نوع اخر لا يعرفه الرجال، فهي كمن يفقأ عينيه بيديه ليعيش.
وشيء آخر ينساه الجميع، وهو عدم وجود دليل على ان الأم هي التي رمت الطفل في الشارع، فقد أسرّت لي احدى النساء في بلد عربي بان شريكها بالعلاقة غير الشرعية اخذ منها الطفل بعد الولادة حيث كانت هي مرهقة من المخاض، ورماه في احدى الشوارع المزدحمة، وحين استفاقت ولم تجده اصيبت بصدمة نفسية كبيرة ولامت شريكها الذي كانت قد اتفقت معه على هذا خوفا على حياتها وسمعتهما، وكانت تلك الام المفجوعة تحتفظ باشياء من رائحة الطفل تقبلها وتبكي قائلة:
كنت اود أن اقبله ولو مرة واحدة قبل ان يرميه..
اذن ليس لنا الا ان نتسائل:
ما فائدة الثقافة والعلم في المجتمعات العربية والاسلامية حين تمر على فكر المفكرين والعلماء ودعوات المبدعين من أدباء وفنانين مرور الكرام، دون ان يتوقفوا عندها مستفيدين منها ودون ان تغير بحياتهم شيئا؟


Balkis8@gmail.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف