كتَّاب إيلاف

برنامج سركوزي أمام تحديات كبيرة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تعهد سركوزي خلال حملته الانتخابية بإجراء إصلاحات داخلية كبرى، تعني "القطيعة" مع "النموذج الفرنسي" للنظام الاجتماعي ـ الاقتصادي، الذي تحول لصنم مقدس في السياسة والثقافة الفرنسيتين.
لقد وجه عدد من المفكرين والباحثين الفرنسيين نقدا لاذعا لهذا النموذج، الذي يولد البطالة الواسعة، والعجز المالي، وهجرة الرساميل للخارج، كما هجرة أكثر من مليون شاب لدول غربية أخرى، خصوصا لبريطانيا؛ وقد سبق لنا تناول هذا الموضوع في استعراضنا لبعض المؤلفات الفرنسية الجديدة مثل "فرنسا التي تتداعى"، و"الاستخدام الرشيد للحرب الأهلية في فرنسا"، وأيضا عام 2006 تعقيبا على موجة المظاهرات والاعتصامات ردا على قانون "عقد العمل الجديد"، الذي كان خطوة إصلاحية جزئية، ولكنه كان سيكون لصالح شبان من الضواحي، ممن ليست لهم خبر وشهادات علمية وتقنية.
كان برنامج سركوزي الداخلي جريئا للغاية، ويمثل "قطيعة" إصلاحية، أو "ثورة " إصلاحية بوصف بعض المتابعين، ومنهم صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية.
ما أن انتخب الرجل، حتى بدأ العمل فورا بنشاط يومي لا يعرف الكلل، وربما أمكن القول إنه أكثر الرؤساء الأوروبيين حركة ونشاطا. لقد فتح ملف سوق العمل، الذي كان يقيده قانون إلزامية 35 ساعة فقط في الأسبوع، وفتح، كما وعد، ملف الحد الأدنى من الخدمات أيام إضرابات وسائل النقل العامة، وملف إلغاء التقاعد الآلي في سن الستين، وعالجت حكومته بسرعة ملف الجرائم المتكررة التي يقترفها مجرمون لا تمنعهم سنوات السجن من اقتراف المزيد من الجرائم حال إطلاق سراحهم، واتخذت الحكومة قرارات جديدة لتشديد العقوبات بحق هؤلاء، وخصوصا ضد محترفي اغتصاب الأطفال. كالعادة جوبهت هذه الإجراءات بمعارضة منظمات حقوق الإنسان واليسار، وبحملة ضد الوزيرة رشيدة دالي. نضيف لما مر، معالجة ملف الهجرة، ومعايير تجميع عائلات المهاجرين، حيث وقعت حوادث سابقة كثيرة، كان يجري فيها الغاش بادعاء الصلات العائلية لجلب أفراد آخرين من خارج العائلة من بلدان الأصل وفقا لقانون تجميع العائلات؛ وكالعادة، تعارض جمعيات حقوق الإنسان ومعاداة السامية هذه الإجراءات. كما تحرك الرئيس الفرنسي في مجال معالجة العجز المالي [ أكثر من 1200 مليار1، فمن سيسددها في المستقبل؟ إن العبء سيقع لا محالة على الأجيال الجديدة، التي ليس لها دور ما في نفقات "الآباء". إن موضوع الديون الفرنسية العامة هو موضوع للمعالجة الفورية، حيث أن فرنسا، كما قال رئيس الوزراء فيون، مهددة بالإفلاس لكونها تقترض لتسديد النفقات العامة، وهذه مشكلة حذر منها مرارا رئيس البنك الأوروبي المركزي.
إن الإصلاحات الضرورية الموعود بها تواجه سيادة عقلية وثقافة سياسيتين محافظتين، يكرسهما اليسار ونقابات العمال، ويخضع لهما، في الغالب الوسط و"اليمين" الإصلاحي؛ عقلية وثقافة تدينان العولمة، واللبرالية، وحرية السوق، وتبشعان الثروة وحامليها؛ ومن هنا تلك الضجة ضد المرشح سركوزي حين قضى أياما في ضيافة يخت صديق له مليونير.
إن التحديات أمام الإصلاحات جدية، واليوم تواجه الحكومة الفرنسية احتمال اندلاع معركة كبرى مع النقابات حول مشروع تغيير نظام التقاعد، بما يضمن المساواة، بدلا من احتكار أقلية لامتيازات ضخمة محروم منها غيرهم. هذه المعركة ستكون محكا حقيقيا لمدى إمكان تحقيق الإصلاحات في المجتمع الفرنسي.
إن الملاحظ أن الرئيس الفرنسي صريح جدا، يقول ما يعتقد، بلا رتوش، وذلك حتى في السياسة الخارجية، وهذه أيضا طريقة وزير الخارجية كوشنر. هناك من ينتقدون هذه السياسة في مجال العلاقات الدولية، حيث لا يدلي الرؤساء والوزراء بالتصريحات إلا بعد وزنها بإفراط، فتأتي غاليا مموهة وغير واضحة كمن يمشي على البيض. ترى أي الطريقتين والأسلوبين أسلم؟؟
إذا كان سركوزي قد حدد مسبقا برنامجه للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، فإنه لم يقدم برنامجا متكاملا في السياسة الخارجية، ونقول "متكاملا"، لأنه طرح مسبقا عناصر هامة من سياسته الخارجية المرتقبة، كموقفه من القضية اللبنانية، ورفض المشروع النووي العسكري الإيراني، ومشروع اتحاد دول المتوسط؛ وهذه قضايا هامة، تحرك حولها مع وزير الخارجية بنشاط ومثابرة، وجرت عدة زيارات للعديد من الدول في هذا السياق، كما دعت فرنسا لعقد مصالحة لبنانية في باريس، وها نحن نرى أن التخريب السوري لسيادة وأمن لبنان مستمر، لاسيما بمسلسل الاغتيالات الإجرامية. فأين أفق المصالحة ما دامت إيران وسوريا تواصلان تدخلهما التخريبي؟

إن الملاحظ أنه خلال الشهور القليلة من ولاية الرئيس الجديد راحت المواقف أكثر تحديدا ووضوحا، خصوصا حول إيران، والعراق، والعلاقات مع الولايات المتحدة.
إن ضجة كبيرة أثارها تصريح كوشنر عن احتمال نشوب حرب مع إيران بسبب الاستمرار في تخصيب اليورانيوم، وقد أيد رئيس الوزراء، وكان سركوزي قبلهما قد أشار إلى "الخيار الأسوأ". إن هذه التصريحات لا تعني أن الحرب مطروحة في جدول العمل الفوري، وإنما هي للتحذير الصارم من عواقب التخصيب الإيراني، وتصعيد التهديدات والمزايدات العسكرية الإيرانية، كما جرى في الاستعراض العسكري منذ أيام، والمباهاة بصاروخ "قدر"، وبالطيارات الصاعقة، وغيرها، مما يكذب ادعاء النوايا السلمية "النجادية"، ومما يذكرنا، كما يقول مأمون فندي، باستعراضات صدام التي انكشفت عن عواقب المزايدات والتصعيد، أي الهزيمة. إن كوشنر قد أوضح أنه لا يقصد كون الحرب وشيكة، ولكنها احتمال، وإن خير طريقة لمنعها هي فرض عقوبات جديدة، اقتصادية وعسكرية، على النظام الإيراني. إن هذا هو بالضبط موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كرر ذلك بوش مرارا، بالتأكيد على استمرار التفاوض حتى استنفاد فرصه، مع فرض عقوبات جديدة. إن تصريحات الرئيس الفرنسي للصحف الأمريكية توضح الموقف أكثر، أي أن خيار الحرب ليس مطروحا اليوم فلابد من استنفاد الطرق الدبلوماسية مع إيران، وفرض عقوبات جديدة عليها كوسيلة لحملها على الكف عن التخصيب.
لقد أثار تصريح كوشنر ضده وضد الرئيس الفرنسي الاتهامات بكونهما منحازين لبوش، وهذه تهمة سبق أن وجهت لسركوزي قبل الانتخابات في أعقاب زيارته لواشنطن، ثم قضاء عطلته، وهو رئيس، في الولايات للمتحدة.
لقد أوضح أمير طاهري في مقال له نشر مؤخرا في "الشرق الأوسط" طبيعة العلاقات الفرنسية ـ الأمريكية الجديدة، بعد أن كسر سركوزي "المحرّم الأمريكي" المزمن في السياسة والثقافة السياسيتين الفرنسيتين منذ نهاية الحرب الدولية الثانية. يقول طاهري إن السياسة الخارجية الفرنسية كانت تستند لمبدأ "أن فرنسا قادرة على الوجود كقوة عظمى مع نفوذ عالمي من خلال معارضة الولايات المتحدة فقط، وهذا ما جعل ميشيل جوبير، الذي عمل وزيرا للخارجية لفترة قصيرة خلال الستينات، يقول:
"إذا قلنا دائما نعم للأمريكيين فإنه لن يكون هناك سبب يجعل أي طرف يجيء إلينا بدلا من الذهاب مباشرة للأمريكيين"... " طاهري يواصل:
"بدلا من تناول أي قضية على أساس المصالح الوطنية، كانت وزارة الخارجية الفرنسية تبحث عن طريق لإزعاج الولايات المتحدة ،وإرضاء الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث."
أما اليوم، فإن الرئيس الفرنسي الجديد يصرح بأن فرنسا حليف للولايات المتحدة ولكنها حليف "مشاكس"، أي هناك نقاط التقاء، وهناك خلافات، وهذه تعني الاستقلالية مع التحرر من العقدة أو المحرّم الأمريكيين. من هنا فالموقف الفرنسي من المشروع النووي الإيراني ليس انحيازا أعمى وراء الموقف الأمريكي، بل هو إدراك بأن حيازة إيران على القنابل النووية ستهدد الأمن الدولي، والمصالح الفرنسية نفسها في الشرق الأوسط.
أخيرا، هناك زيارة كوشنر للعراق، وهي مبادرة فرنسية هامة جدا وتعني أن فرنسا تتخلى عن عزل نفسها عن القضية العراقية بحجة الاحتلال الأمريكي، وتريد لعب دور بناء في تعمير العراق، والمساهمة في حماية أمنه، وأن يكون لها دور فاعل ومؤثر على نطاق الشرق الأوسط عموما.
إن إصلاحات الرئيس الفرنسي الجديد، وأركان سياسته الخارجية، أمام تحديات كبيرة، وستكشف التطورات اللاحقة مدى واقعيتها وفرص نجاحها.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف