كتَّاب إيلاف

حق الكفر ولا أحقية التكفير

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"لا ينبغي أن يكفر بعضهم بعضا بأن يراه غالطا فيما يعتقده برهانا فإن ذلك ليس أمرا هينا سهل المدارك" الغزالي - رسالة فيصل التفرقة

1- واقع التكفير:
التكفير واقع لا يمكن لأحد إنكاره وحقيقة لا يجوز التغاضي عنه، فهو قد مورس تاريخيا في العديد من التجارب الدينية ولم يقتصر الأمر على الصحابة والتابعين ومازال يمارس إلى حد الآن ضد بعض المفكرين التنويريين وبعض الفاعلين السياسيين سواء من أجل تهجماتهم على المقدس أو بسبب اجتهاداتهم وإضافاتهم وفتاويهم الخارجة عن الموازنة المعهودة أو نظرا لتحالفاتهم المشبوهة واستنجادهم بالأجنبي المحتل ضد الوطن والأهل، فتنظيم القاعدة يكفر المخالفين له ويعتبرهم من المقعدين عن الجهاد والمحللين يعتبرونه الممثل الأول للايدولوجيا التكفيرية التي زرعها ابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب وتبنتها السلفية الجهادية ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فأهل السنة والجماعة يكفرون الشيعة ويعتبرونهم من الروافض والبعض من الموالين لأهل البيت من الشيعة يكفرون أهل السنة والجماعة ويعتبرونهم من النواصب والمسلمون ينظرون إلى اليهود والنصارى والصابئة على أنهم أهل ذمة وهم لن يرضوا عن المسلمين حتى ولو اتبعوا ملتهم وأصبحوا منهم. وقد وقع الهجوم على ابن رشد وأحرقت كتبه وحرم الاشتغال بالفلسفة بعده وكفر نصر حامد أبو زيد بسبب تأويلاته للنص
الديني من قبل مؤسسة الأزهر وأجبر على فراق دياره إلى الهجرة والطلاق من زوجته وقد رمي التوحيدي والمعري والحلاج والسهروردي المقتول بالزندقة وصلب منهم الذي صلب وشرد الذي شرد ومنعوا من نشر أفكارهم والاتصال بالناس وقد أشرفت الكنيسة المسيحية بنفسها على عملية التكفير ونصبت محاكم التفتيش من أجل تتبع وملاحقة غير المسيحيين والأخطر أن التكفير في الإسلام لا تشرف عليه مؤسسة كهنوتية معينة بل يستطيع كل مسلم أن يكفر مسلم آخر إذا ما خالفه في رأيه واجتهاداته وهذا في حد ذاته أمر خطير لأنه يؤدي إلى الفوضى والتقاتل.

2- معنى التكفير:
التكفير هو استبعاد البعض من دائرة الملة ورميهم بالزندقة واعتبارهم من الخارجين عن الصراط المستقيم وهو سلاح يلجأ إليه البعض من أجل تصفية الخصوم والقضاء على المناوئين،فالسلطة تكفر المعارضة السياسية من أجل تهميشها وتقليم أظافرها والمعارضة تعتبر السلطة القائمة كافرة من أجل تجييش الناس للثورة ضدها،علاوة على ذلك يسلب الفقراء نعمة الإيمان من الأغنياء ويعتبروهم رمز الفساد والمجون{كاد الفقر أن يكون كفرا} أما الأغنياء فإنهم يقرنون الكفر بالأعراب والفقراء والبداوة والإيمان بالتمدن والحضارة تصديقا للآية الكريمة:{والأعراب أشد كفرا}. إن التكفير هو رد فعل وتبادل الاستبعاد بين معسكرين وهو كذلك تنازع حول امتلاك مصداقية المقدس والتبشير به للآخرين ويمكن أن يصل الأمر إلى أن يكون التكفير نوعا من العنف الرمزي الذي تلجأ إليه بعض الجهات للرد على العنف المادي المسلط عليها وهو ما حصل في السجال الدائر الآن بين تيار الإسلام السياسي الاحتجاجي والسلطات الشمولية التوريثية حيث تتبع هذه السلطات نهجا استئصاليا أمنيا وتتبنى هذه الجماعات الايدولوجيا التكفيرية وتنادي بالجهاد ضد الحاكم. بيد أن ماهو جدير
بالملاحظة اليوم أنه وقع توظيف سلاح التكفير في المعركة الدائرة بين الحضارة العربية الإسلامية وامبراطوريات العولمة ولقد صار أحد أسلحة منتسبي المقاومة يوجهونها ضد المتخاذلين المتحالفين مع أعدائهم وهذا التوظيف أدى إلى التباس المفهوم والتصاق العديد من المعاني الايجابية به وهو ما أربك المشهد وزاد المسألة غموضا ومعنى التكفير تعقيدا. زد على ذلك أنه لا يوجد نوع واحد من التكفير بل عدة أنواع: هناك تكفير ديني ويتمثل في الاتهام بالزندقة وتكفير علماني ويتمثل في الاتهام بالتطرف وتكفير سياسي ويتمثل في الاتهام باللاوطنية والخيانة والتخريب وتكفير اجتماعي ويتمثل في رفض الاندماج وعدم الاعتراف وغياب الاحترام والتمركز على الذات وهناك تكفير ثقافي عندما تحتقر ثقافة معينة ثقافة أخرى وتعتبرها أقل منها شأنا وقيمة وتنظر إلى نقائصها على أنه طبيعي ولا يمكن تلافيه.

3- لاأحقية التكفير:
" المذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر"
ابن رشد - فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.
الجنوح إلى التكفير ورطة ومطب كثيرا ما يسقط فيها العديد من الأطراف تحت تأثير التعصب والجهل والانفعال وإيثار للمصلحة الخاصة على المصلحة المشتركة وهو دليل ضعف على الصعيد العملي وإفلاس على الصعيد النظري فعندما تغيب الحجة وتنتفي القدرة على المبادرة والفعل فانه يلتجأ من يلتجأ إلى سلاح التكفير كحل أخير وهو حل يائس وانتقامي تدميري وغير بنائي لأن درجة الخسارة فيه أكبر بكثير من درجة الربح فهو يؤذي موضعه وكذلك يعود بالوبال على فاعله.
ويظن البعض أن التكفير له ما يبرره خصوصا عندما تكون دوافعه هي القهر من الداخل والاستعمار من الخارج مع تصاعد مشاعر الحقد والكراهية والتمييز وتزايد ممارسات التهميش والاحتكار والإقصاء من طرف القلة بالنسبة للكثرة ولكن مثل هذا الظن سيصبح مجرد ظن كاذب عندما نعلم هول المضار والمفاسد التي يسببها التكفير وعندما ننظر إليه من جهة استتباعاته وما ينجر عنه وما يؤدي إليه من عنف ونزاع بين الأخوة وقتل لأنفس بريئة وتفجير وتخريب لمصادر الحياة ونهب للثروة الوطنية وإنهاك لدرجة الأمة على الصمود وإضعاف لقدراتها واستنزاف طاقاتها التي يمكن أن توظف في التنمية والتقدم وبالتالي لا أحد يربح من عملية التكفير والنتيجة هي الخسارة للجميع وبالتحديد للإنسان والضرر الأكبر هو لمستقبل الحياة على الأرض الذي أضحى مهددا بسبب امتلاك التكفيريين شرقا وغربا،معارضة وحكاما،أفرادا وجماعات قدرة شهوة هائلة على التدمير والإفناء.
نستخلص من ذلك أن التكفير مهما كانت دوافعه وأسبابه مرفوض وغير شرعي وليس من حق أي كان مهما كانت الوضعيات القصوى التي يعيشها أن يكفر الآخرين وذلك لخطورته على سلامة الناس وتأثيره السلبي على شكل العلاقات البيذاتية والقول بحق التكفير هو هراء وكلام فارغ وهو يشبه إلى حد كبير حق الأقوى وتعليق جان جاك روسو على ذلك بأن الأقوى سيعتبر نفسه دائما على حق وأن القوة ستحتاج دائما إلى الحق إلى جانبها من أجل أن تفرض هيمنتها وتستمر كقوة،ويمكن أن نطبق هذا التعليق على حق التكفير فنقول: إن وضع كلمة التكفير إلى جانب كلمة الحق هو أمر لا يجوز ويوقعنا في التناقض وكأننا قلنا الحق كافر وتكفير الحق وهذا محال لأن يصدر حكم التكفير من أدراه أنه على حق وأن الآخرين على باطل.ألم ينادي الغزالي بالاقتصاد في الاعتقاد وجعل دائرة التأويل تنطبق على مراتب الوجود الخمسة{ الذاتي والحسي والخيالي والعقلي والشبهي} والتي تجعل أي اجتهاد في الدين ينضوي داخل الساحة الممكنة التي يحتلها المقدس ولا يمس المؤول فيه أصول الاعتقاد ولا يتناقض معها وبالتالي لا يجوز تكفيره بأي شكل لا يمكن اعتباره مرتدا أو باغيا.

4- حق الكفر:
"لكل شخص الحق في حرية التعبير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا أو مع الجماعة" المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إذا كان حق التكفير ممتنعا وأمرا غير جائز وغير معقول مهما كانت أسبابه ودواعيه فإن حق الكفر عند البعض هو أمر ممكن وجائز ويدخل ضمن باب الحريات الدينية وحرية الضمير وحرية الناس في تغيير معتقداتهم متى شاءوا وأينما كانوا لأنه يحق للناس أن يتمتعوا بصفة ما يريدون أن يتسموا بها وهي صفة الكفر فهم كافرون لأنهم هم الذين أرادوا عن قناعة أن يكونوا كافرين ولا ينبغي أن نحاسبهم على ذلك ونشيطنهم ونعتبرهم برابرة وأشرار ونخرجهم من دائرة الإنسانية.
وهذا الحق يدخل ضمن المطلقات الإنسانية الجديدة وكفلته التأويلات التقدمية لجميع الأديان والشرائع ونصت عليه القوانين الحديثة والدساتير لكونه واحد من ركائز حقوق الإنسان التي وافقت عليها معظم الدول وفي القرآن نجد هذه الحرية في اعتناق الناس لما يرغبون فيه من معتقدات وبالتالي لم يفرض الإسلام بالقوة بل ترك للناس حرية الاختيار إما البقاء على دياناتهم ودفع الجزية والخراج وإما الدخول الطوعي والسلمي إلى الدين الجديد ونجد العديد من الآيات تؤيد هذا المسعى مثل{لكم دينكم ولي ديني} و{لمن شاء منكم أن يؤمن أو يكفر} وقد ظهر حديثا فرق عديدة من لادينيين وملحدين من الدهريين وهناك من يعبد الأبقار والأشجار والشمس والشيطان والمرأة وهم من الناحية الحقوقية أحرار في ذلك وينبغي أن يتحملوا مسؤولية اختيارهم وألا يعرض اعتناقهم لهذه المعتقدات المخالفة السلم الأهلي وأمن بلدانهم للخطر وآيتنا في ذلك أن الاختلاف رحمة أن التنوع والتعدد ليس دائما وأبدا يؤدي إلى الفوضى والتنازع بين المقدسات بل إلى الثراء والاغتناء.
اللافت للنظر أن مقولة الإيمان والكفر هي مقولة ذاتية ونسبية وشخصية وبالتالي لا ينبغي أن نتعامل مع باطلاقية ونظرة ضيقة فهي قد تتغير بتغير المرجعيات والمنطلقات، فماهو مؤمن عند البعض ومن زاوية معينة هو كافر عند البعض الآخر ومن زاوية أخرى،أضف إلى ذلك أن كل شخص هو كافر بشيء ما ومؤمن بشيء آخر، ألم يكفر النبي محمد بآلهة قريش الوثنية وحطم الأصنام يوم فتح مكة ليؤمن باله واحد ويؤدي الرسالة إلى العالمين فيكون دينه هو الدين الحق ويكون صلعم خاتم النبيين!
المطلوب اليوم ليس تغذية نهج التكفير والتلويح به كسلاح ضد الأعداء ومنع الناس من اختيار معتقداتهم بحرية بل إطلاق الحريات ووقف مهزلة التكفير وإنشاء أرضية توافقية بين جميع الفرقاء والانخراط في حوار جاد من أجل الشروع في الفعل التواصلي وذلك بتقديم جميع الأطراف تنازلات في سبيل تنسيب مواقفهم وقبول الرأي الآخر بعين الاعتبار لأن السبب الرئيسي للجنوح نحو التكفير وبالتالي رفض حق الكفر هو توهم إمكانية تأسيس الهوية بالاعتماد على الذات ورفض الغيرية.
غاية المراد أن الإسلام له مقدرة هائلة اليوم على إنتاج المعنى والتوجه نحو الكونية يستمدها من حديثه عن الغايات النهائية للحياة البشرية ولكن هذه المقدرة الدلالية لا تأتيه إلا من التقائه بمعظم الثقافات والأديان التقاء تفاعليا توليديا ومن تجاوزه لمنطق التكفير والردة والبغي ومن تنصيصه على حرية المعتقد وحق الناس في المعصية والكفر،لكن كيف يكون القول بحق الناس في الكفر بالإسلام هو جزء من رسالة الإسلام؟

* كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف