كتَّاب إيلاف

إبراهيم عيسى وأجواء خريف العهد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"لعلي لا أذيع سراً ولا أروج لشائعة جديدة، حين أرى ملامح نهاية العهد وقد بدت تلوح في الأفق"، طمأنت نفسي بهذه العبارة، وأنا أتخيل القيد الحديدي يلتف حول معصم صديقي ورفيق البدايات إبراهيم عيسى، الذي يقف على مسافة خطوات قلائل من بوابة زنزانة ضيقة معتمة، يقضي فيها عقوبة إيمانه الخرافي بأن بوسع الكلمة أن تغير واقعاً، بلغ من العبث والانحطاط حداً، صارت معه الكتابة إثماً يستحق السجن.
وطيلة نحو عقدين كانت هناك دائماً "مسافة ما" تفصلني عن إبراهيم عيسى، سمحت لي أن أراه جيداً غير متأثر بحميمية الالتصاق، ولا جفوة الغيرة، كنا نلتقي في الخطوط العريضة ونختلف في بعض التفاصيل، لكن هذا لم يكن سبباً لأن يحرمني من المساهمة في كل تجربة صحفية خاضها، بل على العكس، ظل دائماً يشرع أجنحته للريح والمطر والحرية، ويسعى إلى تأليف أسراب الطيور التي تحلق معه.
لم يحذف لي حرفاً في مقال، ولم يطلب أن أكتب في هذا الاتجاه أو ذاك، وحين اتهم بمغازلة الإخوان كنت أتعمد انتقادهم بشدة فلم يمنع النشر، لهذا تحديت الذين يتهمونه بأن بوسع الكتاب والصحفيين أن ينتقدوا الإخوان في "الدستور"، تماماً كما ينتقدون الحزب الوطني وحكومته، وكافة الأحزاب والقوى السياسية، وهذا هو جوهر الليبرالية الحقيقي، أن تتحول الصحيفة إلى حديقة تتسع لكافة الزهور والأشواك، وهذا هو المعيار الذي يميزها عن "الصحيفة المشتل" التي لا تسمح لغير نوع واحد من النباتات أن تتنفس.
حين دشن بتجربتيه الأولى والثانية في "الدستور" نهجاً جديداً في حقل المهنة وحرية التعبير، لم يثر عيسى فزع دوائر السلطة وأوساط "الصحافة البلشفية" فحسب، بل أثار أيضاً أحقاد "تنابلة" المعارضة، فبعد أن كشف ضعفهم وانتهازيتهم وتواطئهم على نحو ما، ارتدى الأدعياء قناع الحكمة وراحوا يتعالمون ويتهمون إياه بالفجاجة تارة والمراهقة تارات، ويصفون الدستور بأنها "صحافة بير السلم"، مع أنها توزع أضعاف صحفهم، واستمرت بينما فشلت تجارب الكثيرين، بل وتخابث البعض متساءلين عما يضطر السلطة لابتلاع وجبة النقد المريرة يومياً من "الدستور"، دون أن تلقي بعيسى في غياهب السجن.
وهكذا روج جنرالات المعارضة لاستنتاجات تتقنها ذهنية التنظيم السري، وتزعم أن عيسى ربما يكون مدعوماً من جهة متنفذة، ويؤدي دوراً لصالحها، فهاهو "أبو يحيى" يعد حقيبة السجن، فهل يكفي ذلك دليلاً ليقتنعوا بأن المدينة ليست خالية تماماً من العشاق، وفي هذا المقام أقترح عليهم أن يغيروا وثائقهم الرسمية ـ وخاصة جوازات السفر ـ ليدونوا في خانة المهنة كلمة "معارض"، فربما يفيدهم ذلك يوماً ما
أما "كتبة البلاط" فحدث ولا حرج، فقد ارتدى جلهم ملابس المهرجين، وصبغوا وجوههم بألوان فاقعة، وراحوا يبشرون بالزمن الجميل الذي ينتظرنا في عهد الفكر الجديد السعيد، بينما اعتلى آخرون عصي "المقشات" وتخيلوا أنفسهم فرساناً يمارسون النقد المجاني الآمن لإسرائيل وأميركا وقطر، لكن لا يقتربون من كوارث العبارات والقطارات والاحتقانات الطائفية، والفساد الذي نتنفسه كل يوم، والاستبداد الذي أصبح منهجاً تحميه القوانين، وتسهر على حراسته كتائب الانتهازيين منعدمي الضمائر والمواهب.
من لطف الأقدار بنا ألا نعرف يوم مماتنا فترقب الموت أسوأ من وقوعه، وقلبي مع "أبو يحيى" الذي يمثل اليوم أمام محكمة أمن الدولة العليا ـ هل تلاحظ معي فخامة المسمى ورهبته ـ ولا يتفاءل كثيرون، وعيسى في مقدمتهم، بأن يحصل على البراءة، أو أن يتراجع النظام عن نيته في حبس الرجل الذي لم يفعل أكثر من رصد شائعة، لم يصنعها هو، بل يدرك الجميع في كافة المواقع أنها كانت منتشرة بالفعل في كل مكان على أرض مصر، وغاية ما فعلته "الدستور" أنها رصدت الشائعة وسعت إلى تحليلها بطرق شتى، واجتهدت وربما أخطأت أو أصابت، ليس هذا هو المهم، الأهم أنها قفزت على ذلك الحاجز الوهمي الذي يصر البعض على وضعه بين ما يجري وما يقال وبين ما يشغل الناس حقاً، وما يريد الآخرون أن يلهوهم عنه، وبدلاً من محاسبة المسؤولين عن انتشار الشائعات، تتم التضحية بإبراهيم عيسى كبش فداء لمحرقة الصحافة والسياسة معاً، وهي فرصة لتصفية الحساب بالجملة مع ذلك الفتى النزق، الذي طالما أزعجهم.
في الجانب الآخر من هذا المشهد المتوتر يتحدث كهنة الحزب الحاكم في مجالسهم الخاصة بلهجة لا تخلو من وعيد، عن حزمة إجراءات عاصفة، ويراهنون بدرجة أو أخرى من الحماس على خطوة يبشرون بها بكل الثقة وكأنها "آتية لا ريب فيها"، تبدأ بغلق الصنابير التي تدفقت منها المياه خلال الأعوام الأخيرةً وتغيير كافة "المحابس" التي تتسرب منها المياه وباختصار "تجفيف الحراك" الذي يتفق الجميع في مصر ـ مؤيدين ومعارضين ـ على أنه بدأ بالفعل، وهاهو النظام يبتلع "التحريض الفج" من مستشاريه، الذين لم يبذل جهداً كافياً في اختيارهم ولا اختبارهم بعناية، حتى يقلب "ظهر المجّنّ" للشارع والنخبة، على نحو يستدعي المقارنة بين أجواء سبتمبر عام 1981، وسبتمبر 2007.
وأخيراً تبقى زاوية أكثر تفاؤلاً يمكن للمرء أن يرى خلالها "عودة الروح" التي بشر بها يوماً توفيق الحكيم، وقد بدأت تدب في أوصال "الأمة المصرية" التي كدنا من فرط اليأس نحسب أنها ماتت، لكن السياسة عادت إلى الشارع، وهاهم الفاسدون والزائفون والمزورون باتوا محشورين في زاوية الدفاع عن أنفسهم وتبرير عار المتاجرة بمستقبل الأمة من أجل منافع شخصية، فمصر شأن أي بناية عريقة، ما أن تنفض عنها الأوساخ، وتزيل العناكب والحشرات، حتى تبدو روعتها وتستعيد رونقها.
والله غالب على أمره
Nabil@elaph.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف