كتَّاب إيلاف

تعهدات مصر لدخول مجلس حقوق الإنسان: برنامج انتخابي أجوف؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

يوم 12 أغسطس الماضي كان د. بطرس بطرس غالي ضيف إحدى برامج التلفزيون المصري الحوارية. ونظرا للمنصب الذي يحتله د. غالي الآن كرئيس للمجلس القومي (المصري) لحقوق الإنسان، فقد كان أحد مواضيع الحوار الرئيسية، بطبيعة الحال، يدور حول حقوق الإنسان......في أمريكا!!
إذ بعد أن أبدى الضيف ارتياحه بشأن التقدم الذي يحرزه مجلسُه في مصر، بدليل "ارتفاع نسبة ردود الجهات الرسمية على الخطابات التي يوجهها المجلس" (!!)، بدأ المذيع يشتكي بحسرة: كيف تجرؤ أمريكا على انتقاد أوضاع حقوق الإنسان في غيرها من الدول بينما هي لديها "جوانتانامو"، وبينما يجري "اضطهاد المسلمين في أمريكا". وبرغم كون مساجين جوانتانامو هم حاليا 355 من عتاة الإرهابيين الإسلاميين الخطرين، وكون "اضطهاد المسلمين"، أو حتى خدشهم، بأمريكا، أو بغيرها من دول الغرب، أمرا لا وجود له إلا في مخيلة المذيع وأمثاله؛ إلا أن الضيف أيده ناصحا بضرورة استمرار الكلام في هذه الأمور وفضحها. ازدادت حسرة المذيع وآلامه البادية على وجهه وترقرقت عيناه بالدموع، واستطرد شاكيا أنه ما أكثر ما يتكلم الناس، لكن شيئا لا يتغير. وهنا أجاب د. غالي ـ بحكمته المعهودة ـ بأنه لا مفر من الاستمرار، لأن "التكرار يُعلّم الحمار" (...الأمريكي، بالطبع!)

لكن ماذا عن مصر؟؟
لن نتعرض هنا لسجل مصر الذي لا يسُرّ صديقا أو عدوا؛ لكننا سنحاول التعرف على "رؤيتها" للموضوع، منتهزين فرصة انتخابها في مايو الماضي لعضوية مجلس حقوق الإنسان الجديد، التابع للأمم المتحدة، عن الفترة 2007ـ2010، ضمن مجموعة من أربع دول رشحها الاتحاد الأفريقي لشغل المقاعد الأربعة المخصصة له..
نلاحظ أن بعثة مصر الدائمة في الأمم المتحدة، بمساعدة غيرها من أجهزة الدولة، كانت قد أخذت الترشيح بجدية واحترافيّة تشكر عليها، ووجهت لرئيس الجمعية العامة مذكرة بتاريخ 18 أبريل 2007، طلبت توزيعها على الدول الأعضاء كوثيقة رسمية في دورة الأمم المتحدة 61 تحت البند رقم (105 هـ) في الأجندة.
وقد تضمنت المذكرة ما يمكن أن نعتبره "برنامجا انتخابيا"، إذ اشتملت عددا من التعهدات الاختيارية (voluntary pledges) والالتزامات (commitments) في مجال حقوق الإنسان، داخليا ودوليا.
سنحاول هنا عرض أهم ما ورد في المذكرة قبل التعليق عليها:

أولاـ إطار عمل
1ـ باعتبارها عضوا مؤسسا للأمم المتحدة، ومشاركة في كافة الآليات الأساسية لحقوق الإنسان الدولية، وواحدة من الدول الفاعلة في تشكيل أجندة حقوق الإنسان الدولية، فإن مصر تتقدم بالترشيح لعضوية مجلس حقوق الإنسان (..).
[وتذكر هوامش المذكرة قائمة تشمل ما لا يقل عن 24 معاهدة وبروتوكول ووثيقة شاركت مصر في إصدارها ووقعت عليها؛ مثل معاهدة وبروتوكول الرق (1926)، ومعاهدة العمل القسري (1930)، ومعاهدة جريمة التطهير العرقي (1948)، ومعاهدة حظر الاتجار في أو استغلال البشر (1950)، ومعاهدة أوضاع اللاجئين (1950)، ومعاهدة الحقوق السياسية للمرأة (1953)، والمعاهدة الإضافية حول حظر تجارة الرقيق (1956)، والمعاهدة الدولية لإزالة كافة أشكال التفرقة العنصرية (1965)، والمعاهدة الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية (66)، والمعاهدة الدولية حول الأبارتايد (73)، ومعاهدة حظر كافة أشكال التمييز ضد المرأة (80)، والمعاهدة الدولية ضد التعذيب والعقوبات غير الإنسانية (84)، ومعاهدة حقوق الطفل (90)، والمعاهدة الدولية حول حقوق العمال المهاجرين وعائلاتهم (90)، وبروتوكولات اختيارية بشأن حقوق الطفل (2000)].
3ـ تعتقد مصر أن مجلس حقوق الإنسان يوفر فرصة تاريخية لمواجهة عيوب مفوضية حقوق الإنسان، والسعي لتحقيق نظام حقوق إنسان دولي جديد، يتم فيه تفعيل وحماية كافة حقوق الإنسان على قدم المساواة وبدون تفرقة أو معايير مزدوجة.
4ـ تبذل مصر قصارى جهدها لرفع مستوى تطبيق كافة أدوات حقوق الإنسان التي صادقت عليها، مسترشدة بعمل آليات حقوق الإنسان ومستفيدة من خبرات الدول الأخرى والأولويات والأعمال المتفق عليها من بين نتائج المؤتمرات الرئيسية للأمم المتحدة، بما فيها إعلان الجمعية العامة في سبتمبر 2000 وقمة 2005 العالمية.
5ـ إذا انتخبت مصر لعضوية مجلس حقوق الإنسان، فسوف تعمل بصورة بنّاءة مع كافة الأطراف، على قاعدة الحوار والتعاون، لإزالة كافة العوائق بهدف التفعيل التام لكافة حقوق الإنسان ومنع انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. وستستمر مصر في الدعوة للتفعيل الكامل لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، مؤكدة في هذا الصدد على ترقية الديموقراطية وحكم القانون وترشيد الحكم (good governance) على كافة المستويات. وستؤكد مصر على أهمية التركيز على أهداف إزالة الفقر ومحاربة التفرقة العنصرية والكراهية، وتشجيع التسامح الثقافي والديني، وتقدم حقوق النساء والأطفال ورفع درجة الوعي العام بحقوق الإنسان مع التأكيد على دور التعليم.

ثانياـ تتمسك مصر بالالتزامات التالية
أ ـ على المستوى الدولي والإقليمي:
1ـ العمل على أن يكون المجلس قويا وفعالا وقادرا على ترقية وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع.
3ـ مساندة مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في القيام بمهمتها؛ وفي هذا الصدد تتطلع مصر إلى استضافة المكتب الإقليمي لشمال أفريقيا بالقاهرة.
5ـ تشجيع الدور البناء للمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني بصفة عامة في ترقية حقوق الإنسان على كل المستويات.
6ـ المساهمة في تطوير مهمة المجلس بشأن تحديد المعايير، بناء على إيمان مصر بعدم تجزئة (indivisibility) حقوق الإنسان وخاصة في ميادين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (..).
9ـ المساهمة النشطة في تطوير الشروط المرجعية والكيفيات (terms of reference and modalities) الخاصة بالمراجعة الدورية (..) ومختلف إجراءات وآليات المجلس (..)
11ـ الاستمرار في مساندة الفعاليات الدولية والإقليمية التي تسعى لتقدم قضية حقوق المرأة وتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين.
12ـ الاستمرار في (..) لتقدم قضية حقوق الطفل.
15ـ باعتبارها عضوا رائدا بالجامعة العربية، فقد صادقت مصر على "الميثاق العربي لحقوق الطفل" وهي بصدد المصادقة على "الميثاق العربي لحقوق الإنسان" (..)
16ـ الاستمرار في الالتزام بتطوير (upgrading) نظام حقوق الإنسان لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بناء على إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام لسنة 1990 والأدوات الأخرى التي تم تطويرها منذئذ، بما في ذلك العمل الجاري لإعداد مسودة معاهدة حول إزالة التفرقة العنصرية في الإسلام (elimination of racial discrimination in Islam).

بـ ـ على المستوى المحلي: ستقوم الحكومة المصرية بالتالي:
1ـ المحافظة على حرية الصحافة واستقلال القضاء ودور المحكمة الدستورية العليا (..)
2ـ السعي للاستجابة لتطلعات شعبها نحو مستقبل أفضل خلال عملية إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي مستندة إلى تشجيع وحماية حقوق الإنسان، وتنفيذ الاستراتيجية القومية لحقوق الإنسان التي تستند إلى الأسس التالية:
ـ تشجيع ثقافة حقوق الإنسان عبر التعليم والتثقيف، استنادا إلى دروس "العِقد الدولي لثقافة حقوق الإنسان" (1994ـ2004)
ـ توفير برامج التدريب الضرورية في ميدان حقوق الإنسان للعاملين بأجهزة الأمن والقضاة وأعضاء النيابة والمحامين والصحفيين والبرلمانيين والإعلام.
ـ تقوية منظمات حقوق الإنسان عبر المجلس القومي للطفولة والأمومة واللجنة الدائمة لحقوق الإنسان بمجلس الشعب والإدارات الخاصة بحقوق الإنسان في وزارات الخارجية والعدل والداخلية ومكتب النائب العام ومكتب "الأومبودسمان" في المركز القومي للمرأة.
ـ إعداد أهداف وردود ذات مصداقية على الشكاوى والطلبات التي تصل من آليات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، والتعاون معها في أداء التزاماتها.
3ـ بناء على ما سبق: الاستمرار في الالتزام بتحسين وتقوية البنية التحتية القومية لحقوق الإنسان، والاستمرار في تكامل وتشجيع والمحافظة على حقوق الإنسان والحريات الأساسية ضمن استراتيجيات وسياسات التنمية القومية.
4ـ الاستمرار في الالتزام بتقوية آليات التعويض المتاحة لكل المواطنين، بغرض تمكينهم من تقديم أي شكاوى وعدم إعطاء حصانة (للمشكو ضدهم) بأي صورة. الالتزام بتقوية استقلال القضاء وقدراته (..) ودور مجلس حقوق الإنسان، بما في ذلك مكتب "الأمبودسمان" الذي سيتم إنشاؤه، ومجلس حقوق المرأة، في معالجة الشكاوى (..)
5ـ الاستمرار في الالتزام بتقوية المجلس القومي لحقوق الإنسان كهيئة مستقلة، تأسس طبقا لـ "مباديء باريس" التي اعتمدتها الجمعية العامة، أوكلت إليه مهمة إعداد خطة عمل قومية (..) إضافة إلى لعب دور هام في تلقي ومتابعة الشكاوى الفردية، والقيام بدور جسر بين الحكومة والمجتمع المدني. وستستمر الحكومة في الرد على تقارير المجلس وفحص التوصيات والملاحظات التي تشملها بهدف تفعيلها.
6ـ الاستمرار في تشجيع التمكين الاجتماعي والاقتصادي للمرأة عبر برامج تمييز إيجابي (..) وتدريب جمعيات المرأة، والاستمرار في العمل على محاربة العنف ضد المرأة واستئصال التمييز ضد المرأة عبر إجراءات تشريعية، وتفعيل السياسات القائمة، والاستمرار في دعم المجلس القومي لحقوق المرأة كنقطة التقاء بشأن قضايا المرأة، ومساندة مكتب "الأومبودسمان" (بالمجلس) في مهمة استلام شكاوى النساء وتزويدهن بمساعدات قانونية.
7ـ الاستمرار في مساندة عمل المجلس القومي للطفولة والأمومة لصياغة وتنفيذ استراتيجيات وبرامج لترقية وحماية حقوق الأطفال بما في ذلك ممارسات العنف الضارة بالأطفال الإناث.
9ـ الاستمرار في الالتزام بإلغاء حالة الطواريء بمجرد الانتهاء من إعداد قانون ضد الإرهاب الذي يسعى لتحقيق توازن دقيق بين حماية أمن المجتمع واحترام حقوق الإنسان.
10ـ الالتزام بالاستمرار على طريق تعميق الديموقراطية بناء على الإصلاحات الدستورية (...)
13ـ الفحص الدوري لأوضاع تطبيق أدوات حقوق الإنسان التي ارتبطت بها مصر، بهدف التأكيد على تناسق وتطابق التشريعات المحلية والالتزامات الدولية، آخذين في الاعتبار أن الأدوات (أي المعاهدات والاتفاقات والبروتوكولات) الدولية تصبح، بمجرد التصديق عليها، جزءا من النظام القانوني الوطني.
14ـ الاستمرار في ترقية الوعي العام بحقوق الإنسان في المجتمع، عبر إدخال مواد في برامج الدراسة على كافة المستويات، وتنظيم حملات توعية شعبية عبر الإعلام والمجتمع المدني، مع تركيز خاص على حقوق المرأة والطفل.
15ـ الاستمرار في تشجيع جهود المجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية والإعلام للمساهمة، كشركاء، في حماية وترقية حقوق الإنسان داخل التشريعات الوطنية المطبقة.
***
ربما يحتاج كل "تعهد" و "التزام" تطوعت مصر بإعلانه إلى تعليق، ولكننا سنقتصر على الملاحظات التالية:
أولا: المذكرة مليئة بالكلام الرائع الذي يتفوق على "أبرع" برنامج انتخابي مشبع بالوعود. هل هي مجرد كلام "سد خانة" موجه للخواجات، استمرارا لسياسات وتقاليد الخطاب المزدوج، وهل هناك نية حقيقية لتطبيقها؟ وكيف نفسر، على سبيل المثال تصريح السفير ماجد عبد الفتاح، مندوب مصر الدائم أمام الأمم المتحدة، وفي نفس يوم انتخاب مصر، ردا على سؤال (الأهرام 20 مايو) عما إذا كان يعتقد "أن منظورنا العربي لحقوق الإنسان يتعارض مع المعايير الدولية والغربية؟" بقوله: [كل منطقه في العالم لها معاييرها الخاصة بهاrlm;... rlm;مثلاrlm;..rlm;هناك بعض المعايير التي تختلف باختلاف الديانةrlm;.rlm; فما ينطبق علي المسلمين قد لا يتوافق مع المسيحيين أو اليهود فضلا عن اعتبارات الثقافة السائدة في المجتمعrlm;. rlm;نحن نؤمن بان الموضوع لا يعني بالضرورة فرض أنماط جديدة علينا (..rlm;)rlm; ولا نقبل أن يفرض علينا أحد معايير معينة لحقوق الإنسانrlm; (..)"]rlm;.
فهكذا، وبتصريح صغير لكنه بالغ الدلالة (حتى وإن كان موجها للاستهلاك المحلي)، rlm;تنكرت مصر ببساطة شديدة لمبدأ "عالمية" (universality) حقوق الإنسان، وجعلت توقيعها على قائمة المعاهدات المنوه إليها في المذكرة حبرا على ورق، و "لحست" تعهداتها الجميلة مثل " تفعيل وحماية كافة حقوق الإنسان على قدم المساواة وبدون تفرقة أو معايير مزدوجة" و " تطبيق كافة أدوات حقوق الإنسان التي صادقت عليها" و " الدعوة للتفعيل الكامل لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع".
ثانيا: لم تكد تمضي أربعة شهور على انتخاب مصر حتى تراجعت عن "إلتزامها" رقم 3 باستضافة مكتب المفوضية الإقليمي لشمال أفريقيا بالقاهرة، إذ يبدو أن السلطات (راجع "المصري اليوم" 21 سبتمبر) رفضت رسميا طلب المفوضية لإنشاء مكتب إقليمي لها والتي بدأت المفاوضات حوله منذ أكثر من عام. وعددت الصحيفة عددا من الأسباب (المخجلة) التي دعت لرفض مصر ـ فهل بداية القصيدة كفر؟؟
ثالثا: إن مجرد عضوية مصر في مجلس دولي كهذا يعني اعترافها (إن كانت هناك حاجة لذلك) بأن قضية حقوق الإنسان أمر دولي، وبالتالي يحق للمجتمع الدولي أن يراقب السياسات والممارسات الداخلية لكافة دول العالم وينتقدها. بالطبع تعرف مصر هذا ولا يتورع مسئولوها وإعلامها عن إعطاء الدروس المتعجرفة للآخرين بصورة تصدق معها مقولة "يا مرائي: أخرج أولا الخشبة من عينك قبل أن تخرج القذى من عيون الآخرين". لكن الأكثرعجبا أنه بمجرد انتقاد المجتمع الدولي لتصرفاتها في هذا المجال، ينتفض مسئولوها بصبيانية تثير الغثيان مؤكدين "رفض مصر القاطع للتدخل في شئونها الداخلية. (راجع تعليقات وزير الخارجية حول تقرير الحريات الدينية الأمريكي، أو حول ردود الأفعال العالمية بعد أحكام حبس صحفيين مصريين بتهمة الإساءة إلى رئيس الجمهورية والحزب الحاكم!!) هل تليق هذه التصرفات بدولة "مسئولة" وعضو في مجلس دولي كهذا؟
رابعا ـ تقول المذكرة أن "الأدوات (أي المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات) الدولية تصبح، بمجرد التصديق عليها، جزءا من النظام القانوني الوطني". وهذا مبدأ معروف ويسعدنا أن تعترف به مصر في تخاطبها مع الهيئات الدولية، لكن السؤال هو لماذا ترفض ـ في نفس الوقت ـ تطبيق "الأدوات" الدولية، التي أصبحت "جزءا من النظام القانوني"، إلا بصورة انتقائية وبالمزاج؟
خامسا ـ تقول المذكرة أن مصر ستقوم بمساندة قضية حقوق المرأة وتمكين المرأة، والمساواة بين الجنسين. هذا بالطبع كلام رائع ونتوق لرؤية اليوم الذي تنال فيه المرأة حقوقها الكاملة، لكن هل تعني مصر حقا "المساواة بين الجنسين"، بينما تقنن عدم المساواة في دستورها ـ مثل المادة 11 التي تنص: "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها فى المجتمع، ومساواتها بالرجل (..) دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية". (لاحظ "أحكام" وليس "مباديء")؟
سادسا ـ تقول مصر أنها بصدد المصادقة على "الميثاق العربي لحقوق الإنسان". لا نفهم لماذا تضيع الدول العربية وقتها "الثمين" وجهدها الضنين في اختراع ما تم اختراعه من قبل، ولماذا لا تلتزم بمواثيق حقوق الإنسان الدولية بدل التفلسف؟ وهل الأمر يرجع لاختلافات بين الميثاق "العربي" والميثاق "العالمي"؟ وفي حال اختلاف الميثاقين، فأيّا منهما ستتبع مصر؟؟
مراجعة سريعة "للميثاق العربي" تفضح، مثلا، النص الذي يقول: "الرجل والمرأة متساويان في الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات في ظل التمييز الإيجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الأخرى والتشريعات والمواثيق النافذة لصالح المرأة". وهو من أعجب التعبيرات الملتوية التي يمكن أن يعثر عليه أحد في أي وثيقة دولية أو محلية في تاريخ الوثائق السياسية وغير السياسية، منذ اختراع الكتابة: فهو يصف الأوضاع المتدنية للمرأة في الشريعة، التي يعرفها الجميع (يكفي أنها تساوي نصف الرجل إرثاً وشهادةً أمام المحاكم الخ)، باعتبارها "تمييزا إيجابيا"!!!
سابعا ـ تشير المذكرة إلى "العمل الجاري لإعداد مسودة معاهدة حول إزالة التفرقة العنصرية في الإسلام". وبغض النظر عما يمكن عمله في هذا المجال، فهو كلام أمين يدل على إدراك بوجود "مشكلات" تستدعي المعالجة ويدل على قدرة الحكومة على التخاطب مع الجهات الدولية بالأساليب المناسبة إذا اقتضت الأمور. فقط نتمنى ألا تهيج هائجة "من يهمهم الأمر" لقطع الطريق على تغيير ما قد يعتبرونه من الثوابت غير القابلة للنقاش.... (وأيضا نتمنى ألا يتم التحقيق مع كاتب المذكرة، لانكشاف أمره بعد نشر هذا المقال، واتهامه "بالازدراء بالأديان"..)
ثامنا ـ غير مكتفية بالنصوص العامة مثل الالتزام بالمواثيق الموقعة في هذا الشأن؛ تتحدث المذكرة أكثر من مرة عن حقوق المرأة وتمكينها. وهذا كله ـ مرة أخرى ـ مما نغتبط له، ويدل على اهتمام "القيادة السياسية" للبلاد بالأمر؛ لكنها لا تذكر حرفا واحدا عن الأقليات والفئات المهمشة مثل الأقباط. ونلاحظ أكثر من ذلك أنها تتحدث عن "التمييز الإيجابي" لصالح المرأة، بينما سبق أن هاجت الدولة وماجت ضد من طالبوا بتمييز إيجابي مؤقت لوقف تهميش واستبعاد الأقباط، متهمة إياهم بالطائفية. كما تعد المذكرة "بالعمل على محاربة العنف ضد المرأة واستئصال التمييز ضدها عبر إجراءات تشريعية وتفعيل السياسات القائمة"، لكن لا كلمة ولا همسة عن محاربة العنف واستئصال ـ أو حتى "الحد من" ـ التمييز ضد الأقباط!! كل هذا يبين بوضوح أن سياسات التمييز هي من الثوابت التي لا يزمع النظام التخلي عنها بسهولة، وذلك برغم المواثيق الدولية الواضحة في هذا الشأن، والتي صادقت عليها مصر فأصبحت "جزءا من النظام القانوني"، وبرغم اهتمامها ـ كما تزعم المذكرة ـ بـ "حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع"، "على قدم المساواة وبدون تفرقة أو معايير مزدوجة"!!
***
نكتفي بهذا القدر من الملاحظات. وأخيرا يمكننا بالطبع اعتبار المذكرة مجرد برنامج انتخابي لا يستحق إلا التجاهل.
لكن يمكننا أيضا "مساعدة" الحكومة على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها عن طريق الإمساك بتلابيبها وفضحها كلما تقاعست عن العمل على تحقيق ما وعدت والتزمت وتعهدت به؛ أو إذا اتضح أنها لا تنوي ـ عمليا ـ أن تغير من سلوكها المزمن.
لذلك، وعملا بنصيحة د. غالي، نعد حكومتنا الغالية "بتكرار" الكلام في هذه المواضيع، تذكيرا وتنبيها وتبكيتا ـ وبدون ملل ـ لعلها "تتعلم" ولو بعد حين!

adel.guindy@gmail.com


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف