كتَّاب إيلاف

وجها لوجه

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"القتل ممكن. لكنّه ممكن حين لا ننظر إلى الآخر وجهاً لوجه." ليفيناس

في حوار أجري معه قبل وفاته، قال إيمانويل ليفيناس ( 1906 - 1995 ): "ثمة علاقة وطيدة بين الوجه والحوار. الوجه هو الناطق والمتحدّث، وهو الذي يتيح امكانية التواصل ويبتدئ الحوار... والقول الأول الذي يطلقه الوجه هو: "لاتقتل" وهو فعل آمر. في تجلي الوجه ثمة حكم وفعل أمر كأنه يصدر من الكائن الأعلي، وفي نفس الوقت يمكن وصف نداء الوجه برجاء مستنجد. انه ذلك الضعيف الذي يتعين علي ان أخدمه بكل ما أستطيع وأظل مدانا له في الوقت نفسه.
أنّ حضور وجه الآخر ليس مدعاة إلي الصّراع والعنف، كما ذهبت إلى ذلك وجوديّة سارتر: "الجحيم هم الآخرون"، بقدر ما هي علاقة قبول وحوار وتسامح، وفي هذا القبول بالآخر دون احتوائه في منظومتنا المعرفيّة، تكمن إنسانية الإنسان.
ويُسمّي ليفيناس الالتقاء "بالآخر" بـ"الحدث"، حتى أنه يصفه بـ"الحدث الأساسي". فهو يشكّل، بحسب اعتقاده، التجربة الأهمّ، تلك التي تفتح أوسع الآفاق للحوار والحياة والسلام. وهذا اللقاء، كما يشير هو بداية الخروج من التمركز حول ذاتي، فمجرد وجود الآخر أمامي هو انكار لكوني أنا مركز كل شئ، ودعوة في الوقت نفسه إلى الخروج من ذاتي والعيش مع الآخر.
وعلي الضد من علاقة " كتف بكتف " التي طالت كثيرا، ونتج عنها ابتلاع الأنا في الآخر أوذوبان الآخر في الذات، تحافظ علاقة "وجها لوجه " أساسا علي مسافة مناسبة بين الأنا والآخر، وعلي الانفصال الذي هو شرط الاختلاف، ذلك أنها ليست دمجا للذات والآخر في وحدة كلية، حيث لايمكن هذا الدمج، ومن ثم فهي أيضا علاقة أخلاقية، تستدعي حرية الذات لتوجهها نحو المسئولية.
وهكذا يؤسس ليفيناس في احتفائه بالانفصال والاختلاف والوجه، لذاتية تتحقق كمسؤولية تجاه الآخرين، وهذه المسئولية " لايمكن الهروب منها أو أستبدالها أو التنصل منها أو الاستعاضة عنها بأي شئ آخر أبدا ". ويبدو أن الدرس الاخلاقي الذي يمكن استخلاصه من العولمة اليوم، إذا أردنا، هو : " جعل مستقبل الآخر مسؤولية شخصية ".
بيد ان مقولة "وجها لوجه" عند ليفيناس تحيلنا خفية إلي ما أصبح يعرف اليوم بلغة الجسد - وحسب علوم: النفس واللغة والاتصال... فإن هناك أربع شفرات للتواصل الإنساني، الكلام والصوت (السمع)، والجسد والوجه (البصر). فأنت لا تقنعني بما تقول فقط من كلمات، وإنما بالصوت والوجه والجسد.
أضف إلي ذلك أن اللغة الأبجدية نفسها تستخدم لغة الجسد، مثلما نقول: لم يرف له جفن، غض الطرف، اليد الممدودة بالسلام.... الخ. فضلا عن أن الكلمات لا تخرج فقط من فم الانسان، وإنما من كل جسده، ناهيك عن ان ما يقوله الفم ليس بالضرورة هو ما يقوله الجسد. فالإنسان لا يمكنه أن يختبئ خلف جسده وإن كان بإمكانه أن يتواري خلف كلامه. وعلاقة "وجها لوجه" هي علاقة مباشرة، والمباشرة، ربما كانت، علي صلة "بالبشرة" في اللغة العربية.
وكما لاحظ "آلان بيز" في كتابه "لماذا يحكّ الرجال آذانهم، والنساء يبرمن خواتمهن؟" فإن المرأة أكثر حنكة ومعرفة في لغة الجسد من الرجل، وهو ما يعرف بالحدس الأنثوي. لذا لا يستطيع الرجل تمرير كذبته على زوجته كثيرا، لأنه سرعان ما يسقط تحت سلطان حدسها وامتلاكها لأدوات وشفرات الإشارات الجسمية، خصوصا الوجه.
فهي كأم تتعامل مع لغة الإشارات لأن الطفل في بداية أمره لا يتكلم، إلا أن عدم كلامه لا يعني انه لا يتواصل، بوسائل أخرى منها حركات الجسد وتعابير الوجه، وهو ما يجعل المرأة أشد صلاحية من الرجل في المفاوضات، لأنها لا تسقط الإشارات من الاعتبار خلال التفاوض.
الطريف أن لعبة كرة القدم هي أحد الميادين التي تطرح في شدة مشكلة العلاقة بين اللغة والجسد، بمعنى : كيف يمكـــنك ان تجعل شخصاً ما يفهم، أو بالأحرى، أن تجعل جسد شخص ما يفهم؟ كيف يمكنه تصحيح الطريقــة التي يتحرك بها؟.
ثمة إذاً طريقة للفهم خاصة تماماً، هي تلك الطريقة التي تتمثل بجسد المرء، وهناك أكوام من الأشياء لا نفهمها إلا بأجسادنا، خارج الوعي الواعي، ومن دون أن نستطيع صوغ فهمنا في كلمات، كما يشير بيير بورديو.
لقد تسربت لغة كرة القدم عبر كل مسام حياتنا، من السياسة الى الشارع، وحتى فراش الزوجية.
قبل سنوات قليلة تبادل المفاوضون ( الفلسطينيون والإسرائيليون ) في ملعب الموفنبيك المطل على البحر الميت في الأردن، كل مصطلحات كرة القدم تقريباً، عبر تفاهمات " وثيقة جنيف " بدءاً من "أنت لاعب احتياطي"، و"الكرة في ملعبك"، مروراً بـ"الطرد" و"التعادل السلبي" وانتهاء بأشهر النكات: "اسرائيلي يركل ضربة جزاء.. انفجـرت الكرة في وجـهه "!
وهي في الواقع أكثر من مجرد نكته، لأن "القتل ممكن. لكنه ممكن حين لا ننظر إلي الآخر وجها لوجه"... كما قال ليفيناس.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
دلالات
محسنة درغام -

يحمل هذا المقال أكثر من دلالة تصب في خانة النزعة الانسانية الجديدة فالآخر هو مسؤولية الأنا أو قل اهتمام الأنا بذاتها الأخري . انه الأنا الأخري المغايرة التي يجب التعرف عليها ... شكرا للكاتب علي هذا الجهد الفلسفي المتميز .

كلام جميل
سمراء -

أليس القول بأن الآخر هو مسئولية الأنا يحمل تعالي الأنا في جوفه بينما يريد ان يظهر العكس ؟أري ان لقاء الأنا والآخر في منتصف الطريق هو الحل وان تتم الحركة في نفس التوقيت وتحمل الهدف نفسه ؟

لغة الجسد
محمود صابرين -

لغة الجسد انتشرت مع ظهور السينما والتليفزيون وانتشار الفضائيات والفيديو كليب والمنوعات وهي لغة تدرس لانها تفيد رجال الجمارك والأمن والمخابرات خصوصا مع انتشار الارهاب والتهريب . لكن أول مرة اعرف انها مهمة للتفاوض والدبلوماسية وكشف نزوات الرجال !!! شكرا علي المقال للعزيزة ايلااااااااااف

دعوة للمحبة
القس بيشوي لمعي -

مقال يحمل المحبة تجاه الجميع ويدعو إلي السلام فقد خلق الله الانسان علي شبهه ومثاله ، والتأمل في وجه الانسان هو تامل في أهم ما خلقه الله من كائنات ومخلوقات . كما انه تأمل في " أنا " المخلوق مثلك . انها رؤية انسانية تطبق ما أمر به الله من ان نحب بعضنا بعضا ، واذا كنت تكره اخوك الانسان الذي تراه ، فكيف لك ان تتدعي انك تحب الله الذي لا تراه .

أحسنت /بيشوي لمعي !!
كركوك أوغلوا -

وكما جاء في رده :- خلق الله الأنسان على شبهه 0000وأذا كنت تكره أخوك الأنسان الذي تراه , فكيف لك أن تتدعي أنك تحب الله الذي لاتراه 000هذا الكلام في قمة المنطق ووجوهر الأنسانية ؟؟!!00وبالمقابل ما نسمع من المنابر ليل نهار , للدعاءعلى الأنسان (الآخر), بعكس ذلك ؟؟!!00

السلام للجميع
إبراهيم رأفت المصري -

قال السيد المسيح أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم صلوا من أجل الذين يسيؤون اليكم .. من سخرك ميلا أذهب معه ميلين .. لا تقاوموا الشر بالشر .هذه تعاليم الهيه ومن يتبعها يتمثل به ويستحق ان يحمل اسم ابن الله .للكاتب والقس وكركوكتحياتي وللجميع سلامي

اليهود أيضا
الليبرالي -

علي فكرة ليفيناس يهودي مؤمن ودعوته للآخر دعوة انسانية بحتة واالدكتور عبدالله بذكاء ذكر المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين ، خاصة وان الرئيس بوش يزور المنطقة الآن . اليهود جيراننا وأهلنا ومن اهل الكتاااااااااب .

لزم التنويه
فاطيما -

ليفيناس من أهم المفكرين في القرن العشرين وله مواقف مشرفة خاصة من الفلسطينيين ، وموقفه من مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها ابرياء عزل معروف . وهو لا يحركه غير ضميره الانساني وليست عقيدته الدينية . اذا لزم التنويه .

الطريق نحو التنوير
دأحمد ابراهيم الفقيه -

نعم بهذه الروح التي تمثل في هذاالمقال وغيره من مقالا دأب الاستاذ الدكتور عصام عبدالله وباصوات ذات منطلق انساني مثل اصواته نستطيع ان نسترد الفاقد في العقل وفي الحس الانسان وفي التفكير السليم الذي تحاول اصوات اخرى تدعم هرطقات التكفيريين والمتزمتيk الذين افلحوا في شد المجتمعات العربية الاسلامية الى الوراء ،اسمعوا لهذا القول وفي هذا القبول بالآخر دون احتوائه في منظومتنا المعرفيّة، تكمن إنسانية الإنسان.شكرا للدكتور الكاتب ، شكرا لايلاف لانها بمثل هذه الاقلام تكتسب تميزها وقوتها وتؤدي دورها التنويري في حياتنا

وجه ربك ذو الجلال!
مصرى وبس -

نفسى أفهم كيف يتواصل أحد مع ما يسمى بالإسدال؟ وهذا الإسدال يعنى أن الشخص -طبعا ليس مؤكدا أنه إمرأة- الشخص ذاك بدون وجه, فكيف تتواصل الناس!؟