التعددية الدينية: خروج عن الحق أم فهم أعمق له؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"الدين هو رد فعل دفاعي للطبيعة ضد تصور العقل لحتمية الموت" (هنري برجسن)
يظن الناس أن الإسلام جوهر ثابت لا يتغير وأن أصوله ومبادئه حددت ووضعت من قبل الخالق نفسه يستطيع العقل أن يدرك مقاصدها ويقسمها الى عبادات ومعاملات وأن الرسول محمد صلعم وأصحابه قد قاموا بتفصيلها وتوضيحها وأن مهمة التابعين من المؤمنين هو التطبيق والالتزام وممارسة الشعائر والطقوس وليس من مشمولاتهم التفكير في أصول العقدية وأحكامها. ويفسر أصحاب هذا الرأي بروز المذاهب والملل والنحل في الحضارة الإسلامية على أنه افتراق في الأمة وابتعاد عن الصراط المستقيم والانحراف عن جوهر الدين الصافي وأنه تخلى عن العروة الوثقى وتراجع عن مبدأ الاعتصام.
من هذا المنطلق فان أصحاب هذه الأطروحة يعتبرون التعدد ظاهرة مرضية وسبب البلاء ومصدر الانحطاط والتقهقر الذي عرفته حضارة اقرأ بعد عصر الازدهار والمجد ويرجعونه الى عدة أسباب أهمها الصراع على السلطة والخلاف في تدبير شؤون الدنيا والتنازع على تنظيم علاقات المجتمع ويضيفون الى ذلك التأثر ببعض الثقافات الوافدة على الإسلام مثل الإسرائيليات والصابئة وحنين الداخلين الجدد في الإسلام لمعتقدات الجاهلية الوثنية،كما أنهم ينبهون الى خطورة سقوط أقطاب المذاهب ومؤسسي الملل في تحريف التفاسير والزيغ في التأويلات والابتعاد عن معاني النصوص وروح الآيات،إذ يقول أوغست كونت في هذا السياق:"إن افتراض ديانات متعددة لا يقل عبثا عن افتراض صحة متعددة".
اللافت للنظر أن هذا التصور يستند الى حديث منسوب للرسول يتحدث فيه عن انقسام الأمة الى ثلاثة وسبعون فرقة واحدة فقط ناجية هي أهل السنة والجماعة والبقية هي فرق ضالة مفاده:"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة والباقون هلكى"[1] وفي رواية أخرى نجد ما يلي:" ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل،تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة تزيد عليهم ملة كلهم في النار الا ملة واحدة. قالوا يا رسوا الله وما الملة التي تتغلب؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".[2]
هذا الحديث رد عليه أبو حامد الغزالي في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة بأن بين أن كل الفرق في الجنة ما عدى واحدة فقط ضالة لكونها أفرطت في الجحود والزندقة ونكران وجود الذات الإلهية إذ صرح في هذا السياق:" وأما الحديث الآخر وهو قوله: الناجية منها واحدة. فالرواية مختلفة فيه.فقد روي الهالكة منها واحدة ولكن الأشهر تلك الرواية ومعنى الناجية هي التي لا تعرض على النار ولا تحتاج الى الشفاعة بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره الى النار فليس بناج على الاطلاق وان انتزع بالشفاعة من مخاليبهم.وفي رواية:كلها في الجنة الا الزنادقة وهي فرقة.ويمكن أن تكون الروايات كلها صحيحة فتكون الهالكة واحدة هي التي تخلد في النار،ويكون الهالك عبارة عمن وقع اليأس من صلاحه لأن الهالك لا يرجى له بعد الهلاك خير وتكون الناجية واحدة وهي التي تدخل الجنة بغير حساب ولا شفاعة لأن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذا ومن عرض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج على الاطلاق وهذان طريقان وهما عبارتان عن شر الخلق وخيره. وباقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين:فمنهم من يعذب بالحساب فقط ومنهم من يقرب من النار ثم يصرف بالشفاعة ومنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر خطاياهم في عقائدهم وبدعتهم وعلى كثرة معاصيهم وقلتها.فأما الهالكة المخلدة في النار مع هذه الأمة فهي فرقة واحدة وهي التي كذبت وجوزت الكذب على رسول الله صلعم بالمصلحة"[3].
لكن لو خرجنا من منطق الملة الواحدة وشيعنا بصرنا نحو العالم في تعقده وثرائه وتنوعه فإننا سنلاحظ تشعب الظاهرة الدينية واختلافها من ثقافة الى أخرى وتطورها عبر مر العصور بل انها تنقسم الى ثلاثة أنماط:
- الأديان السماوية والتي تستند الى نص أنزله الله على رسول أو نبي بواسطة وتدور هذه الأديان حول التقليد الإبراهيمي وبالتحديد الأديان التوحيدية.
- الأديان الطبيعية والتي تجعل مقدسها محايثا لبعض الظواهر الطبيعية مثل عبادة النجوم والجبال والأشجار والحيوانات والأنهار والتي تفسر ميل الناس الى الإيمان بالغيب الى أنه حاجة غريزية فطرية في الطبيعة الانسانية.
- الأديان الوضعية وهي ناتجة عن تقديس الناس لبعض الهيئات والشخصيات والمؤسسات التي صنعوها بأنفسهم وأصبغوا عليها صفة الانطلاقية والكمال والإلهام وتتمثل في عبادة الدولة والأحزاب والزعماء والمؤلفات البشرية مثل كتاب رأس المال لماركس أو ما العمل؟ للينين واعتباره مصدر الحقيقة والقيمة.
علاوة على ذلك يضيف بعض الفلاسفة طائفة اللادينيين من الملحدين واللاأدريين والشكاك الريبيين ومنكري النبوات والرسل والدهريين من منكري البعث والحياة الأخرى ضمن دائرة الأديان والفرق وحجتهم في ذلك أن "الإنسان غير الديني هو من سلالة الإنسان الديني" مثلما يقول مرسيا الياد.
عموما ما تشترك فيه كل الأنماط تعريف الدين بكونه الانقياد والتسليم بوجود قوة فوق طبيعية والعمل على إرضائها بالاستعداد للتضحية بالنفس من أجلها قصد طلب العون منها عند الحاجة. وينبع الدين من الشعور بالخوف والرغبة في التغلب على الإحساس النفسي باللاحماية من المستقبل.
تتكون بنية العقل الديني من ثنائيتين هما المقدس والمدنس من جهة والمقدس والدنيوي من جهة أخرى وتنقسم الى بعدين:
- بعد نظري وهي مجموعة التصورات والاعتقادات والرؤى والمعاني التي يفترضها هذا الدين عن العالم وتجعله يعطي تفسيرا متجانسا عن قصة الخلق والمصير والهدف السامي للحياة.
- بعد عملي وهي مجموعة الأحكام والتشريعات والطقوس والشعائر التي على المؤمن أن يؤديها من أجل أن يكون إيمانه خالصا.
إن التعددية الدينية وتوزع الأديان الى إلهية وطبيعية ووضعية تعبر عن مدى الاختلاف التي تظهر عليه المجتمعات البشرية وتعكس تنوع رؤى العالم وثراء الخصوصيات وتشعبها وهي كلها تعبر عن عظمة الكائن البشري وقدرته على الخلق والابتكار وإضافة الجديد دائما وعدم اكتفائه بالقديم.
زد على ذلك يوجد تناص Intertextualiteacute; بين الأديان وتفاعل واستيعاب وتجاوز وقد عبر القرآن عن هذه الظاهرة بالنسخ والمنسوخ وعبر عنها الرسول محمد عليه السلام بالإتمام والإكمال وكأن الإسلام جاء ليتوج رحلة البشرية نحو تعرفها على ذاتها وليس ليقدم لها شيئا جديدا لم يخطر بقلب بشر من قبل، ألم يكن الإسلام إصلاحا للمسيحية التي هي نفسها جاءت لتصلح اليهودية؟
اللافت للنظر أن التعددية داخل الدين نفسه ليست ظاهرة مرضية ولا يمكن اعتبارها علامة ضعف ومصدر فرقة وانحراف عن الصراط المستقيم بل هي ظاهرة صحية وعلامة قوة ومصدر تجدد وتطوير لنفس العقيدة من الداخل لأن الأديان جعلت لتصلح أحوال الناس وتطلعهم على واجباتهم العملية وتدفعهم نحو التحرر والسعادة.
إذ ينظر غالبا الى النص المؤسس على أنه حمال أوجه وزاخر بالمعاني ويتطلب المزيد من التأويل والتفسير والفهم المتعمق والشامل وكل الفرق السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة والتي نشأت في حضارة اقرأ هي مجرد زوايا نظر عن الهيكلية العامة التي يتركب منها الإسلام ولا توجد فرقة واحدة ليس لها موضع قدم في النص القرآني وليس لها ما يبرر وجودها في السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه بما في ذلك الفرق المغالية.
بل وصل الحد بالبعض من علماء الأديان المقارن الى القول بأن الأديان لا تتطور وتنمو الا بفعل ظهور نزعات الهرطقة والإلحاد في داخلها وهي في الغالب تنشأ عندما تندلع أزمة إيمان وتتمثل في استحالة تحقيق المؤمنين التعايش بين الإخلاص للمقدس والانتماء الى الواقع فيبدأ البعض رحلة البحث عن مقدس جديد يحقق هذه المصالحة أو فهم جديد للمقدس،ألم يقل فرويد:" لقد استمدت اللاأخلاق من الدين نفس الدعامة التي استمدتها منه الأخلاق"؟
صحيح أن الأديان تتضمن عناصر خرافية وميتافيزيقية وينبغي نزع الأسطرة عنها وصحيح أيضا أن الناس يتصارعون على المقدس ويتعادون ويسقطون في الايدولوجيا بماهي مجموعة من الأوهام لأن الدين كما يقول ماركس "هو صرخة كائن أضناه البؤس" ولكنه أيضا يلتقي مع الفن والفلسفة والأخلاق في الارتقاء بالإنسانية الى درجة الوعي ويعطي الحياة الانسانية فلسفة الوجد التي تفتقدها.
في نهاية المطاف ينبغي أن نميز بين فهم مظلم للدين يؤدي الى تغذية روح الكراهية والتسلط والعنف ويسبب الاغتراب والضياع ويساهم في اندلاع النزاعات والخلافات بين الأفراد ويشل كل أشكال التواصل والاندماج وفهم مستنير له يؤدي الى تغذية روح المحبة والتعاون والإيثار وتنمية القدرات العقلية والروحية لدى الناس والذي يحقق المشاركة والالتحام والتواصل بين الشرائح الاجتماعية ويتعالى على اللغة والعرق والثقافة.
غاية المراد أن التعددية الدينية لا تكون خروجا عن الحق الا إذا أقامت علاقة عامودية بين المقدس والإنسان وأوجدت تناقضا بين الانية والغيرية وانتصرت الى منطق الفرقة الناجية وإنها يمكن أن تمثل سبيلا لتحقيق فهما أكثر عقلانية وتقدم بالظاهرة الروحية إذا ما أقامت علاقة أفقية بين المقدس والإنسان وجعلت الحب المتبادل مع المقدس والانفتاح على الغيرية شرطان أساسيان لإثبات الانية،فمتى نرى الإسلام يتحول من لاهوت عامودي مظلم الى لاهوت أفقي مستنير؟
* كاتب فلسفي
[1] الشهرستاني الملل والنحل تعديل صدقي جميل العطار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية بيروت 2002 ص9
[2] البغدادي الفرق بين الفرق تعليق إبراهيم رمضان دار المعرفة الطبعة الثالثة 2001 بيروت لبنان ص11
[3] أبو حامد الغزالي مجموعة رسائل دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 2000 ص253
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات
اللاهوت العمودي نص
كركوك أوغلوا -مقدس بين العبد والمعبود !!00وخلقنا الأنس والجن ليعبدوا 0000وهل اللاهوت الأفقي يشمل الجن أيضا ؟؟!!00بين الأنس والجن , وهم عباد الله أيضا , فربما من طريقة لأيجاد ذلك التواصل ؟؟!!00وليس فقط في دورات المياه 000
كاتب فلسفي؟
جمشيد -الكاتب الفلسفي يجب أن يعرف قواعد اللغة التي يكتب بها....الأخطاء اللغوية تشهد على عدم معرفة بقواعد اللغة. الفلسفة بحاجة الى قواعد وإلا لا يفهم منه شيء.
بأي نمط؟
خوليو -بأي نمط نصنف ما وصلنا من التاريخ المكتوب على لوائح الطين؟ الإله السماوي كان اسمه مردوخ ويساعده في إدارة شؤون الكون المخلوق من قبله، مجموعة آلهة أصغر منه، ومتخصصة بالمطر والحب والخصب والشر والمرض... ومنهم أناثاً كعشتار وذكوراً كبعل، الذي لانزال نقول أرض بعل أي غير مروية، مقرهم المركزي السماء ولم يرسلوا وحياً ولا كتاباً لأحد، تعرفنا على وجودهم النظري من كتابات بشر مروا على أرض بلاد الرافدين . هل نأخذ عبرة من التاريخ لنفهم تاريخ وتطور الأديان مثل ما فعلت باقي الأمم، أم سنظل نرض في ثفاقنا لأننا نستفيد من نظام الإله الواحد؟
تصحيح
محمد المشاكس -ياأخ جمشيد يقال: الفلسفة بحاجة إلى قواعد وإلا لا يفهم منها شيء، الفلسفة مؤنث ولهذا يجب إستخذام "منها" وإذا كنت تقصد "لايفهم منه، أي الكاتب" فعليك بالدلالة الدقيقة أو توضيح ذلك. مع أن فكرتك صحيحة حول الدقة في الكتابة لكن عليك أن لا تلوم الكاتب لأنه من الواضح التعجل في الكتابة والنشر قبل التدقيق والتصحيح. أيضاً مقال آخر يبتدأ بمقولة أحدهم وبالطبع لم يناقشها الكاتب في المقال. شوهالحكي رجاءً إطال هذه الموضة العقيمة دلالياً كما يبدو والموضوعة للزينة فقط.
أتفق كالعادة /خوليو
كركوك أوغلوا -قبل سبعة ألاف سنة كان أسمه (مردوخ)و في التراث السومري/البابلي , وكان أسمه (يهوا), في تراث موسى اليهودي وكان أسمه (الله) في التراث العربي/الأسلامي 000وأن النبي أبراهيم (بديانته التوحيدية من بلاد (أور), في وادي الرافدين , جاء بذلك أيضا , وكما جاء في نص الآية الكريمة :- لا إله ألا الذي آمنت به بنو أسرائيل (10/90)000فما هي حلقة الوصل غير أبراهيم الخليل ؟؟!!00
شكرًا للمشاكس
جمشيد -معك حق. ها أنا أسرعت أيضا بالتعليق دون أن أدقق بالكلام. سامحونا!
الاختلاف ظاهرة صحية
رمضان عيسى -حقا ان الاٍختلاف ظاهرة صحية فى المجتمع وفي المعتقدات لأنها هي الطريقة الوحيدة لكشف نواقص الرأي الآخر ولكن المتعصبين الدينيين لعقيدةما هم اللذين يرفضون فكرة الاٍختلاف بل يقاومون الرأى الآخر بالعنف وليس بالحجة فكثيرا ما تنشأ صراعات دموية على تفسير حديث أو آية ، لهذا أرى أن الصراعات الدينية هي الأكثر تدميرا في حياة الشعوب لمقدراتها المادية والمعنوية
نعم ما علاقته ؟
د. سمير رحباني -نعم قرأت المقال والتعليقات عليه واضيف متسائلا : ما علاقة نص برغسون بالموضوع ؟ بخاف اتكلم واعلق يزعل مني الاخ الكاتب مثل ما زعلت مني الست مروة كريدية يوم امس تحياتي الى ايلاف
نعم يا د0سمير رحباني
كركوك أوغلوا -هؤلاء هم المتأسلمون الجدد !!00 لايبدأون مقالاتهم بنصوص دينية , وأنما بنصوص من فلاسفة كفار , فقط لأظهار بأنهم يملكون الرأي وارأي الآخر . ولكن لاصلة بين الأثنين , أو بلأحرى اللعب على حبلين ؟؟!!00فتصور أن محجبات يعتبرن أنفسهن ناشطات في حقوق المرأة في التحرر من العبودية (الحجاب) ؟؟!!00مروة كريدية ونادية سلطان كتاب أيلاف الغراء 000
ما الذي اصلحه
ياقو بلو -يقول الكاتب المسيحية اصلحت اليهودية والاسلام اصلح المسيحية،وسؤالنا الساذج:ما الذي اصلحه الاسلام في المسيحية؟الاسلام اعاد كل المفاهيم الاخلاقية التي اقرتها اليهودية ورفضتها المسيحية الى حيز الوجود،كتعدد الزوجات وشريعة الانتقام بالمثل وغيره