العولمة وصدمة الحداثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن صدمة الحداثة التي واجهها إنسان منطقة الشرق الكبير وظروفها، ونتابع في السطور التالية ما بعد الصدمة.
كان يمكن أن تظل المنطقة تتمرغ في تخلفها بتأثير عواملها الذاتية، لتشب فيها صراعات محدودة لا تلبث أن تخمد، في حالة يمكن وصفها بالاستقرار، حتى وإن كان استقراراً هابطاً نحو القاع، بمعنى تفاقم الأزمة الحضارية، ولكن في حدود داخلية، لا تتعدى تدهور أحوال المعيشة، والزيادة الانفجارية في النسل، وما شابه من معالم ومآسي داخلية، ولا يمتد من تأثيراتها إلى العالم الخارجي إلا القليل، الذي يستطيع العالم أن يتجاهله أو يتحمله، بعد فشل مشروعات الإنقاذ العالمية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مشروع حلف بغداد، الذي أسقطناه مع سبق الإصرار والترصد، لولا أن أخذ التدهور الداخلي المنحى الذي أدى بنا إلى إنتاج ما يمكن تسميته بفكر تنظيم القاعدة ورجاله، وهو الإنتاج الذي ساهمت فيه، أو أنتجته متزامنة العديد من شعوب المنطقة، ويصح هنا التنويه بجهود جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر في ثلاثينات القرن الماضي، في خلق قاعدة ممتدة باتساع المنطقة، ساهمت فيما يعتبره البعض صحوة إسلامية، ليتطور فكر تلك الجماعة لنجد طالبان في أفغانستان، وجماعات الجهاد المختلفة في فلسطين ومصر ولبنان والسعودية والسودان والجزائر حتى وصل أخيراً إلى الصومال، المهم أن هذا الإنتاج الجهادي المتأسلم استشعر القدرة على تجاوز الحدود الإقليمية لدائرة إنتاجه، مستعيناً بذات الإمكانيات التي أتاحتها العولمة، فكان أن امتد إلى العالم الخارجي، ليحقق ذروة انتصاراته فيما أطلقوا عليه غزوة 11 سبتمبر 2001، ليبدأ العالم بعدها ضغوطه الهائلة الساخنة، لاستئصال الإرهاب، ولتحديث منطقة غير قابلة أصلاً للتحديث، لسبب نراه بسيطاً وهو عدم اكتمال مقوماته!!
رغم أن تحديث الكيانات السياسية لتلك الشعوب يبدو مقاربة مثلى، وبوابة يدخل منها التقدم إلى سائر مجالات الحياة، إلا أن قلب عملية التحديث هو تكوين دول ديموقراطية تقوم على أساس المواطنة واحترام حقوق الفرد والأقليات، والمعضلة هي أن المنطقة لم تصل إلى المستوى الحضاري الذي يجعلها مؤهلة لنظام سياسي حديث، فلابد بداية وقبل الحديث عن تحديث الدول، أن نحول تلك الشعوب من مرحلة قبائل وطوائف وعائلات، فرض عليها شكل الدولة فرضاً تعسفياً، إلى مجتمعات حديثة مرتبطة ببعضها البعض، فالدولة الحديثة كما نعرف جميعاً هي وليدة الثورة الصناعية والطبقة البرجوازية، الممثلة لأمة قد انصهرت في واحد، سواء من حيث نمط الحياة والأفكار، أو من حيث المصالح المادية، فكانت الدولة الواحدة والديموقراطية والحرية وصناديق الانتخاب، فنحن نعرِّف المواطنة بأنها 'انتماء متخيل'، حيث يشعر الفرد بانتمائه إلى كل أكبر هو الوطن الواحد، وبأن مصالحه ممتدة إلى جميع تخوم هذا الوطن، ومتماثلة مع جميع المشتركين معه في ملكيته، فعند هذه المرحلة فقط تتكون الدولة الوطنية الحديثة، وعندها فقط يكون الشكل متطابقاً مع المضمون.
نزعم أن وجود المنطقة في مهب رياح التأثيرات العالمية، قد أضر بها ربما أكثر مما نفع، إذ عجل بظهور الدولة الوطنية دون توافر مقوماتها على أرض الواقع، فكان التناقض الحاد بين الشكل والمحتوى، بين المظهر الوطني والباطن القبائلي الطائفي، وكان أن حُكمت الدولة بمنطق القبيلة، وكان أن عجز الفرد عن تصور نفسه كمواطن متساو مع باقي المواطنين في الحقوق الواجبات، وبقي أسير تصور نفسه ضمن الانتماء العشائري أو الديني.
هكذا حكم صدام حسين الزعيم القومي العلماني العراق بمنطق طائفة السنة، فكان تهميش الأكراد والشيعة، إلى حد الاضطهاد والتنكيل، بل وحكم السنة بمنطق العائلة التكريتية، التي احتل أفرادها جميع المناصب الحساسة والمؤثرة؟!
حزب البعث الأسدي في سوريا أيضاً ليس أكثر من عائلة علوية، تملأ أفواهها بشعارات القومية العربية، في حين أنها لم تؤسس دولة وطنية بحق على مستوى الوطن السوري محدود المساحة، على الأقل لتمتلك بعدها الحجة لأن تنادي بدولة أو إمبراطورية عربية واحدة، لكن أقصى ما أنجزته هو أن تقود مجموعة طوائف في ثياب دولة وطنية.
ما يفعله البشير الآن في السودان مع جنوبه وغربه وشرقه، وأوصله الآن إلى أن يكون أول رئيس دولة بعد الرئيس الصربي يعد مطلوباً للعدالة الدولية، لا يمت بصلة لتصرفات وتوجهات حاكم دولة، لكنه بالأقصى زعيم قبيلة بدائية تسعى للهيمنة، ولنهب وسلب القبائل المجاورة، كما كان حال القبائل البدوية في العصور التي غربت من كل العالم، ومازلنا نحن نرزح في رحابها.
نرى نفس الشيء في لبنان، واحة الديموقراطية في صحراواتنا القاحلة، هل هي بالفعل دولة وطنية، يستشعر كل فرد فيها انتماءه إلى وطنه ومواطنيه، أم ظل الفرد أسير انتمائه الطائفي والعائلي، عائلات سنية، وعائلات شيعية، والموارنة والدروز والأرمن وخلافه جميعهم عبارة عن عائلات منقسمة أو متحدة إلى حين، بهذا تصبح الديموقراطية وصناديق الانتخاب مهزلة، وتكون الدولة مسخاً لا ينسجم مع حقائق الواقع على الأرض، وكان أن حدث ومازال يحدث ما لابد أن نتوقعه في حالة كهذه، تسقط لبنان في دورات من التمزق والفرقة، كما حدث في النصف الثاني من الخمسينات، ثم في السبعينات، لتسقط بعدها في براثن البعثية العلوية، وما أن أقلها العالم المتحضر من عثرتها هذه، حتى سقطت بين مخالب قبيلة أو حزب الله، يتلاعب بها ما شاء له الهوى.
كان أيضاً أن امتدت موجة القبائلية إلى مصر، أقدم دولة وطنية في العالم، وقد أصابتها عدوى الطائفية الدينية، كأنما لتحجز لها مكاناً في مقدمة قطار التخلف، فوجدنا السادات رئيسها الراحل ينسف الكرسي الذي يتربع عليه، وهو كرسي الرئيس المصري لدولة مصرية، حين أعلن في مكابرة ونفاق مبتذلين، أنه يحكم مصر كرئيس مسلم لدولة إسلامية، ليخلع ببساطة وغباء تاجه الوطني، ليقفز في بركة الطائفية.
يكاد هذا التوصيف ينطبق على أغلب دول وشعوب منطقة الشرق الكبير، فصدمة الحداثة بالنسبة لها تأتي شديدة العنف، لأن أحوالها وتركيبتها أبعد ما تكون عن أن تيسر لها قبول تلك الحداثة، التي صارت في عصر العولمة قدراً لا مهرب منه، ولم يعد بمقدور شعب من الشعوب أن ينتحي بنفسه جانباً، ويدبر أموره بمعزل عما يجري في العالم من حوله، فمشكلة النظم الحاكمة ليس في النظم ذاتها، بقدر ما ترجع إلى عدم مناسبة النظام الوطني لمجتمعات تعيش بعقلية وظروف القبيلة والعائلة والطائفة، ومحاولة حرق المراحل هنا، وربما في حالة هذه المنطقة بالذات، ضرب من خداع الذات أو مناطحة الصخر، وهذا بالضبط ما تحاوله الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها.
kghobrial@yahoo.com
التعليقات
جربوهم أولا
واغد محمد -انكب دعاة العلمانية على تشَخيص أسباب تأخر الدول العربية إلى أن توصلوا حسب اعتقادهم بأنهم استطاعوا حصر أساس داء تخلف دولنا العربية في تأخرنا عن مسايرة الركب الفكري الحضاري المؤسس للنموذج الغربي الناجح، حيث عجزت على حد زعمهم اغلب النظم العربية الحاكمة المختلفة في طرق حكمها وفشلت من التخلص من الاعتبارات الدينية والطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية، محملين هذا التعثر والفشل لا للأنظمة وحكامها وإنما معظمه إلى الحركات الإسلامية المحدودة والممتدة الانتشار من المحيط إلى الخليج.هنا تَمكن وبحق خطورة هاته الأفكار التي تدعوا إلى عدم السماح لهذه الحركات في الانخراط في الحياة السياسية، بل الإيحاء أو الدعوة العلنية إلى وئد وإفشال مشاريعها الخيرية والتطوعية ضانين بأنها طعم تستعمل هاته الحركات لتجمع الناس من حولها وتصرفهم عن قائدهم الملهم لتخطف الأنظار والأذهان من حوله هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى يسعى هؤلاء المنظرين للعلمانية في محاولة دائمة ومستميتة إلى تكريس وتثبيت فكرة رجعية الدين الإسلامي، التي يزعمون أنها ستقضي على الحضارة والعلم بمجرد توليهم السلطة، دليلهم في ذلك بعض النماذج الفاشلة التي يغنون بعضها مطولا ومن بينها ما بدا عند تمكن طالبان من الحكم في أفغانستان من تحريم التلفاز إلى الاجهار بالمحاكمات والإعدامات العلنية وصولا إلى تهديم التماثيل الأثرية.في الحقيقة لا يمكن أن ننكر كل الإنكار فشل بعضا من تلك الحركات التي أخطت فكرا وتوجها وتكتيكا عند توليها أو الاقتراب من الحكم وهذا شيء وارد، وإنما ليس مبررا أو عذرا أو فزاعة تعطي لأنظمة الاستبداد الحق في إقصاء هؤلاء أو الحكم عليهم مسبقا بسوء نواياهم أو وضع عصي الحقد والكره في دواليب تجاربهم التي أنبئت بثمار طيبة، وما حصل في فلسطين خير شاهد على التربص الدائم بالحركات الإسلامية أين حاصر العالم العربي قبل الغربي حكومة حركة حماس الإسلامية التي اثبت للوهلة الأولى على تعايش الفكر الإسلامي مع متطلبات هذا العصر لتنصب وزيرة متبرجة في وزارة السياحة، أليست هذه بادرة على صدق الاعتقاد وحسن النية.ومهما كانت الأخطاء التي أُوقعت فيها حماس لإفشالها كنموذج ناجح، لا يعطي لهؤلاء المتحاملين ومن خلفهم أنظمة الاستبداد على نصب محاكم التفتيش في النوايا والأقوال، وإنما على الجميع الالتزام بلعبة الديمقراطية وما افرزه الصندوق فهو اختيار وتفويض شعبي ل