كتَّاب إيلاف

مقالة في مديح الصّمت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لعلّ أكثر ما يثير
الاستغراب هو كلّ هذا الهرج والمرج اللّذين يملآن الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء. لا أرغب في إثارة الشّعور بالحنين إلى الماضي المتخيّل، لأنّ هذا الحنين إلى "أيّام زمان" كما شاع القول على لساننا العامّيّ هو أكبر تعبير عن حالة الاكتئاب الّتي تسم الرّاهن الّذي وجدنا أنفسنا فيه. وفوق كلّ ذلك، فإنّ ذلك الماضي الّذي نحنّ إليه في هذا الأوان لم يكن أيضًا مثلما نصوّره في أذهاننا الحاضرة، بل هو شيء أبدعناه من بنات خيالنا المراهقات في محاولة منّا للفرار من هذا الحاضر وانتظار ما هو آت. ورغم كلّ ذلك،
ففي الماضي غير البعيد، عندما لم تكن الفضائيّات ووسائل الاتّصال العصريّة قد ملأت هذا الفضاء العربي قرقعة صوتيّة جوفاء، فقد كان في الماضي شيء من الصّمت الّذي نفتقده الآن. لا أدري لماذا يخشى العرب على العموم من الصّمت. وها هي الذّاكرة تعود بي الآن إلى تلك الجلسات القرويّة الّتي كانت تلتئم في مناسبة كهذه أو تلك. كان الهرج والمرج يملآن المنتدى وأطراف الحديث تمتدّ لتطال كلّ ما هبّ ودبّ من شؤون العالم في الاجتماع والسياسة والحال الّتي آلت إليها أمور البشر في هذا العصر الّذي يغذ الخطى متسارعًا لا يلوي على شيء ممّا يتأبّطون. كلّ يدلي بدلوه ويقيم والعالم ويقعده على هواه. وكما درج القول في لساننا الشّعبي "على الحكي ما فيه جمرك"، ولذلك يُصبح الكلام لمجرّد الكلام نوعًا من التّسلية لتمضية الوقت. ولكن، حتّى الكلام
ينتهي أحيانًا، أو يبلغ مبلغًا من التّكرار والاجترار في نفوس هؤلاء حتّى يصمتون صمتًا رهيبًا وكأنّ على رؤوسهم الطّير. ينظرون في السّقف أو يداعبون خرزات مسابحهم، يتململون شمالاً أو يمينًا لا يدرون ما هم فاعلون في هذه اللّحظات العصيبة من الصّمت. لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الضّيف الجديد. هذا الضّيف الّذي يُدعى الصّمت والّذي حلّ عليهم فجأة غريب بينهم. وهم، بخلاف ما يُشيعون زورًا وبهتانًا، لا يحبّون الغرباء ولا يحبّون الأنبياء. والصّمت ليس نبيًّا فحسب، بل هو ملك الأنبياء. وبينا هم على هذه الحال من الحلّ في مراتع الصّمت يهبّ أحد المنتدين مستلاًّ من جعبة جعجعته سهمًا، ثمّ سرعان ما يصوّب نشّابه ويطلق سهمه، جملته الشّعبيّة، "مسّاكم اللّه بالخير"، تجاه الصّمت المخيّم في الفضاء، وسرعان ما يلوذ هذا الصّمت بالفرار من المنتدى. وهكذا، يعود الهرج والمرج وأتباعهما إلى سابق العهد من الكلام الّذي "لا جمرك عليه". ولماذا أتذكّر كلّ هذا الكلام
الآن؟ أتذكّر هذا لأنّ الفضاء العربي أضحى في هذا العصر أكثر شبهًا بتلك المنتديات والمجالس القروية الّتي امتلأت جعجعة وقرقعة دون أن نرى طحينًا. لقد تحوّل الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء إلى ساحة لتمضية الوقت، أي لقتل الوقت في التّسالي والجعجعة عن كلّ شيء، ولكن بشرط أن يكون الكلام موجّهًا إلى خارج الموقع الّذي يجعجع فيه. فإذا نظرنا من حولنا، نرى أنّ السّوري في سوريا يجعجع عن كلّ شيء سوى سوريا ونظامها المستبدّ. كذا هي الحال في ممالك وإمارات العربان في مشرق الأرض ومغربها والّتي تعيث في الفضاء فسادًا وجهلاً عربيًّا أضحيا ماركة عربيّة مسجّلة. والحال كذلك في مصر المحروسة، أمّ الدّنيا، على لسان أهلها الأغبياء، وكأنّهم سألوا الدّنيا إن كانت ترغب أصلاً في هذه الأمومة. أمّا عن بني فلسطين وفساد زعمائهم كابرًا عن كابر فحدّثوا ولا حرج، فقد كنّا بفلسطٍ واحدة فصرنا بفلسطَيْن. والأنكى من كلّ ذلك،
أنّ الكتّاب العرب لم يتعلّموا بعد ما يمكن أن يغدقه عليهم الصّمت من نعمة. تراهم في كلّ وادٍ يهيمون، ينظّرون ويشرحون ويطرحون كلامًا كبيرًا، بشرط أن يكون موجّهًا إلى غيرهم في مكان بعيد. إنّهم لا يعرفون الصّمت، ولذلك فإنّ الصّمت لن يعرفهم. إنّ من لا يعرف طريقه إلى الصّمت، لن يعرف طريقه إلى الكلام الهادئ المتّزن.
وأخيرًا، فليعش ميكي ماوس، وليعش توم وجيري وصحابتهما الميامين!
أما آن لنا، نحن العرب، أن نصمت قليلاً.
والعقل ولي التّوفيق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رجل صامت جدا
رمضان عيسى -

كتبت قبل أكثر من عام قصة قصيرة بعنوان رجل صامت جدا فقال أحدهم ناقدا تعبير صامت جدا فقلت فى سياق ردى أن هناك أناسا لا يعرفون قيمة الصمت وما يدره علينا من صفاء في التفكير وهدوء وخروج من عالم المادة الى عالم العقل الذي هو أساس كل ابداع ، وقد قال الشاعر باسم النبربص في أحد قصائده : الصمت موسيقاي , وحينما قرأت المقال في مديح الصمت أننا أصبحنا جمعية تدعو العرب الى لحظة صمت فردية وجماعية فربما وصلنا الى حلول عقلانية لبعض مشاكل العرب ذات الطبقات الجيولوجية .

إلى مصالحة
ناطق فرج -

الاستاذ مصالحة.. مودتي، حزنت كثيراً لانك وصفت أهل مصر بـ الأغبياء. ما كان ينبغي لهذا الوصف أن يصدر منك. ولا أهل مصر يستحقونه. ربما هم بسطاء أو غلابه ولكن ليسوا بـ أغبياء؟! قيل.. أن العبارة التالية كانت مكتوبة على أحد الجدران في مصر: يا داخل مصر في زيّك الوف! وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلُّ على عراقة البلد وأصالة ناسه وإن فيه ما في الدنيا بأسرها.