كتَّاب إيلاف

تأملات قرصنية..

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"لسنا قطاعا للطرق.. قطاع الطرق هم من يصيدون بصورة غير شرعية في مياهنا الإقليمية، ويدفنون فيها النفايات، ويستخدمونها لنقل الأسلحة.. نحن خفر للسواحل في مياهنا"! (سوجوليه علي، قرصان صومالي)
في دورة مثيرة للتأريخ، يعود القراصنة ليقلقوا راحة الدول كبيرها وصغيرها، في مكان ليس ببعيد عن "ساحل القراصنة" المعروف الآن بساحل الخليج العربي الذي شن البريطانيون فيه حملاتهم المشهودة في القرن السابع عشر ليرغموا قراصنة ذلك الزمان على الانكفاء إلى الشاطئ وتأسيس دويلات باتت الآن من ضمن الأغنى في العالم. عاد القراصنة اليوم من سواحل الصومال المنكوبة بالجوع والحرب والدمار والأوبئة ليجمعوا أساطيل العالم أمام مياههم التي يبدو أن لا حدود لها.
قراصنة اليوم غير قراصنة الأمس، وهم غير قراصنة الروايات التي كنا نقرأها صغارا أمثال هنري مورجان وذي اللحية السوداء وكابتن كيد وخير الدين بارباروسا، وبالتأكيد ليسوا كجوني ديب في "قراصنة الكاريبي". قراصنة اليوم يستخدمون هواتف الثريا والأقمار الصناعية والرشاشات الثقيلة وصواريخ دفاع جوي محمولة، وينقلون الرسائل الصوتية عبر فضائية الجزيرة ويتحدثون إلى النيويورك تايمز، يستمعون على قواربهم إلى الموسيقى ويغنون ويتناولون طعامهم و يمضغون القات عليها. هم مقاتلون أشداء ومفاوضون محترفون، ينتزعون الملايين كفدية بشروطهم، يقبضون نقدا و يتعهدون حماية السفن التي تنقل مبالغ الفدى.
"لسنا خائفين.. الإنسان يعيش مرة واحدة"، قال سوجوليه علي، "الناطق المخول" بالحديث في اتصال مع النيويورك تايمز من على متن الناقلة الأوكرانية "فينا" الني تحمل دبابات إلى دولة إفريقية ما، كما أرسلوا إلى العالم رسالة صوتية عبر الجزيرة مصرحين بأن المفاوضات من أجل الفدية جارية على متن الناقلة السعودية العملاقة التي اقتنصوها بعيدا جدا عن مياههم الإقليمية. لم يترك قراصنة الصومال ما لم يقرصنوه، سفن من جميع الأنواع والجنسيات ومختلف الحمولات، تتراوح بين المعونات الغذائية لشعبهم ذاته وليس انتهاء بالأسلحة والكيماويات، حتى باتت ضحاياهم تتجاوز الثمانين من السفن يتم الإفراج عنها بفدية تتحدد بنوع الحمولة ومالكها ومصدرها ووجهتها.
"نرى سفينة فنعترضها.. إنه مجرد المال"، يقول سيجوليه علي لنيورك تايمز قبل أن يستدرك بإضافة الذريعة "السياسية " حول حماية المياه والصيد غير الشرعي.. الخ. ولعل القصص التي حامت حول السفينة الإيرانية "ديانات" وما روي عن حمولتها المميتة والإفراج عنها في ظروف غامضة يؤيد كلام القرصان المذكور بأنهم يقتنصون أي جسم عائم يرونه، وإلا لما تجرءوا على هذه المخاطرة التي أودت بحياة بعضهم إشعاعا أو تسمما كما يقال.
قد تكون القرصنة في خليج عدن والبحرين الأحمر والعربي قد بدأت فعلا قبل ما يربو على العشرة أو الخمسة عشر عاما حماية ضد الصيد غير الشرعي، إلا أن الطابع الرومانسي البطولي الذي يحاول القراصنة إضفاءه الآن على عملياتهم لم يعد مقنعا بعد أن بدأ الأبرياء يسقطون صرعى وبعد أن أتضح الطابع "التجاري" للعمليات وحجم الملايين التي باتت تدرها هذه التجارة. أهو الخيط الرفيع ما بين القرصنة والتجارة وفق تعبير فيلسوف ألمانيا العظيم فريدريك نيتشه حينما قال بأن القرصان والتاجر كانا في يوم ما شخصا واحدا، وبأن "أخلاقيات التجارة ما هي نسخة معّدلة من أخلاقيات القرصنة"؟ أم هي تنفيذ لسياسات معينة كما يصفها بعض العرب بمؤامرة صهيونية لجذب الأساطيل الغربية إلى البحار العربية بغرض تدويلها، أو كما يرى بعض الغربيين بأن كل هذا من تدبير تنظيم القاعدة لتوفير التمويل ضمن الحرب القائمة حاليا، بينما يرى بعض الساسة الصوماليين بأنها مجرد قرصنة وبأن على الأساطيل المجتمعة في بحر العرب أن تقضي عليهم، ويبقى هذا السؤال بين عشرات الأسئلة الأخرى التي يتعذر إجابتها في عصر نظن فيه بأننا نعلم كل شيْ ولكننا في الواقع لا نعلم شيئا، هل القرصنة سياسة أم العكس هو الصحيح؟ يقال بأن تنظيم الشباب الصومالي المتطرف قد طلب من القراصنة تسليمهم بعض الدبابات من على متن الناقلة الأوكرانية، إلا أن القراصنة رفضوا لأن "بزنس إز بزنس".
يتحدث البعض عن عملية عسكرية مرتقبة ضد القراصنة بعد اجتمع "الشامي والمغربي " أمام السواحل الصومالية، فمن حاملة طائرات أميركية إلى فرقاطة صواريخ روسية، ومن البوارج التركية والهندية والفرنسية والهولندية، إلى القطع البحرية الألمانية والكورية والماليزية، ومن قوارب خفر السواحل اليمنية، إلى دوريات متعددة الجنسية تجوب البحار، وكلما زادوا زاد القراصنة من نشاطهم ونقلوا عملياتهم إلى أبعاد أكثر تعقيدا و جرأة، ملايين الدولارات تجمعت في اشهر عدة بين أيدي هؤلاء الذين يتذرعون بالجوع بلغت حوالي الثلاثين مليون دولار على شكل فدى لم ير منها الشعب الصومالي المنكوب قرشا واحدا ولن يرى، إذ تتلاشى الرومانسية عندما يبدأ عدّ الغنائم كما يقال. لقد ضرب الفرنسيون مرتين هذا العام عندما تعلق الأمر بالرهائن من مواطنيهم، بل وتوغلوا في عمق الأراضي الصومالية واعتقلوا بعضا من القراصنة، إلا أن هذا غير متاح دائما، كما أن الضربة العسكرية أسيرة لقرار سياسي معقد، فمناطق القراصنة مزدحمة بأكواخ الفقراء، وهنالك العديد من الرهائن من البحارة من مختلف الجنسيات، وقد يصبح الأبرياء من السكان جميعا دروعا بشرية. يعلم القراصنة ذلك جيدا، ويعلموا بأن لا مجال لتحويل خطوط الملاحة بعيدا عن خليج عدن والبحر الأحمر الذي تستخدمه أكثر من عشرين ألف سفينة شحن سنويا، الذي قد يعني بالإضافة إلى التكلفة العالية التي تمثلت أولا بارتفاع رسوم التأمين بنسب مخيفة، موت عدد من الموانئ الهامة كعدن وصلالة وجيبوتي و بالتالي جدة والعقبة وغيرها وشلل المضائق الإستراتيجية كباب المندب وقناة السويس إذا قرر الشاحنون في العالم استخدام رأس الرجاء الصالح، كما يدركون بأن العالم لا يستطيع وضع سفينة حراسة لكل ناقلة أو سفينة تجارية. يعلم القراصنة كما يعلم العالم بأن حل مشكلة القرصنة لن يتحقق ما لم يتم حل مشكلة الصومال ككل التي تبدو أبدية، وحتى ذلك الحين البعيد جدا، ستبقى الملايين تتدفق إلى أيدي هؤلاء، الذين حتى وإن تعرضوا للضرب، فإن ملايينهم تفتح لقادتهم مئات الأبواب الموصدة. تشير اساطيل الكون التي تتجمع في بحر العرب بان الحرب في السواحل الصومالية التي تمتد لأكثر من 3300 كلم تبدو احتمالا واردا، لتضيف إلى الحرب في البر الصومالي أرقاما جديدة من الضحايا والجياع واللاجئين.
لقد انحسرت القرصنة إلى حد كبير عندما سيطرت المحاكم الإسلامية على الصومال قبل عام ونصف أو عامين بالنار والحديد، وعادت بعد انحسار المحاكم بدخول جيوش أثيوبيا إلى الصومال، في إشارة إلى أن السلطة القوية في الظرف الصومالي عامل أساسي وأن بناء الدولة الصومالية ربما يكون أهم من توجيه بضعة صواريخ إلى قوارب القراصنة. إن القرصنة مشكلة أخرى تضاف إلى مشاكل الصومال والمنطقة والتجارة الدولية والملاحة والاستقرار وسمّي ما شئت، ودرس للمجتمع الدولي الذي يهمل مشاكل تبدو صغيرة لكنها تنمو ككرة الثلج حتى تبدو عصية على الحل. ولعل أكثر الجوانب الايجابية في ظاهرة القرصنة، هي أنها أعادت لفت أنظار العالم إلى هذا الجزء من العالم.
كتب قراصنة الصومال عهدا جديدا من تأريخ القرصنة في العالم، سيبقى شاهدا على معاناة شعب أهمله العالم وعلى قرصنة الساسة الذين قتلوا هذا البلد الجميل والشعب العزيز النفس، وما دام هنالك بحر، فإن هنالك قرصنة، كما يقول المثل الشعبي القادم من مالي الأفريقية، ونقول ما دام هنالك جوع وفقر وظلم معاناة، فهنالك موت وقرصنة وإرهاب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تحركوا مرة
رعد الحافظ -

على العرب الآن علاج هذه المشكلة , ان كان بأطعامهم جياعهم بدل تحولهم الى سراق وقراصنةأو كان بتشكيل قوة عربية اقليمية لمطاردة هؤلاء والمساعدة في بسط الامن في دولة الصومال الفاشلةفليس من الرجولة ان نرمي كل مشاكلنا على الغربثم القول انهم السبب في تخلفنا..فمن يريد النهوض لاينتظر من الاخرين ان يفعلوا ذلك بدله..

تحركوا مرة
رعد الحافظ -

على العرب الآن علاج هذه المشكلة , ان كان بأطعامهم جياعهم بدل تحولهم الى سراق وقراصنةأو كان بتشكيل قوة عربية اقليمية لمطاردة هؤلاء والمساعدة في بسط الامن في دولة الصومال الفاشلةفليس من الرجولة ان نرمي كل مشاكلنا على الغربثم القول انهم السبب في تخلفنا..فمن يريد النهوض لاينتظر من الاخرين ان يفعلوا ذلك بدله..

هل هم مجرد قراصنة
طه محمدصالح البرزنجي -

اخي العزيز سعدخالص تناولت موضوع القرصنة والقراصنةالصوماليون باسلوب سلس و جميل مع شرح كاف ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه وبالحاح هل هم مجردقراصنةلصوص يتحركون بدافع الحصول على المال ام لدوافع اخرى نجهلهااو ربماتدفعهم جهات اخرى لا نعرفهاولاغراض ابشع و اكبر و ما خفي كان اعظم

الارهاب..
د.درويش الخالدي -

احد اهم الاسباب التي شرعت الارهاب في العالم هو الجوع! واقصد بالذات التطرف الديني الحاصل الان. فاليس بالغريب امر القراصنه الصومال وانا شخصيا اعيش في بلد غربي وفي احتكاك مع كثيرون جدا من الصومال(بحكم اللجوء الانساني) اجد فيهم طيبة لا يتصف فيها الاخرون ابدا فأنهم مسالمون وفقراء النفس وليسوا اناس اشرار ابدا. ولكن شعب بلا قائد مثل سفينة بلا ربّان.