حياة أو في التحذير من القراءة والكتابة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قبلها، حين سكن هذا البيت، كان ينزعج في البداية من رنين الجرسيْن المتكرّر. أصدقاء ومعارف يأتون ويذهبون، وأصدقاء ومعارف يتصلون ويتكلمون.
زوجته وأولاده كانوا سعداء بذلك. فهم اجتماعيون بطبعهم، ويحبون الناس. الزوجة تجهز الغداء أو العشاء، والأولاد يحملون الأطباق ويدخلون على الضيوف يسلّمون عليهم. لم يشكُ أحد سواه."دخلت في الخامسة والأربعين" يقول لزوجته"ولا بد من احترام الوقت الباقي". تزوم الزوجة ويقول هو" الأدب أولى بوقتي منهم". هي يئست من كثرة السجال، وتعرف أن لا فائدة. تتنهّد، وتقوم لشئونها."يريد أن يقطعنا عن الناس". وشيئاً فشيئاً خفّ الزوّار، وتباعدت رنّات التلفون. حتى لم يبق لديه من "كل تلك الحياة خارج البيت" إلا المشوار المسائي.
لم يعد شيءٌ يناديه أبعد من عتبة الباب.
كل الحماسات القديمة تبخّرت. الأحلام والصبوات والأشواق. هو الذي يحب الناس كطفل، صار يرى بؤسهم وخرابهم، بأكثر من قدرة معدتهِ على الاحتمال.
أهو تقدم العمر والمرض أم هي مضاعفات القراءة والتأمل؟
لا يعرف. مع أنه لاحظ من زمان تأثير الكتب السوداوي عليه. كلما أغرق فيها، ينسحب إلى الداخل أكثر فأكثر. وما كان يتقبّله من كلام وسلوك الناس بأريحية، يراه الآن بعدسة مكبّرة، فيزهده ويغضب منه.
الكتب تورّث الحساسية، يقول. تُرهف حواسّ الاستقبال لدى المرء، فيشقى، بدل أن يبتهج.
تمنحك البهجة أثناء قراءتها فقط، وبعد ذلك، في بحر الحياة الكبير، تخذلك. تمتدّ يداه إلى دواء المعدة، ويفكّر في المفارقة التي لم ينتبه إليها غير المُبتلين.
كل دواء تشتريه يُذكّرك الصيدلاني بمضاعفاته. وإن نسيَ فستذكّرك الورقة المرافقة للعلبة، إلا القراءة.. إلا أصحاب المكتبات!
يبيعونك الكتاب، ولا يخطر في بالهم مرّة أن يحذروك من المضاعفات الجانبية لما تشتري!
"مضاعفات جانبية"؟... يا ليت! بل قل: مضاعفات رئيسية في بعض الأحيان.
إنه يعرف على الأقلّ ثلاثة ممن دمّرت القراءة حياتهم. ثلاثة في محيط مخيمه الصغير. ومع هذا، ليس من هدف هذا المقال توبيخ القراءة، بل العكس: مديحها وتقريظها والثناء عليها، بما هي علامة ابن آدم الفارقة. فما من كائن حيّ خلا الإنسان يقرأ. إنما، مع ذلك، التنبيه إلى مخاطرها، والتحذير مِن مضاعفاتها الوخيمة في حالة الإغراق فيها. فالمرء قابل للعدوى. وإذا كانت له طبيعة مرهفة، وحسّ استقبال فعّال، فما من شيء يُعديه كالكتب! هو خبرَ هذا بنفسه. وخبره مع الجيل التالي لجيله. يراهم في البداية في شبق للقراءة واستعارة الكتب. حماسة لا تدانيها حماسة. وغالباً ما يرافقها نشاط جسماني متوهج. لكن بعد كم سنة أو حتى عشرة، تعال وقلّ لي ما ترى! يبدؤون يكتئبون. ويصبح الحال غير الحال. وما حدث مع الأجيال السابقة، يحدث هو ذاته معهم: تزوغ نظراتهم، وتشحب بشرة وجوههم، ويأرقون، وأثناء كل هذا: ينسحبون إلى الداخل.
إنها إذاً العزلة أو الوحشة أو السويداء أو التوَهَان أو سمّها ما شئت، فلا تهم التسمية. الأهمّ تشخيص الحالة وتقريرها، وذا يكفي. لذا كان يعطيهم من مكتبته ويشفق في دخيلته عليهم. ومع أنّ الشفقة إحساس غير نبيل بالمرّة، إلا إنه لطالما وجد نفسه متلبّساً به.
فهو في سنّ تخوله بمعرفة ما سيصير على نحو من الإنحاء. إنهم في البداية يقرؤون. ثم بعد فترة، تطول أو تقصر، يشرعون في الكتابة. وحين تتمكّن "الجرثومة" من مكامنهم، لن تحتاج إلى ذكاء رفيع لتعرف التالي. ستراهم وكأنّ هذه الدنيا الكبيرة لم تعد دنياهم هم، بل هي دنيا الآخرين فقط. حتى لو غطّوا حالاتهم البازغة بقناع من المرح والصخب. فهو محض قناع، منذور للخارج: للآخرين. أما هم، مع أنفسهم وفي خلوة الليالي، فمكسورون ومهزومون. لقد هزمتهم الكتابة! وما كان لهم، إلا فيما ندر وتحت ظروف موضوعية وذاتية خاصة، إلا أن يُهزموا. ففي واقع متخلّف وهَوْلِيّ كالواقع العربي، الشيء الطبيعي أن يُهزم الكاتب. الشيء الطبيعي أن يكون جسمه في واقعه المتعيّن وروحه في ملكوت آخر. فالمرء، إذ يكتب، لا يعود قادراً على المصالحة مع محيطه ووسطه. وأولئك الذين لديهم القدرة على المصالحة والتكيّف والانسجام مع "خارج_هم"، من حقك أن تشكّ في دخيلتهم وربما حتى ترتاب. لا يعني ذلك عدم قدرة هؤلاء على الفهم والاستقراء والاستيعاب. كلا. بل يعني أنهم وصلوا إلى درجة من الصدق والطهارة والشفافية، لم يعد بإمكانهم بعدها، أن يكونوا كما كانوا سابقاً. فهم يرون عيوب مجتمعاتهم وعوراتها بعدسات مكبّرة، ويتألمون.
لقد تحوّل"العامُّ" لديهم إلى "خاصّ". الألم العامّ هو ألمهم شخصياً. وليس هذا مجرّد كلمات. بل هو سلوك. وحين يصل المرء، في واقع غير مسعف، إلى هذا الحدّ، فماذا يُنتظر منه أن يكون؟
لن يكون إلا مهزوماً. سوى إن وضعَ مسافةَ حمايةٍ بينه وبين الظروف والوقائع والأحداث. وحسب ما يعرف هو، فقلّة من الكُتاب مَن تنجح في مسعى كهذا.
وهو ممن لم ينجحوا وما عاد يجرؤ على الحلم بهذا النجاح! لذا........... لم يبق لديه من شيء يفعله إلاّ المشوار المسائي. يخرج كل يوم بعد المغرب، ليتمشّى مع رفيقه الذي "يحاول في الأدب". رفيقه على مشارف الستين، وهو على مشارف التاسعة والأربعين. رفيقه يعمل طول النهار في وظيفته وفي قطعة أرض اشتراها، وهو يقرأ طول النهار، وأحياناً يكتب. خلا ذلك لا شيء، غير ما هو ضروري ولا مندوحة عنه. [تدبير] إذ يصعبُ التمييزُ بين الصحّ والغلط
أختارُ أن أراكِ يا بلادي
أراكِ في الليل فقط جيّدٌ هذا لقلبي!
التعليقات
حقيبة المسافر
إنجي -أكثر الناس معاناة هم أشدهم عمقاً--لذا مرحى لقاطني هامش الحياة!--القراءة والكتابة هما حقيبة لمسافر--وفي وقتنا هذا..مشروع أن يكون المسافر بلا حقيبة!--فكلما دققت النظر وضحت الرؤية فأصيبت العين!--لذا أخشى أن نتحول لأمة رواة وحفظة!--أحد المفكرين الكبار قال لي: أحب أن أجالس كناس أو بائع متجول خير من أن أجالس مثقف!!(لا أظنه يعنيني أنا)؟--شكراً أستاذ باسم--ولازلت مُصره على دعوتي لك بالأمل0
شهادة
علي ابو خطاب -نحترم عدم ميل المبدع للاجتماعيات فانا مثلك ايضا وانت تعرف لكن مش لدرجة انه لسنة ونصف بحاول اقابلك انا والشباب المثقف المبدع الذي يعزك دون جدوى او بمبررات منك لا تصمد امام سنه ونصف ويا ما اتصلت تلفونات ويردوا لحظة ثم غير موجود هل الحالة الابداعية تعني انه لا يعرف ان يقابلك المقربون لك وهم قلة في المشهد الغزي الثقافي الواطي ولا ان يستفيدوا من مكتبتك ويستعيروا منها كما اعاروك بدلا من ان تلتهمها المياه هل عقول الشباب المبدع اولى ام مطر غزة الاسود
قراءة ،معرفة ، ألم
رمضان عيسى -آه ليتنى لم أعلم فكم جر علمى على نفسى الألم ،القراءة هي المعرفة أكثر ،هي العمق أكثر ،هي الاٍخطبوط الذى يجعلك أكثر تشعبا في مسارب هذه الحياة ، ولكن بصمت ، صمت العارف ، ولكنه الفرد ، الفرد الذى يغلى كالمرجل لما يرى من فرق بين ما يقرأ وما يرى . القراءة تخلق معرفة أكثر ،وفى نفس الوقت ، اٍنسحاب للداخل أكثر ، اٍنسحاب نفسى وانعزالى اٍن صح القول ،فالمعرفة أكثر تكون لديه نسقا فكريا نقديا ، اٍصلاحيا ، شموليا، للمجتمع، للعلاقات بين الاٍنسان لأخيه الاٍنسان، حيث القراءة تصقله اٍنسانيا وتجعله حساساأكثر ، يرى الظلم بشكل مضاعف أكثر من غيره وينتصر للمظلوم أكثر من غيره وبالتالى يتألم أكثر لأنه لا يستطيع أن يغير المجتمع كما قرأ ورأى وأحس .فهو فرد ، والفرد لا يستطيع أن يغير مجمتع ، وفي هذه الحالة يرى نفسه مدفوعا ومن غير أن يدري الى الاٍنتماء الفئوي ، وربما الحزبي وبالتالى نكران الذات ، واللا مبالاة بنفسه كفرد ،أوقات تناوله طعامه ،نوعية ألبسته ،شكل بيته ،ربما أحيانا ، هذا هو حال القارؤن لأننى عايشت وخبرت جزءا من هذه المعايشه وهذا الاٍحساس. مرة أخرى ،القراءة أكثر ، معرفة أكثر ، احساس أكثر ، ألم أكثر ، انتماء ، نكران ذات . -----------------------
مفهوم
حسن المصري -سيد نبريص كنت اتخيل انك تجيد الكتابة افضل من ذلك . صدقا هناك طالب سنة اولى صحافة يجيد كتابة نص شعري وفكري افضل منك ...يبدو ان مكتبتك برستيج اجتماعيحاول ان تقرأ بعض مما عندك من كتب ربما بعد عشرين عام ممكن ان تكتب نص يستحق ان يقرأتحياتي
المعاناة واحدة
مثقف -كلنا مثلك حتى لو ما كتبنا. هاي بلد لا مكان للمثقف فيها . فلا عزاء لهم غير وحدتهم. شكرا .. ودمت
جيد هذا لقلبي
مثقف -انزل المدينة بس في الليل بضوء الشمس لا أحتمل مصايبها جيد هذا لقلبي
3 رمضان عيسئ
دلال -تعليقك كان تعليقا جد صائب وكان مستواه الادبي اعلئ بكثير من المقالة المنشورة رغم قصره واتمنئ ان اقرا لك مرة اخرئ