الحقيقة وهم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وبالتالى لا هيمنة من المؤلف إذن على النص، وليس من حقه أن يصدر بياناً يحدد فيه المعانى التى قصدها، فالنص أصبح ملكاً للقارئ، بل إن النص نفسه، فيما يري أنصار ما بعد الحداثة، لا يكتبه فى الحقيقة مؤلف واحد، ذلك لأن أى نص هو عملية تفاعل بين نصوص متعددة، يستشهد بها أو يستحضرها المؤلف، بكل ما تترتب عليه كلمة " التفاعل" من نفي لبعض النصوص، أو المزاوجة بينها، أو إزاحتها، وهى الظاهرة التى يطلق عليها "التناص" Inter-Textuality.
بل يدعو أنصار ما بعد الحداثة إلى ان المؤلف لا ينبغي أن يقدم نصاً مغلقاً، محملاً بالأحكام القاطعة، زاخراً بالنتائج النهائية، والتى عادة ما تقوم على وهم مفاده أن المؤلف يمتلك "اليقين" أو "الحقيقة المطلقة"، وعلى المؤلف - فى رأيهم - أن يقدم نصاً مفتوحاً، بمعنى ألا يكتب كتابة واضحة ومباشرة، بل يستحسن أن تكون غامضة نوعا ما، حتى يتاح للقارئ أن يشارك بفعالية من خلال عملية التأويل فى كتابة النص. (13)
كما أن لحركة ما بعد الحداثة أفكار خاصة جدا حول الزمن والتاريخ والجغرافيا. وفيما يتعلق بالتاريخ كعلم مستقل، أو كمدخل للعديد من العلوم الإنسانية فإن الحركة تقلل من أهميته كثيراً، ومن كثرة الاعتماد عليه، ولا يرون له أهمية سواء فى كونه شاهدا على الاستمرار، أو دليلاً على فكرة "التقدم"، أو وسيلة للبحث عن الجذور، أو أساساً للفهم السببي للوقائع. إن التاريخ بالنسبة لهم هو مجال للأساطير والأيديولوجيات والتحيزات وهو اختراع للأمم الغربية الحديثة، قام بدوره فى قمع الشعوب غير الغربية (14).
ويبدو أن التقليل من أهمية التاريخ يرد أساساً إلى فكرة محورية وهى أن "الحاضر" الذي نعيشه باعتباره نصاً، ينبغي أن يكون محور اهتمامنا، وهذا "الحاضر" يتشكل من سلسلة من "الحواضر" الإدراكية المشتتة، وليس التاريخ مهما ًإلا بالقدر الذي يلقي فيه الضوء على الأحوال المعاصرة، أو هذا " الحاضر" الثري.
من ناحية أخرى، يرفض أنصار ما بعد الحداثة أى فهم تعاقبي أو خطى - Linear للزمن. وهذا الفهم للزمن يعتبرونه قمعياً، لأنه يقيس ويضبط كل أنشطة الإنسان، وهم يطرحون مفهوماً آخر للزمن يتسم بعدم الاتصال (15).
ويبدو ان رفض هذا الرأى ليس سهلاً، خاصة بعد ما أكده العلم الحديث، يقول مثلاً عالم الطبيعة الشهير ستيفن هوكنج" فى كتابه : " تاريخ موجز للزمن"، أن الزمن الخيالى هو حقاً الزمن الحقيقي، وما ندعوه الزمن الحقيقي ليس سوي صورة من صنع خيالاتنا (16).
كما أن لهم مفاهيم أخرى عن الفضاء، من ناحية توسيعه أو تضييق مجاله والتحكم فيه، فالجغرافيا بالنسبة لهم ليست شيئاً ثابتا راسخاً لا يتحرك، فقد أدى التطور الكبير لـ "تصنيع الحياة" Alife الى تغير مفهوم "المكان"، والمقارنة بين أنظمة الحياة الصناعية وبين النظام الكوني، جعلت الكون بكل أفلاكه وكواكبه ونجومه، يبلغ فى الحجم قدر أصغر حفرة تتسع لأن يخفي المرء رأسه فيها.
وفى رأى كل من "بارو" Barrow و"تيبلر" Tipler، عالمى الكونيات، ان الحياة تبدأ توسعها وامتدادها وانتشارها من كوكب واحد (الأرض) حتى تطوق الكون بأسره (سائر الكواكب) عن طريق العلم والتكنولوجيا، كما أن مفهوم "الحدود" الجغرافية سيصبح غير ذي بال فى المستقبل المنظور (17).
على أن أهم الأفكار التى يروج لها أنصار ما بعد الحداثة هى أن "الحقيقة" وهم لا طائل من ورائه، وان السعي الى الحقيقة كهدف او كمثال من سمات "الحداثة" التى يرفضونها فالحقيقة تحيل في فهمها والوصول إليها الى النظام والقواعد والمنطق والقيم والعقلانية والعقل والذات، وكل هذه المقولات مرفوضة عندهم.
فإذا كانت "الحقيقة" من أبرز المشكلات الميتافيزيقية فى تاريخ الفكر الفلسفي، على اعتبار أن البحث في الحقيقة هو جوهر التساؤل الفلسفي، فإن هذا بالضبط هو ما يرفضونه صحيح أن الحقيقة كفكرة لعبت دوراً هائلاً فى توجيه الفكر الفلسفي على طول امتداده، باعتبارها الهدف الأسمي والمثل الأعلى الذي تسعي البشرية إليه، إلا أن هذه "الحقيقة" قد تولدت عن ثنائية ميتافيزيقية هى ثنائية الظاهر والباطن، باعتبار أن الحقيقة دائماً هى ذلك الأصل المحتجب، والمبدأ الأول الضارب في أعماق الماوراء، الذي ينتظر من يكشف عنه.
ورغم أن الإنسان قد فشل في بلوغ هذه "الحقيقة" كهدف، وكذا فى استخدام الوسائل التى تقربه إليه، فإن هذا الهدف قد ظل منزهاً. هكذا ارتفعت الحقيقة فوق عالم التغير والصيرورة والحياة، واستقلت عن شروطها، واصطبغت بصبغة أزلية، وكونت عالماً قائماً بذاته، هو عالم المطلق الذي تستقر فيه كل الأزليات الأخرى التى عرفها العقل البشري من مثل أفلاطونية، وأشياء فى ذاتها، ومبادئ مطلقة وعلل أولى (18).
من هنا يرفض أنصار ما بعد الحداثة فكرة "الحقيقة" وأى زعم باحتكار ما يسمي بـ "الحقيقة"، لأن فى ذلك "إرهاباً فكرياً غير مقبول" - حسب تعبير أستاذنا السيد يسين- والفكرة الرئيسية التى يستندون إليها هى أن الحقيقة من المستحيل الوصول إليها، فهى إما أن تكون لا معنى لها أو تعسفية، والنتيجة واحدة، فليس هناك فى الواقع أى فرق بين "الحقيقة" واكثر الصياغات البلاغية. الهوامش
13-السيد يسين: الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادى والعشرين، الجزء الأول، ص-70.
14-المرجع نفسه: ص-71.
15-ميشال فوكو: حفريات المعرفة، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1987، ص13،14.
16- السيد يسين: الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادى والعشرين، الجزء الأول، ص-71-72.
17-Barrow. J. D amp; Tipler, F. J.: The Anthropic cosmological principle Oxford, clarendor Press, 1986, P. 680.
18-فؤاد زكريا: نيتشه، سلسلة نوابغ الفكر الغربي (1)، دار المعارف، 1956، ص -58.
التعليقات
إنما الوهم هو الحقيق
عادل -فى ثقافتنا التعسة الوهم هو الحقيقة المطلقة ياسيدى... للأسف. أيها البشر أيها القادة إتبعوا نصيحة العفيف الأخضر ودرسوا الفلسفة والمنطق ففيهما العلاج لنومتنا الكهفية التى طالت جدا ولا يبو لها من نهار.
الحقيقة كمفهوم
رمضان عيسى -الوا قع أو الموجود لا يمكن اٍعتبارة حقيقي أو كاذب . اٍنه موجود وحسب بغض النظر عن وجودنا نحن ، اٍن الحقيقي أو الكاذب هو فكرنا عن الواقع ، آرائنا حول الواقع ،والخطأ يقاس بمدى عدم مطابقتة للواقع ، والحقيقة وهم اٍذا لم تكن متطابقة مع الواقع ،مع فكرنا عن الواقع ، فمثلا النار تحرق الخشب ،لهذا لانشعل النار بالقرب من الدولاب الخشبى ، معنى هذا أن مفهومنا عن النار صحيح ولن يكون وهما يوما ما ، هذا هو الفهم الديالكتيكي ، من هنا الاٍستنتاج أنه لا توجد حقيقة بعيدة عن التجربة ، أي لا توجد حقيقة مطلقة سابقة على الوجود الاٍنساني وتجربته . وان ما نحصل عليه من حقائق هي نسبية تتراكم مع بعضها وصولا لحقائق أكبر وهكذا فاٍن المكتشفات العلمية ما هي اٍلا شذرات من الحقائق النسبية الصادقة عن الواقع .