كتَّاب إيلاف

من لندن إلى أغادير عبر الطريق البري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

(1)
قبل حزمة من الأيام فقدت عقلي، وقرّرت أن أعيد سيرة آبائي وأجدادي من أمثال الرّحالة ابن جبير وابن بطوطة وماجلان، وبقيّة تلك "البشكة"، أو (الشلة) المسافرة في أرض الله العامرة.
قررت أن أكون ابن بطوطة العرفج، وأسافر بالسيّارة من بريطانيا إلى المغرب، لأكتشف صورة العربي بعد ما يُسمّى أحداث الحادي عشر من سبتمبر -حلوة "أكتشف" هذه،(تراني أمزح)-!
أخذنا - صديقي أبو صقر وأنا - للسّفر عدّته، واستعذنا من وعثائه، وبدأنا الرّحلة..
كان ميناء "بورت سمث" الإنجليزي نقطة الانطلاق، و"بورت سمث" ميناء صغير، ليس فيه ما يميّزه إلا أنّه على مرمى ليس حجر، بل وردة من مدينة ساوثامبتون التي تحتضن ذلكم الفريق الكروي المشهور، الذي طار باسم "المدينة" في الجهات الأربع!
قدّمت الجواز لإدارة جوازات الميناء، فاعتذروا لي لأنّني سأنتظر مدّة ربع ساعة حتّى يهاتفون السلطات الإسبانية بغية أخذ الموافقة!
كان جوازي ممهوراً بفيزا "الشنقن"، تلك التي تتيح لحاملها التجوّل في 25 دولة من دول المجموعة الأوروبيّة!
بعد ربع ساعة "تحديداً" أخذت الجواز عارٍ من أيّ ختم، واكتفت موظّفة الجوازات بقولها: تستطيع الذّهاب، وتفضل اصعد إلى السفينة!
كان صديقي أبو صقر، وهو من أصل مصري، ولكنّه "تجميع بريطاني"، يحمل جنسية "التجميع"، لذا كان بمأمن من مخاطر الاستجواب، وإن كانت ملامحه العربية،وكثرة تحرّكاته ومشاغباته تفضحه، وللأمانة فإنّ كاتب السّطوروصاحبه لم يجدا من يبادلهما الشكّ، أو يزرع الريبة من جرّاء النّظر إليهما!
فتحت السفينة أبوابها، وبدأت تلتهم السيارات، واحدة تلو الأخرى، وكأنّها وحش كبير أدركه الجوع، فأخذ يلقف كلّ ما تيسّر من مصانع السيارات، غير غاصٍ بمنتوج أمريكي، أو مقاطع لسيارة يابانيّة، أو لديه ولاء وبراء لسيارة يهودية أو كارهٍ لدابة فرنسيّة الصّنع، رغم ما بين الإنجليز والفرنسيين من عداء تاريخي!
كانت بوابة السّفينة عظيمة، وشكلها يُوحي بقدرة المرء على "صناعة النّجاح" متى ما أراد ذلك، ولكن مع الأسف أنّ أكثر البشر، إمّا إنّهم لا يستعملون عقولهم، أو إنّهم يستخدمونها في إنتاج الشرّ والتعاون على الإثم والعدوان!
ركبنا السّفينة، عندها قلت: "بسم الله مجراها ومرساها"، أو كما هي رواية -َوْرش- (بسم الله مجريها ومرسيها)، وبدأ الركّاب يتقاطرون على السّفينة، منهم من هو على ظهر سيارته، ومنهم من هو على دبّاب "درّاجة ناريّة"، ومنهم من يمشي على قدمين، ومنهم من يركب على أربع.. ومنهم من ينتظر وجود مكان فارغ، حتى أغلقت السّفينة أبوابها.. وبدأت الإبحار..

(2)
بعد أن ركبنا السّفينة، تركنا وراء ظهورنا "البرود الإنجليزي"، و"هموم الدراسة"، و"المطر المستمر"، و"الجنيه الاسترليني" الذي يرهق الجيوب، انطلقت السّفينة تمخر عباب البحر، كما يقول أهل اللّغة الفصحى!
كانت السّفينة ضخمة، تقريبًا بنصف حجم سفينة "تايتنك" الشهيرة المنكوبة التي تحوّلت إلى فيلم عالمي، لذلك أصبح حجمها معروفاً من الأفلام بالضرورة!
انطلقت السّفينة، وقال الراسخون في قيادتها بأنّ رحلتنا ستستمر لمدة يومين في البحر، وبعدها سنصل بإذن الواحد الأحد إلى ميناء "بل باو" الإسباني!
كانت الأحداث في هذه الرحلة كثيرة، سأتجنب الشّخصي منها إلا ما يحضر بوصفه تجربة، من الممكن أن يمرّ بها أي شخص، وذكرها هنا قد يكون "مهما" لأنّها انتقلت من "خصوص السّبب" إلى "عموم اللّفظ" كما يقول أهل التفسير!
في السّفينة تدرك عظمة الله، عبر هذا البحر الذي يخيف في القرب والبعد، وكلما تلاطمت أمواجه بدأ يلعب بالسّفينة كما يلعب الهوى بالشاب التعبان،
ولقد قالت "الكسرات الحجازيّة":
ولد الهوى دايماً تعبان
مكتوب عليه قلّة الراحة
مثل السفينة بلا ربان
يلعب بها الموج في الباحة!
وهذا ما حدث لنا.. أخذ الركاب يبكون، كلٌّ يتضرّع إلى الله وفق معتقده وديانته،
وبعد غصص حرّى، وأنفاس ثكلى، تداركنا الله برحمته، وسكن الموج، وأدركنا الهدوء بعد أن عضّنا الخوف والارتجاف!
كثيرة هي المعلّقات والشتائم التي قيلت في البحر، منذ امرئ القيس الذي كانت همومه كـ"موج البحر"، حتى أغاني المطربين التي تصف البحر بالغدّار والخائن، وليس هناك الا المطرب عبادي الجوهر هو الذي تصالح مع البحر حين قال:
جيت البحر بدري وسألته عن بدري
جاوبني موجه وقال داعبته فوق صدري
وعلى ذكر البحر فإن القلم يتذكّر باحثاً جاداً في جامعة أم القرى حصل على الدكتوراه في "البحر في الشعر السعودي"
بالنسبة لي، فإنّي لا أملك أيّ عداء للبحر، فهو صديق مجاور، وحبيب محاور، ولكن لمن يفهم لغة الماء، ويستوعب حروف الهجاء التي لا تُكتب إلا بالماء!
كانت السّفينة سبعة أدوار، لا عيب فيها إلا كثرة الإختلاط، وتشابك النّاس، وكم تمنّيت في تلك السّفينة أن يكون هناك فرعاً لهيئة الأمر بالمعروف، ليتم فصل هذا الاختلاط الذي أضاع الهدوء، وأفقدنا التأمّل في نجوم السّماء، ونحن في أقرب منطقة تفضح ما يربط الأرض بالفضاء.. وبعد يومين وصلنا إلى ميناء "بل باو" الإسباني، وقد كان ما رأيته في هذا الميناء أشبه ما يكون بالمعجزة.. أما ماهية هذه المعجزة فتلك قصة من الحسن أن تُروى ومن الجميل أن تحكى!

(3)
كانت الإقامة في إسبانيا إقامة في "الجنة الخضراء" التي وُعد بها المتقون في الأرض، وكنت أثناء الرحلة أعيد قراءة كتاب لنزار قباني اسمه "قصّتي مع الشّعر"، وهو بالمناسبة من أجمل كتب السيرة التي يكتبها شاعر عن نفسه!
في هذا الكتاب كان نزار يعوّل على "الأرض الإسبانيّة" في كثير من نجاحاته الأدبيّة، كيف لا، وهي التي ذبحت الشاعر "لوركا" تحت أشجارها وهو يغنّي لحريتها وانطلاقتها!
منذ اللّحظة الأولى لدخول إسبانيا تدرك أنّ هذا الشّعب يحبّ "الحياة والفرح"، ويهوى "المتعة والصهللة".. ومن باب التوافق العجيب أنّ مسجّل السيارة في كثير من الأحيان يردّد أغنية المطرب طلال مدّاح "وابتدت أيامي تحلى".. لذا كانت إسبانيا بمثابة ابتداء رحلة ونهاية رحلة.
أقمنا في "ملقا"، تلك البقعة الرابضة على كتف "جبل طارق"، وهذه الإقامة أزاحت الغطاء عن بعض ملامح الشّعب الإسباني.. فهذا الشّعب -بعيداً عن التعميم الجاهل- شعبٌ طيّبٌ وودودٌ، وإن كان عنيفاً في نبرته الصوتيّة، جافًّا في تناوله للأشياء.. فعامل المطعم -مثلاً- عندما يضع الطّبق أو الكأس على الطاولة يفعل ذلك بقوّة تجعل النّائم يستيقظ من سوء الصّوت وجبروته، ولكنّ خلف هذا العنف روح شفّافة صادقة، تحبّ الحياة وبساطتها، ولولا أنّ إسبانيا تجامل الاتحاد الأوروبي -وبالذّات بريطانيا- لكانت الفيزا إليها أسهل من هبوط مؤشّر سوق الأسهم السّعودي!
في إسبانيا عندما تَسأل، تجد الكلّ حريصاً على إرشادك، وتوجيهك إلى الطريق، يفعلون ذلك ولا يريدون جزاءً ولا شكوراً.. بل يريدون أن تحمل عن هذا الشّعب "طيّب الذّكرى"، و"العودة مرّة أخرى"!
والمشكلة الكبرى التي تواجه هذا الشّعب العظيم هي اللّغة، فلا هم يتحدثون الإنجليزية، ولا هم من المتحمّسين للعربيّة، بل هم بين ذلك قواما.. عندها تكون "لغة الإشارة" هي سيّدة الحوار والتخاطب والاستقرار!
في إسبانيا حمدت الله أنّ "العرب خرجوا منها"، لأنّهم لو استمروا فيها لكانت عامرة بالروتين والبيروقراطية التي تحفل بها الدول العربيّة، ولن يصدّق القرّاء أنّني دخلت إسبانيا وخرجت منها ولم ينظر أيّ أحد في جوازي؛ بما في ذلك رجال الجوازات أثناء الدخول، أمّا في الخروج فقد "لمح" أحدهم الجواز وأعاده لي دون أن ينظر في الصورة.. أقسم بالله العلي العظيم هذا ما حدث!
إنّ ما رأيته في الجمارك والجوازات في إسبانيا يشبه المعجزة، فقد اكتفوا بما تمرّره السّلطات البريطانيّة، وهم المسؤولون عن أيّ خطأ أو راكب يأتي بطريقة غير نظاميّة، وكلّ دولة مسؤولة عما ترسله للأخرى، والله الهادي إلى سواء الطريق!
حقًّا حمدت الله على أنّ العرب خرجوا من إسبانيا، وإلا لكانت إسبانيا مليئة بالفساد والروتين، وقبل ذلك وبعده مليئة بالكآبة والحزن والتعاسة، وانتشرت فيهم مقولات تدعوك للابتسامة والفرح، وأصبح كتاب "لا تحزن" من أكثر الكتب مبيعاً، وانتشار مثل هذا الكتاب بهذه الكثافة لا يدل على جودة التأليف، وإنما يدلّ على تفشّي حالات "الحزن".. إنه تماماً مثل انتشار المستشفيات أو المصحّات العقلية، التي لا يدلّ وجودها على تطوّر المجتمع، بل يدلّ على أن المرضى والمجانين في كل ناحية وزاوية.. ماعلينا!

(4)
ها نحن على مقربة من "الجزيرة الخضراء"، وهي ليست المنتجع الجميل الكائن في جُدة -بضم الجيم- بل هي المعبر الوحيد من أوروبا لإفريقيا، إضافة إلى معبر "الناظور".
الجزيرة الخضراء -فعلاً- جزيرة خضراء، وليست مثل تلك التي في جدة، مزوّرة الخضرة، خادعة اللّفظ، اسم على غير مسمّى.. وهذه إحدى مآسي الترجمة التي تشرح الاسم وتتجاهل المسمّى!
هذه الجزيرة عامرة، فكلّ المسافرين من أوروبا أو إليها من إفريقيا يجب أن يعبروا هذا المضيق المسمّى "مضيق جبل طارق".
وللإفادة فإنّ جبل طارق هذا يشكّل "مدينة صغيرة"، وهي مستعمرة من قبل الإنجليز منذ أكثر من 200 سنة ولا تزال،(انظروا الى أين وصلت بركة الانجليز)، والعملة المتداولة في "الجبل" هي الجنيه الإسترليني، وقيادة السيارة فيها من الجهة اليمنى، والعلَم البريطاني يُرفرف في سماء الجبل، ولا يدخل هذه المدينة إلا من يحمل جوازاً إنجليزياً، أو معه فيزا لدخول بريطانيا، أو من مواطني دول الاتحاد الأوروبي!
ومن الغريب أنّ اسم الجبل لم يغيّره الإنجليز، فهو يحمل اسم "جبل تارك"، وما زالت إسبانيا والمغرب تطالبان بريطانيا باستعادة هذا الجبل بوصفه جزءً منهما وليس لبريطانيا حقّ فيه، لأنّ جحا أولى بلحم "جبله"، والحكمة تقول: "من جاور شيئًا فله الحقّ في امتلاكه"!
في جبل طارق مشاكل وملفّات، وقضايا وتداعيات، وتاريخ ومحطات، تصعب الإحاطة بها، فهذه "المغرب" تنازع إسبانيا التي استولت كما يقول المغاربة على مدينتي "سبتة" و"مليلة"، وهذه أسبانيا لها نفس المطالب!
حقا، "جبل طارق" قطعة لحم سيّلت لعاب دول الجوار، فيما العلم البريطاني يرفرف فوقه وكأنّه يقول: إنّ الجبل قطعة بريطانية معروفة، وهو "علَم في رأسه علَم وليس نار"!
جبل طارق يحتاج إلى ثقافة مختلفة، فأنت في مساحة صغيرة من الأرض بحجم مدينة "ينبع"، أو (الرس) ولكنّك في ثلاث دول، فهذه المغرب وتلك إسبانيا والثالثة الأخرى بريطانيا.. دول تتزاحم على مضيق يتحكّم بربط قارتين إحداهما سوداء يشوبها شيء من البياض، ويعتريها الفقر والحزن وقلّة العمل، وقارة أخرى بيضاء يملؤها النّظام، ومشبّعة بالحياة وطول الأمل، والمُلك لله وحده يؤتيه من يشاء ممّن "صدَق في القول والعمل"!
وقبل أن نطوي صفحة إسبانيا، ونعانق بوابة العرب "طنجة" لابد أن يلاحظ المسافر مرونة العبور من جوازات وأوراق، فالبوليس رهين ثقتك لدرجة أنّه لا ينظر إلى جوازك، بل يفترض أنّك صادق، ولم تحضر إلا وأنت كامل الأوراق.. فالإنسان مسؤول عن نفسه، ومراقبٌ لها، وكأنّه كاتب مرتّب يحمل في داخله عقلية "رئيس تحرير مرتّب"!

(5)
ها نحن الآن في السّفينة على وشك الإبحار من "الجزيرة الخضراء" الإسبانية بصدد الاتجاه إلى "طنجة" المغربية.. طنجة تلك المدينة الوادعة، التي يقول أهلها: "إنّ طنجة -هذه _من لم يرها "كتبكي" أي ستبكي عليه، ومن رآها "كيبكي" أي سيبكي عليها"! وكلّ ما أعرفه عنها هي تلك الصّورة "المشبوهة المشوهة" التي رسمها الروائي المغربي محمّد شكري -رحمه الله- في روايتيه "الخبز كافي" و"السوق الداخلي"!
ستستغرق الرحلة ساعتين ونصف، وأوّل ما يلحظه المسافر أنّ السّفينة تسير ببطء، فنحن نرغب في قطع عرض المضيق البالغ 17 كيلو متراً، لذا استغرقنا من الوقت 150 دقيقة حتى نصل إلى شواطئ طنجة!
في السّفينة يدرك المرء تأثير الأسبان على المغاربة من حيث المرونة وسرعة الإنجاز، فمكتب الجوازات والهجرة في السّفينة، وبدلاً من أن يجلس الركّاب على بساط التململ و"الحكحكة"،(وتشميت العاطس)ونفخ الهواء من الانتظار، يستغلّون الوقت ليس في القراءة، بل بتقديم جوازاتهم للمسؤول للحصول على ختم دخول المغرب، بحيث ينطلقون عند الوصول إلى طنجة فوراً،و كأنّهم جراد منتشر!
وصلنا إلى طنجة؛ وفقدنا "مرونة الأسبان"، فأوّل لوحة تقابلك هي لوحة "ممنوع التصوير"، مع أنه لا يوجد ما يستحقّ "المنع"، (بل والتصوير) فكلّ ما تراه سيارات متداعية، وأناس حائرين وأجساد تتسول المارة.. وللأمانة فلم نجد مثل لوحات "ممنوع التصوير" في إنجلترا أو إسبانيا؛ رغم أنّهما أهمّ من المغرب، بدليل أنّ مواطني إنجلترا وإسبانيا يذهبون إلى المغرب بلا فيزا، ولكنّ المغربي يحتاج إلى فيزا "معقّدة الطلبات" "كثيرة الوريقات" حتّى يذهب إلى تلك الدولتين!
في إسبانيا التقطت عشرات الصّور، حتّى قالت لي الكاميرا "ممنوع التصوير"، فقد انتهى الفيلم، ولكن في الجمارك المغربية امتنعت عن التصوير رغماً عنّي وعن كاميرتي!
أخذ منّا الطابور الطويل في جمارك طنجة زمناً ليس بالقصير بسبب السيارة التي معنا، وبعد ساعات عبرنا إلى المدينة محمّلين برياح الأمل والتّعب وانتظار الرّاحة!
بعد الراحة ذهبنا من طنجة إلى الرباط، وكان الطريق بين المدينتين حافلاً بالمَزارع، وكان منظر الفلاحات وهنّ يعبرن الطريق فوق عربات الحمير ويبعن الفاكهة يغمر الرّوح بالجمال والرّوعة، فهو نقاء العمل، وطهر البراءة التي تلوّنها الفاكهة!
طوال الطريق في المغرب لا بد أن تجد شباباً متفائلاً بحبّ الحياة، ويحلم باللّحاق بالغرب، أمله أن يُسافر إلى أوروبا، وملابسه لا تقول إلا إنّه معجب -حدّ التخمة- بالحياة الغربية والأسلوب الإفرنجي.. كلّ هذا توضّحه الأزياء والرقصات، والأغاني والآمال، والتطلّعات، والأفكار التي يحملها الشباب المغربي الذي يحاول الفرار من دهاليز الإحباط، والتطلّع إلى مدائن الأمل والشّوق والنّشاط!

(6)
مع كلّ الإعتذار لصوت المطرب الكبير طلال مداح -عليه سحائب الرحمة- ليسمح لي أن أقول: "أغادير يا قلب العنا"، بدلاً من "مقادير يا قلب العنا"!
فبعد مسيرة تسع ساعات وصلنا إلى أغادير قادمين من طنجة.. أغادير هذه مدينة حاضرة البحر -مثل جُدة "بضم الجيم"-.. وإن كانت جُدة تحبّ الضمّ "بالضمّة" فإنّ أغادير مضمومة بالجبل والبحر والحبّ، والحور العين البشريات!
أغادير كلمة أمازيغيّة تغني المغارة في البحر.. أتعبني نطقها، أهي بالغين أم بالكاف أم تراها بالجيم.. أدركتني الحيرة فلجأت إلى قاضٍ عريق متقاعد في مقهى أرتاده، فسألت عن الحرف الصحيح، فأعطاني قاعدة نافعة قائلاً: "كل ما يُقوقم يُغوغم ويُجوجْم"، أي أنها "أغادير، أجادير، أكادير" وكلّ الحروف تؤدي ليس إلى روما بل إلى أغادير!
أغادير في آخر المغرب ولا يحدّها بل لا يمسّها إلا الماء كلّ مساء في غفلة "الرقباء"، إنّها خليط من العرب والبربر، أو "الأعراب والشلوح"، وبينهما تراشق لطيف، وتناوش عفيف!
قال لي صاحب تاكسي: إذ أردت أن تعرف أغادير فأذهب إلى المساجد.. سمعت كلامه وتوجّهت إلى مسجد البخاري، وهو من المساجد الكبيرة، وإذا بلوحة مكتوب عليها "مدرسة الإمام البخاري للتعليم العتيق"، دخلت المدرسة فوجدت بها مثل ذلكم التعليم الذي أدركتُه في المسجد النبويّ أيّام الطفولة، تعليم يضمّ دراسة المُتون والهوامش وأمّهات الكتب في الدين وعلومه عبر جلسة بسيطة تتّخذ من الأرض مقعداً ومقاماً!
إنسان أغادير تغلب عليه "الأمْزغة"،وليس العروبة لذا هو طيّب متسامح، لم تدركه تشنّجات العرب وقوميّتهم "الخائبة"، أمّا الفرع النّسائي من هذا الإنسان فهو فرع أصله رحيق، وجماله حقيق، وحسّه عتيق، وقلبه شفيق، وكلامه كأنّه الماء العقيق. وتصل إليه النفوس ببسيط من القول الرقيق.
كثرة المقاهي تفضح أهل أغادير وحبّهم للحياة، وصدقهم مع أنفسهم.. سألت إحداهنّ: هل تحبّون السياسة؟ فقالت على الفور: نحن نحبّ الملك، ونكره الحكومة.. كانت إجابة تعطي شيئين هما: حبّ الوطن وكراهية الفساد!
شعب المغرب مكافح، يبحث عن الحياة الكريمة بأظافره المتعوّدة على العمل، وفي سوق "الأحد" ترى الحياة بكلّ تموّجاتها، وكأنّ هذا السوق خليّة نحل لا تتوقّف عن إنتاج العسل وتفعيل العمل!
في أغادير عشت طفولتي، أو بالأصح استعدتها، فأغادير هذه مثل المدينة المنيرة -على ساكن ثراها الصلاة والسلام- قبل عشرين سنة، حينما كانت عامرة بالأزقّة الضيقة، والحمامات التركيّة، والمساجد البسيطة، والنّاس الطيبين!
في أغادير تجد مكتبة "المكار" وهي كلمة أمازيغيّة تعني "مكان التقاء النّاس"، وفي هذه المكتبة يعبق رجل لبناني نبيل استوطن المغرب منذ ربع قرن، وحصل على جنسيتها، وامتلك المكتبة، ونسي لبنان و"همومه"، واستقبل المغرب وعلومه قائلاً: "مسكين من لم يتّخذ أغادير سكنًا"!،وليس مسكين من ليس له بريدة!(كما يقول أهلها)
في أغادير تجد كثيرًا من النساء بحبّ كبير وبنوايا مشكلة، يرتدين "العباءة السعوديّة السّوداء"، ولا غرابة في ذلك، فهي أستر للبدن، وأكثر فتنة، وأشد تغطية للنوايا الملوّنة التي تتلحّف بقماش كأنّه "الليل المظلم" في مكان هو كالبياض المعتم.
في أغادير تعرفت على المفكر المغربي الكبير: بن سالم حمّيش.. هذا الذي أذهلني بعمقه ودقته، وقد كنت منذ زمن أظن -وليس كل الظن اثم- أن الدكتور محمد عابد الجابري "مقلباً كبيراً" أو لنلطّف الكلمة ونقول "أخذ أكثر مما يستحق" وكان هذا ظني ونشرته قبل سنوات من خلال مقالة في جريدة إيلاف تحت عنوان "الجابري والزرقاوي وجهان لعملة واحدة"، والآن رأيت مفكراً كبيراً بطول بن سالم حمّيش يذهب لتأكيد الظنون التي ليست كلها أثم، ومن شاء فليقرأ كتاب مفكرنا بن سالم المعنون بـ"نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر"، وما الجابري إلا واحد ممن يحملون فيروس "بداوة الفكر"!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رحلة ممتعة
هشام هيثم -

السلام عليكمرحلتك ممتعة لكنك اختصرت كثيرا وحرمتنا من ذوق المتعة خصوصا وانني انا من محبي الرحلات والاسفار لدي ملاحظة كلمة اكادير تعني مكان كبير او بيت كبير يوجد في اعلى الجبل مخصص لخزن ممتلكات الناس مثل الحبوب والاشياء الثمينة ...خوفا عليها من السرقةالخ وليس مغارة في البحر كما ذكرت .

إلى الكاتب
ناطق فرج -

ولسالم بن حميش رواية رائعة هي مجنون الحكم وله رواية جميلة اخرى هي العلامة. وللاستاذ العرفج تحياتي، فقد استمتعت برحلتك العجيبة إلى مدينة أغادير.

شكر
الايلافي -

مقال جميل وشكرا لكاتبنا المبدع

وبعدين
مطلق حبيقه -

والله لاجميل ولاغيره. الاحشو ماتدري وش وراه.بس بيقول انا في لندن وسافرت للمغرب.

اكادير الجميلة
بن يحيا -

كلمة اكادير تعني بالامازيغية الحصن او المخزن ( اي المكان لتخزين الاشياء ... و لا علاقة لها بالبحر بتاتا..اما اكادير فهي تقرأ اكادير agadir) لأن كلمة اغادير او اجادير لا تعني شيئا بالامازيغية.الرحلة الى اكادير متعة جميلة وهي من اجمل مدن المغرب، تمتاز بجوها المعتدل و الحار طول السنة..اناسها من الامازيغ و هم كما قال الكاتب متسامحون و مسالمون و فيها من كل فن طرف..فبها كثرة المساجد كما فيها كثرة الفنادق و من كل الاصناف..و يأتي اليها السائحون من كل حذب و صوب و على طول السنة..فهي من احب المدن الى نفسي و افضلها على المدن الغربية...

الاخ مطلق
الايلافي -

الاخ مطلق من حقك أن تقول رأيك ومن حق الاخرين ال يقولوا آراؤهم

يا ريت دائما هيك
عبد البا سط البيك -

أسعدتنا برواية أخبار رحلتك الممتعة بعد أن اصبتنا لمدة طويلة بصداع في الراس من مقالاتك السياسية التي لم تكن بها ممتعا بل مشاكسا و معاكسا . إختص بكتابة مقالات هذه , و لاحظ أن ال جميع قد اشادوا بما كتبته هذا دليل نجاحك و تفوقك في كتابة مثل هذا النموذج الجميل . بينما تتلقى في مقالاتك السياسية ردودا غاضبة بشكل عام , و أنا شخصيا ساهمت بكتابة بعضها. شكرا على إبراز صورة جميلة عن الأديب الدكتور بن سالم حميش و نؤيد رأيك بالدكتور عابد الجابري الذي بحث في العقل العربي طويلا دون أن نفهم منه الكثير , و لم نعرف هل بحث عن موجود أم أنه تاه في البحث عن مفقود.

رأي مغربي
رضوان -

كنت منصفا الى حد ما في حق المغرب بالمقارنة مع بعض الخليجيين والمشارقة. المغاربة يتعايشون في ود وأخوة وحب بين جميع شرائحه الامازيغ والعرب وهدا سر تفوقنا على بعض دول المنطقة والخليج. المغاربة يحبون كثيرا ملكهم لانه شاب وديمقراطي ويحب الخير لبلده ومشاريعه دائما تصب في تحسين الاوضاع الاجتماعية لشعبه.لقد دكرت بنسالم حميش وهو كاتب وروائي مغربي مرموق لكنك بالغت القول في حق الاستاد عابد الجابري وأنا كمغربي من حقي أن أدافع عنه لانك تحاملت عليه وهو رجل كان ينتمي الى أحد أعرق الاحزاب المغربية التقدمية وكتاباته كلها متنورة أما مقارنته بالزرقاوي فهدا تحامل غير مقبول وعداء شخصي ليس الا.

الى رضوان
فلاح -

لم يبالغ استاذ العرفج..ز فما قاله في الجابري شيء بسيط وعادي... الجابري واحد من حزب البعث العراقي وكان يغطي على جرائم صدام... وأفكاره كلها جهل وأمية.. لا تنس ام الراحل الحسن الثاني قال ذات مرة عن الجابري بانه لم ير مغربيا اجهل من الجابري.. هذه حقيقة يعرفها كل مغربي الا الأخ رضوانوشكر للأستاذ العرفج على مقالته رحلته اللذيذة

هادي حسن الفقيه وشجر
فهد البقمي -

مقال جميل من اروع ما المقالات خاصة انه يعرج على سوء الادارة العربية وعدم قدرتها على تنظيم الاشياء ولو كان ابسطها اعطاء النظام لصاحب الحق