كتَّاب إيلاف

والماضي كان في الغيب بكره!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ظللت أشرح فكرة "العود الأبدي" عند (نيتشه) لطلابي، سواء في مادة الفلسفة المعاصرة أو في علم الجمال، ببيتين استثنائيين من الشعر الغنائي المعاصر، من قصيدة "جددت حبك ليه"، لشاعر الشباب أحمد رامي (1892 - 1981)، وتلحين العملاق رياض السنباطي، وغناء كوكب الشرق السيدة أم كلثوم طبعا! التي يحتفل العالم بالذكري المئوية لميلادها هذا العام (1908 - 2008)، و33 عاما علي رحيلها.... وهذان البيتان هما:وأزاى أقولك كنا زمان... والماضى كان فى الغيب بكره
واللى أحنا فيه دلوقت كمان... هايفوت علينا ولا ندرىوقصة هذه الأغنية، أن " رامي" كما هو معروف، كان ينتمي إلي طابور الصفوة من عشاق أم كلثوم المتيمين، وكانت تعلم بمدي حبه الكبير لها، ولم تبادله هذا الحب ولكنها استثمرته لصالح الإبداع الفني، وعصارته أجمل القصائد والأشعار. كما كانت تتحكم في أحوال قريحته الشعرية، وتقلباته الوجدانية من أقصاها إلي أقصاها، بالقرب والبعد والهجر والحرمان والوصال، والعذاب والضني والنعيم والهنا.. إلي آخر القاموس "الرامي" في الحب.. والذي عنونه بهذه الكلمات الدالة: (أنت ظالمني وأنا راضي، "أو رامي"، لا يوجد فرق).
فقد قابلها (رامى) مصادفة، بعد طول فراق، على سلم مبنى الإذاعة المصرية، فتسمرت قدماه وقال بتنهد: (روحى طالعة)!... فقد كانت صاعدة درج السلم.. فإبتسمت له، وانتهي كل شئ في ثوان بالمصالحة، وعاد رامي إلى منزله وكتب أغنيته الخالدة " جددت حبك ليه " عام 1952.
ومعروف أن الغيب (مستقبل) أى شئ لم يحدث بعد.. فكيف يكون الماضى غيبا، بل كيف تتعاصر الأزمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) وتحل محل بعضها البعض، عند رامي ونيتشه والسنباطي وصوت أم كلثوم بقوته الثلاثية، الذي عبر عن أطول وأعرض وأعمق: "غيييييييييييييب" في الغناء العربي قديمه وحديثه.
وكنت أداعب طلابي قائلا: أن " رامي " شاعر ما بعد حداثي، ليس لأنه ظل يلقب بشاعر الشباب حتي وفاته عن 89 عاما، وإنما لانه استوعب فلسفة نيتشه حتي الثمالة، ووظفها في الإبداع وأشياء أخري، علي العكس تمام من شاعر غنائي آخر، أصغر منه سنا وأكثر تجديدا للشعر الغنائي، هو "مرسي جميل عزيز" (1921 - 1980) أو شاعر الألف أغنية، الذي كتب أيضا لأم كلثوم ثلاثيته الشهيرة: "سيرة الحب" 1964 و "فات المعاد " 1967 و" ألف ليلة وليلة " 1969، من تلحين العبقري بليغ حمدي.
ففي أغنية " فات المعاد "، وهي من أروع ما كتب، يقول:وعايزنا نرجع زي زمان... قول للزمان أرجع يا زمان هذه الشذرة الفريدة وظفها " عزيز " دراميا في سياق الأغنية ومضمونها، ولكنها أبقته داخل دائرة الحداثة " حتي وفاته، فلم يتجاوز الزمن الخطي الذي يمتد بين البداية والنهاية، عبر الماضي والحاضر والمستقبل، وتتعاقب فيه المراحل الزمنية الثلاثة، حيث يصبح الحاضر ماضيا، والمستقبل حاضرا ما يلبث أن يصير ماضيا أيضا، والعكس غير صحيح.
وهذا هو مغزي أغنية " فات المعاد "، وتمثل هذه الشذرة القول الفصل في تلك العلاقة التي انتهت بلا رجعة.
ففي الزمن الحداثي الخطي، لا الماضي ولا الحاضر يصبح مستقبلا أبدا، حتي ولو حلم بإخلاص بعض أتباع الأديان الإبراهيمية بإستعاده العصر الذهبي المفقود، أو الأصول النقية الأولي.
السؤال الذي كان يفرض نفسه عقب انتهاء المحاضرة عادة، هو: هل كان المستمعون العرب من المحيط إلي الخليج - علي اختلاف فئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية وذائقتهم الفنية - يعون هذه المفاهيم والمعاني الفلسفية ؟. وكنت أجيب بلسان " كارل مانهايم " من خلال (علم اجتماع المعرفة) وأقول: لقد نجحت أم كلثوم (وجيلها) في الصعود بالذائقة الفنية للشعوب العربية، وليس فقط توحيدها، حيث رددت أشعارا بالعامية وقصائدا باللغة العربية الفصحي علي السواء، رغم ارتفاع نسبة الأمية وقتئذ، وقلة عدد المتعلمين. وكانت الفئات والطبقات الدنيا تردد أغانيها وتتذوقها وتحيا معانيها، تماما كالطبقات المثقفة والمتعلمة، بدءا من "نهج البردي" و "الأطلال " و "أغدا ألقاك" و " ثورة الشك " و "أراك عصي الدمع"، ومرورا بـ"حيرت قلبي معاك" و "أنت عمري" و"عودت عيني" و "يا مسهرني" و "دارت الأيام".... والقائمة تطول.
أما اليوم فقد أنقلب الحال رأسا علي عقب، وأصبحت الفئات المثقفة أو النخب في المجتمعات العربية هي التي تردد أغاني "شعبولا" و "بعرور" و "سعد الصغير" و"عبدالباسط حمودة" وغيرهم، وتتباهي باستقدامهم في الأفراح والليالي الملاح، وهذا يفسر جزئيا حالة الانهيار الاجتماعي الذي نعيشه علي أكثر من صعيد، عبر انحدار الذائقة الفنية والوجدانية بالمعني الواسع. فحين تتعرض المجتمعات إلي هزات قوية (زلازل)، وتجهض أحلامها وتحبط آمالها في التغيير والإصلاح، تتبدل المواقع والأدوار، وتتشبث الفئات والطبقات العليا والوسطي فيها بما هم دونها في السلم الاجتماعي حتي لا تسقط من علياء، أو أنها تظن ذلك!.
وبعد أن كانت هذه الفئات والطبقات هي القاطرة التي يعول عليها النهوض بالتعليم والثقافة والارتقاء بالذوق العام، تتنكب عن سبيلها وتتنازل عن دورها، وتصبح قيادة المجتمع ومصيره في أيدي الدعاة ورجال الدين وحفنة من الفقهاء. dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
1000 Alllllah
Son of Egypt -

Alllah Then Allllah and also Alllah Thank you very much

خلونا فى الفن
مصرى وبس -

طالما السياسة والكلام فيها أصبح سقفه فى إنخفاض مستمر, يبقى خلونا فى الفن والكتابة عن الفن بمثل هذه النوعية الرائعة من الكتابة الفنية الفلسفية الجميلة.

كان زماااااااااان
me -

مقال اكثر من رائع..فكرتنا بايام جميلة. شكرا.. لكن اعتقد ان ام كلثوم من مواليد 1898 حسب احدى الموسوعات العالمية . وفى معظم ماكتب عنها وهى مصادر متعددة انها من موايد 1903 لكن اول مرة اسمع انها من مواليد 1908..اية رأى المتخصصين؟

أجمل مقال في 2009
أبو الجوج -

بإختصار شديد..أفضل مقال قرأته في هذا العام..شكراً يادكتور وشكراً لأيلاف لوجود مفكر بالمعنى الحقيقي..أتمنى لو كنت في مصر لأكون أحد طلابك...شكراً مرة أخرى...رائع...

الى الكاتب
رمضان عيسى -

عزيزى : قرأت مقالك السابق ما بعد الحداثه وعلقت عليه ، وقرأت مقالك هذا وفهمت فهما مختلفا وهو هل أن العودة الأبدية تحدث بعد الموت أم في أثناء حياة الشخص وتتكرر بحيث يرى الماضي وكأنه يتكرر ؟ أرجو التوضيح بشكل أو بآخر .

الواقع بفلسفةالتحوير
إنجي -

عن عشق رامي لأم كلثوم.. فأظن أن رامي هذا المرهف الحس ..لم يكن يعشق أم كلثوم بالمعنى التقليدي--ولكـــنه يهوى الحب لذاته--(نعشق ونكتشف أننا نحب الحب لذاته ولم نكن نحب الحبيب لذاته)--وبرأيي الحضارة هي منظومة متكاملة مترابطة في الحال والمصير--فلن نجد التعليم في وضع رديء وسيكون مجال الصحة في أحسن حال--ولن تصبح الثقافة هشة وسيكون الفن رسالة راقية يعبر عن حال أمته!وهكذا..--لكن أتعشم في أن تاريخ الأمم دائماً في صعود وهبوط--أخيراً..مقال مميز للأستاذ عصام لكن أختلف معه في أن واقعنا ليس له شماعة واحدة وهي رجال الدين والفقهاء والدعاة--لأننا بدولاب مليء بالشماعات--فلهذا أيضاً منظومة أخرى من الفساد والتراخي0

توضيح
إنجي -

ذكرت في نهاية تعليقي السابق كلمة(أخيراً)وما تلاها من عبارة--فأردت أن أوضح أني كنت أعني بها نهاية تعليقي ولا أعني بها ..نفي التميز عن كتابات الدكتور عصام السابقة--لذا لزم التوضيح لفهم الكلمة في سياقها--شكراً0