كتَّاب إيلاف

روحنة السياسة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
(1- 2)
نقطة التحول الحاسمة في التاريخ الحديث بدأت في اللحظة التي اتحدت فيها العقيدة الألفية مع المطالب النشطة للطبقات المضطهدة في المجتمع.. والعهدة علي كارل مانهايم (1893 - 1947)، الذي دشن فرعا معرفيا جديدا في علم الإجتماع هو " علم إجتماع المعرفة " كما ظهر في كتابه (الإيديولوجيا واليوتوبيا) عام 1929. (1)
وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه أبرز انجاز فكري لهذا الجيل الاستثنائي من علماء الإجتماع الغربيين أمثال : "دور كايم" وكتابه "تقسيم العمل الاجتماعي" 1893، "بارتو" وكتابه " العقل والمجتمع " 1916، "ماكس فيبر" وكتابه "البروتستانتية وروح الرأسمالية" 1922.
فقد ربط " مانهايم " بين الأفكار وبين الأوضاع الاجتماعية والتاريخية، ويسعي " علم اجتماع المعرفة " عنده " إلي فهم الفكر في بيئته المادية الملموسة ". من هنا تجده يؤكد علي أن الاشتراكية الحديثة ترجع أصولها إلي هذه العقيدة الدينية، ومن ثم فإن الحركة التي قادها " توماس مونزر "، ينبغي أن تعتبر خطوة في الطريق إلي الحركات الثورية الحديثة. فقد كان مونزر ثائرا اشتراكيا بدوافع دينية، ويجب ان تمنح هذه الحركة اهتماما خاصا لأن العقيدة الألفية والثورة الاجتماعية مندمجتان فيها اندماجا بنيويا. (2)
ان مجرد الفكرة القائلة بالمملكة الألفية علي الأرض كانت دائما تحوي اتجاها ثوريا، لذا بذلت الكنيسة الكاثوليكية كل طاقتها واستخدمت كل ما لديها من وسائل " لشل " هذه الفكرة المتسامية علي الوضع، حسب تعبير مانهايم.
تبلورت هذه العقيدة، التي تؤكد علي العودة الثانية للسيد المسيح الإله إلي الأرض، وتأسيس ملك ألفي سعيد يدوم لمدة ألف سنة، حيث يسود السلام والسعادة لكل من يحياه، علي أيدي الراهب الإيطالي " يواكيم الفيوري " الذي سبب الكثير من المتاعب بتفسيراته وتأويلاته للكنيسة والسلطات المدنية.(3) منذ ظهور كتابه " مملكة الروح القدس، أو العهد الثالث " في القرن الثالث عشر، والذي أدين من قبل الكنيسة في مجمع " لاتران " عام 1215.
ورغم أن يواكيم الفيوري لم يكن ثوريا إلا ان أفكاره وجدت طريقها في حركة أتباع (جون هس) التي قامت في براغ في القرن الخامس عشر، وفي حركة (توماس مونزر) وكذلك في حركة (المعمدانيين) أو الداعين إلي إعادة العماد، وغيرها. " فهذه الأفكار تحولت إلي حركات تؤمن بالعنف والقوة في تحقيق الأهداف، وذلك علي أيدي طبقات اجتماعية معينة. فالأشواق التي كانت حتي ذلك الحين غير مرتبطة بهدف محدد، أصبحت ممكنة التحقيق - هنا والآن - ولهذا فإنها بثت في السلوك الاجتماعي حماسا لا مثيل له ".(4)
ان " روحنة السياسة " منذ ذلك الحين، تركت تأثيرا علي معظم الحركات الاجتماعبة، وفي مختلف العصور. لقد كان ظهور العقلية اليوتوبية التي نشأت أصلا لدي الطبقات المضطهدة في المجتمع مصدرا للتوتر الروحي. وعند هذه النقطة بدأت السياسة بمعناها الحديث، ويعني هنا بالسياسة كما يشير مانهايم: المشاركة الواعية القليلة أو الكثيرة من كل الطبقات في المجتمع في انجاز غاية دنيوية، بدلا من القدرية التي تقبل الأحداث كما هي، أو تؤمن بوجود قوي عليا تسيطر علي أمور الحياة وتسيرها.
ان التفاؤل الذي اتسمت به ثورات العقيدة الألفية، أنجب في آخر المطاف الموقف الواقعي في السياسة، وكان هذا الوضع ذا أهمية عظيمة بالنسبة للسياسة ولتلك الحركات الروحية علي السواء.
هنا بالتحديد يمكن العثور علي الفروق الجوهرية بين اليوتوبيات الخيالية التي توجد في (اللا - مكان) أو في الأماكن البعيدة والنائية (5) أو بالأحري "الاشتراكية الخيالية" التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية مع " يوتوبيا " توماس مور و"مدينة الشمس" لتوماسو كامبانيلا وغيرهما، وبين يوتوبيا "العقيدة الألفية". فبالنسبة للمؤمن بالعقيدة الألفية، فإن الحاضر يصبح الثغرة أو الصدع الذي يتدفق منه فجأة كل ما كان من قبل داخليا حبيسا، ثم يستولي علي العالم الخارجي ويحوله.
ان المؤمن بالعقيدة الألفية يتوقع اتحادا مع الحاضر المباشر، ولهذا لا يشغل باله في حياته اليومية بآمال متفائلة في المستقبل أو بذكريات رومانسية. وموقفه يتميز دائما بالترقب والتوتر وكأنه واقف علي أطراف أصابعه في انتظار اللحظة المواتية.
انه في الواقع لا يهتم بالألف سنة السعيدة التي ستأتي، المهم عنده هو ان هذا الحدث السعيد حدث هنا والآن، وانه نشأ عن وجود دنيوي وكأنه التفاف مفاجئ داخل وجود من نوع آخر.
ان وعود المستقبل الذي سيأتي ليست بالنسبة له سببا للتأجيل، بل نقطة انطلاق وتوجه جديد. يقول " مونزر " : " اننا نحن المخلوقون من تراب ولحم نتحول إلي آلهة من خلال تحول المسيح إنسانا، وبذلك نصبح معه تلاميذ الله، يعلمنا بنفسه وينفخ فينا من روحه ونصبح مقدسين، ومتحولين كلية فيه، وأن الحياة الدنيا ستتحول إلي جنة " (6)
وهنا أيضا نقع علي أسباب الصراع بين "مونزر" الذي تشكلت فلسفته تحت تأثير أفكار "يواكيم الفيوري" والعقيدة الألفية، وبين المصلحين الدينيين خاصة " مارتن لوثر. فقد أفرغ لوثر الأفكار من مضمونها، بينما أكد "مونزر" علي مضمون الإيمان الذي لا يكون إلا في ممارسة "الفكرة" التي ترمز له، وحسب "مونزر": "فإن لوثر واحد من الذين لا يؤمنون إلا بحرفية الأناجيل!" (7) الهوامش
1- كارل مانهايم : الإيديولوجيا واليوتوبيا.. مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة : د.محمد رجاء الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الكويت 1981، ص : 263.
2- المرجع نفسه، ص : 263 - هامش (1).
3- Cohn. N : The Pursuit of The Millennium , Paladin Book , London 1972 , P. 108.
4- مانهايم : ص - 263 - 264.
5- أطلق أرنست بلوخ علي هذه اليوتوبيات اسم " اليوتوبيات الجغرافية " التي ظهرت مع عصر الكشوف الجغرافية.
6- مانهايم : ص - 268، هامش (1).
7- المرجع نفسه : ص - 266، هامش (1). dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
المدينة الفاضلة
رمضان عيسى -

الكل يحلم بمدينة فاضلة، ولكن مدينة يرسمها الناس ويشكلونها حسب ما يجدونه مناسبا أو متناسبا مع متطلباتهم ضمن هذا الزمان .فالمسيحيون الأوائل أوجدوا مدينة فاضلة نوعا ما في زمانهم ، والمسلمون الأوائل كذلك أوجدوا مثل هذه المدينة الفاضلة ، وفي هذا الزمان تحاول بعض الحركات الدينية أن تجذب الجمهور برفعها شعار المدينة الفاضلة ، أو جنة الأرض أو حكم الله ، ومعروف أنهذا غير ممكن بدون وصول هذه الحركات السياسية جوهرا الدينية شكلا الى الحكم .ولكن أى مدينة فاضلة تريد ؟ مدينة أفلاطون أم مدينة الفارابي أم مدن الفلاسفة والاٍصلاحيين الاٍجتماعيين ، أم المدن التي تتماهى مع المقدس . ومن المعروف أن لكل شعب مقدسه ، وكثير من الشعوب تسخر من مقدس الشعوب الأخرى ، وعلى مر التاريخ نرى أن حروبا كثيرة اشتعلت بسبب الاٍختلاف حول المقدس . حتى في داخل البلد الواحد هناك اٍختلاف للمقدسات . وهناك حركات سياسية ذات بعد ديني اٍعتمدت العنف في وسائلها لتحقيق أهدافها ,ان الاٍختلاف في المقدس استخدم كثيرا لاٍشعال الحروب بين الشعوب والتي دمرت الكثير من المنجزات الاٍنسانية والعمران البشري وأحرقت الكثير من المكتبات والتي كان لها أثرا كبيرا في اٍعاقة التطور التاريخي والاٍجتماعي لتلك الشعوب ، ولقد كانت الصراعات الدينية هي الأكثر تدميرا في حياة الشعوب ,