كتَّاب إيلاف

في الثورة والفورة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تعبير" ثورة " يلتقي في كل اللغات الأوروبية (وأوروبا هي مهد الثورات الحديثة) عند أصل واحد هو " الدوران ". وتعكس هذه الكلمة مفهومين هما التحرك والثبات، تحرك الشئ من موقع ما والعودة إليه ثانية، أو تحرك الشئ حول محور ثابت.
لكن ما سبب أو أسباب " الثورة "؟... طرح هذا السؤال - الذي يبدو بسيطا في ظاهره - على نطاق واسع في أواخر القرن التاسع عشر حين احتدم الجدل بين المؤرخين الفرنسيين حول أسباب ثورتهم عام (1789) إثر صدور كتاب "الروح الثورية قبل الثورة (1715 - 1789)" لفليكس روكان، وخلاصة ما طرحه الكتاب أن ثورة الشعب الفرنسي لم تحركها أفكار العدالة والمساواة، ولا كتابات فولتير وروسو ومونتسيكيو وغيرهم، بل حركتها مظالم فعلية صارخة: " لقد ثار الفرنسيون حين عض الجوع بطونهم وخوت أكياس نقودهم وألقوا مسئولية ضائقتهم على عاتق حكومتهم. فإذا شئنا أن نفهم حقا أسباب اندلاع الثورة، علينا أن نرجع إلى سجلات الحياة اليومية والحياة الاقتصادية.. وبمعنى أدق علينا أن نقصد سجلات (الشكاوى الرسمية) ".
ظل الرد على هذا الكتاب غائبا حتى عام 1906 عندما أصدر ماريوس روستان كتابه: " الفلاسفة والمجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر" وفيه أكد أن أفكار الفلاسفة ظلت تعمل أثرها داخل مجتمع يعاني من مظالم مادية، ووحدت صفوف الفرنسيين من أجل العمل علي نطاق قومي، فأفكار الفلاسفة هي التي ميزت بين القلاقل الفاشلة المبتسرة منذ عام 1715، وبين الثورة القومية الكبري الناجحة عام 1789.
ويلخص هذان الموقفان - إلى حد بعيد الخلاف الدائر برمته داخل الفلسفة بين المثالية والمادية، الذي بلغ ذروته في القرن التاسع عشر مع هيجل وماركس حول ما إذا كانت الأفكار هي العلة التي تدفع الناس للعمل أم الظروف المادية.
ويبدو أن الخلاف حول أولوية أي من الأفكار أم المصالح هي التي تحرك البشر، هو في جوهره خلاف عقيم، لأنه بدون أي منهما لن يكون ثمة مجتمع بشري حي وفعال بل لن يكون هناك تاريخ بشري.
وإذا كان ظاهر الأمر يوحي بأن الأفكار أو العقل أو الروح هو القوة القصوى وراء كل تقدم في التاريخ، فإن الأفكار لا تدفع الناس للعمل إلا إذا أحدثت لديهم إيمانا حيا، وليس مجرد إيمان خامل، أي نصف إيمان كما يحدث غالبا، وهي لا تستطيع أن تتحول من كونها مجرد فكرة إلي فكرة نؤمن بها ونعتنقها إلا إذا ارتبطت بحياتنا ومعاناتنا وطموحاتنا الفعلية.
وقد تنبه " كانط " مبكرا إلي هذه النقطة، وكان من المعجبين المتحمسين للثورة الفرنسية. ومن دلائل رجاحة عقله، كما لاحظ كاسيرر في كتابه " الأسطورة والدولة "، انه لم يعدل عن حكمه عندما بدت غاية الثورة الفرنسية كأنها قد أخفقت، حين أرتكبت أبشع الجرائم بإسم الحرية والإخاء والمساواة. فظل إيمانه بالقيمة الأخلاقية للأفكار التي عبر عنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن راسخا لايتزعزع.
وفي كتابه " الصراع بين الملكات " عام 1798، قال كانط: " مثل هذا الحادث لا يقتصر أثره علي الأفعال الحسنة أو السيئة التي قام بها الناس،... ان الثورة التي قام بها شعب بارع، وقدر لنا أن نعيش لنراها معرضة للنجاح أو الإخفاق. وهي قد تكون حافلة بمصائب وأحداث فظيعة، تدفع أي انسان خير إلي التصميم علي عدم إعادة هذه التجربة بمثل هذا الثمن الباهظ.
ورغم كل هذا فقد صادفت مثل هذه الثورة لدي جميع المشاهدين شعورا بالتعاطف اقترب من درجة الحماسة... لايمكن أن تنسي مثل هذه الظاهرة في تاريخ البشرية. فقد أثبتت احتواء الطبيعة الانسانية علي ميل إلي ما هو أفضل، واستعداد لبلوغه. وهذا أمر ما كان بمقدور أي سياسي أن يتنبأ به، إذا اعتمد علي تذكر الأحداث السالفة ".
لكن يبدو ان تعبير " ثورة " في اللغة العربية، يختلف عن معظم لغات العالم، فهو تعبير مشتق أصلا من الهيجان، مثل قولهم: ثار ثورا وثورة وثورانا أي هاج هياجا، أو قولهم ثارت الفتنة بين الناس أي اشتعلت، وأكثر ما يوحي به هذا التعبير هو الاضطراب والفورة.
كما أن " الحماسة " التي تحدث عنها كانط، وهذا الميل الطبيعي والإنساني لما هو أفضل، قد تم تفريغه من مضمونه إفراغا، و تبديده في الحياة الأخري وليس في الحياة الدنيا، علي اعتبار أن الآخرة أفضل وأبقي من الأولي.
ونجحت المؤسستان الدينية والسياسية علي امتداد القرن العشرين في تحويل "أنصاف الاعتقادات" عند الناس إلى "اعتقادات تامة "، وصار الميل إلى تطبيق التصورات الدينية، في جميع الأوقات وعلي كل الأشياء، مظهراً عميقاً لحياة التدين والقداسة.
وفي كل الأحوال أصبحت الحياة في هذه البقعة الساخنة من العالم، مشبعة بالدين أكثر مما ينبغي إلى درجة جعلت معظم الناس في خطر دائم، بسبب انعدام القدرة على التمييز بين الأشياء الروحية والأشياء الزمنية.
الأخطر من هذا أن بسطاء الناس أصبحت لديهم قابلية شديدة للفوران فجأة، إلى درجة لا مثيل لها من الانفعال الديني، ليس بسبب المظالم الفعلية،أوالقهر والمعاناة والفقر، وإنما نتيجة لكلمة متحمسة أو إشاعة مغرضة هنا، أومحاضرة ناقدة أو رسوم مسيئة هناك، وهو ما حدث ويحدث بالفعل في مختلف بلدان المنطقة.


أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
كانط علمنا
محمد فهد -

احترم مقالتك خاصة بأنك قلت ما قاله كانط!!

تعليق
ناطق فرج -

لقد استوقفتني، بعض الوقت، العبارة التالية: احتواء الطبيعة الانسانية على ميل إلى ما هو أفضل، واستعدادها لبلوغه. ربما تنطبق هذه الفلسفة أو هذه الرؤية على شعوب وقبائل العالم، إلا أنها لا تنطبق على العرب لسببين لا ثالث لهما. الأول، إنَّ طبيعة العرب (الانسانية) لا تميل إلى ما هو أفضل، إذ هم شعب قانع وقنوع بما لديه، إتكالي حد اللعنة وشعارهم هو: دوام الحال من المحال. السبب الثاني، ليس لدى العرب (الاستعداد أو الرغبة) لبلوغ ما هو أفضل. فما هو أفضل مما هم عليه الآن؟! والدليل القاطع على ذلك هو ما هم عليه من خنوع وذلّة وعدم قدرتهم على تحريك ساكن. مقالة جميلة جداً. شكراً لك يا استاذ.