مدننا العربية: مقابر أو مهاجع نوم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إن بعض علماء الاجتماع الغربيين ليسوا على خطأ عندما يطلقون على الحضارة الغربية المعاصرة تسمية "حضارة أوقات الفراغ". فمنذ الثورة الصناعية وظهور جدول ساعات العمل، و تحول المدن الغربية الكبرى إلى تجمعات "إسمنتية" محشوة بالبشر،أدرك الناس إن حياتهم ستتحول إلى جحيم حقيقي، إن هم ظلوا رهائن المحبسين: هدير آلات المصانع، ووحشة الأقفاص الإسمنتية التي يأوون أليها بعد انتهاء عملهم. وكلما كانت ثمار الثورة الصناعية تزداد وتتنعم بها قلة من القاطفين، كان السواد الأعظم من البشر يبحثون عن منافذ يعودون عبرها إلى آدميتهم الأولى، وحتى لا يتحولون إلى مجرد حمير معصوبة العيون، يجرون طاحونة دمارهم الروحي والجسدي. وقد بدأت تلك "الثورة المضادة" تؤتي أوكلها منذ بداية القرن التاسع عشر. ففي تلك الفترة بالذات شاعت في المدن الصناعية الكبرى موضة أعادة اكتشاف مؤلفات لكتاب دعوا إلى تبجيل الطبيعة والعودة إلى أحضانها من جديد، فبدأ إقبال شديد على قراءة مؤلفات الفيلسوف والزاهد المتصوف الأميركي ه.د. ثورو، صاحب كتاب (والدن، أو الحياة في الغابة)، ومؤلفات راسكين، وكاربنتر، ووالت وتمان وغيرهم.
ومع اختراع الدراجة الهوائية وشيوع استخدامها، كوسيلة شعبية رخيصة متيسرة لكل الناس، أصبحت الثورة "الطبيعية" تجد تطبيقاتها العملية اليومية إلى حياة الملاين من البشر. فقد قلصت الدراجة الهوائية المسافة الفاصلة بين المدينة والريف، وأضحى من الممكن، منذ ذلك الزمن، رؤية الناس وهم يمتطون دراجاتهم الهوائية، جماعات جماعات، ليقضوا أوقات ممتعة بعيدا عن صخب المدن وضجيجها، وبعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وضغوطها.
ووجدت الدراجة إقبالا متزايدا عليها من قبل النساء اللواتي وجدن فيها وسيلة للترويح عن النفس والتخفف، ولو قليلا، من الأعباء المنزلية اليومية. وقد وصل شغف النساء بالدراجة الهوائية إلى حد أنهن أطلقن عليها تسمية "آلة الحرية". وقالت رئيسة لجمعية نسوية في كتاب عنوانه (كيف تعلمت ركوب الدراجة الهوائية) صدر قبل أكثر من قرن، أي في عام 1895 بأن الدراجة الهوائية "حررت النساء أكثر من أي شيء آخر". ومع مرور الزمن، وبفعل المآسي والخيبات التي سببتها الحربان العالميتان،وما تولد عنهما من قناعات لدى الناس بأن عمر الإنسان قصير ومن العبث قضاءه في حروب عبثية، فأن الرغبة في استنشاق متع الحياة حتى الثمالة كانت تجد لها مؤيدين كثيرين. وأزداد هولاء عددا، وخصوصا في أوساط الطبقات الشعبية ذات الدخل المحدود. وبعد ظهور ما يسمى "دولة الرفاهية"، عقب الحرب العالمية الثانية، و"مجتمع الرفاهية"، وتقهقر "الدولة الحارسة، أو الدولة الجندرمة Gendarme state" تعززت "حضارة أوقات الفراغ"، وتنوعت بتنوع وبتعدد الهوايات التي استجدت، والتي ساهمت في تعزيزها وأشاعتها منظمات المجتمع المدني وازدياد الحريات المدنية. أين نحن في العالم العربي من كل هذا؟
نحن لم تصل إلينا هذه الرياح التي هبت على العالم، وما زلنا نضع بوجهها ألف مصدة ومصدة. نحن ما نزال نعيش تحت "رعاية" الدولة الجندرمة الحارسة، ونحيا داخل المجتمع "الحارس". وأنا أستخدم هاتين المفردتين لا بالمعنى الأكاديمي، ولكن بالمعنى المبتذل الواقعي الحقيقي المباشر: إن خرجت أنت وأصحابك إلى مكان عام، ترويحا عن النفس، استقبلك الشرطي مستفسرا عن أسباب هذا التجمهر، وإن يممت شطرك نحو حديقة عامة مع امرأتك استقبلك زميل الشرطي في المهمة، واعظ يتطوع لتكدير صفو عيشك بمحاضراته عن الفضيلة، وطرد الشيطان الثالث بينكما، ب" الموعظة الحسنة" أولا، وإلا فبعصاه، وهو في الواقع ينفس عن اعوجاج في طويته هو.
وعندما تعود خائبا نادما إلى بيتك، تجد بانتظارك " المثبطين": موسيقى هابطة تثبط روحك، ترافقها أصوات غنائية كحشرجات الموت تنطلق من أجساد خليعة عارية وكأننا في دكان لبيع اللحوم. وإذا رفضت هذا المثبط للعزيمة، فما من خيار آخر أمامك سوى أن تشاهد (البرنامج الأخر) فتستمع لمن يعظك على طريقة "كأنك تموت غدا"، فيحدثك عن لحظات الحشر في القبر، والأفاعي والعقارب التي ستنهشك يوم القيامة إن كنت امرأة سافرة، والاستعداد من الآن لتحضير كفنك، وكيف عليك كتابة وصيتك حتى لا يختلف أبنائك بعدك، وكيف تختر العبارات التي ستكتب على الشاهدة التي يضعونها على قبرك. وإذا نضبت جعبته في هذه المواضيع، اخرج من جيبه الأيمن مواضيع عن معاداة النصارى واليهود، والنساء السافرات، والشباب "المائع" (هكدا يضع الجميع في خانة واحدة)، ثم دعا إلى امتشاق السلاح والانخراط في مقاومة العدو دفاعا، حتى الرمق الأخير، عن الشرف في العراق ودارفور والشيشان وأفغانستان. وعندما تحاول الهرب و تختلي بكتاب يكون أنيسك في خلوتك، فأنك لن تحصد سوى الخيبة. فوفقا لتقرير اليونسكو في 7 شباط 2008، فأن هناك 28 عنوان كتاب لكل مليون من سكان العالم العربي، بينما يوجد 600 عنوان كتاب لكل مليون أوربي. وهذه ال28 كتاب المخصصة لمليون قارئ في العالم العربي، يتحدث أغلبها عن المطبخ والسحر وقراءة الكف، والتشجيع على ممارسة "التفخيخ" "الميسر" للشباب. ولهذه المثبطات لعزائم الناس ولحيويتهم ودفعهم للموت المبكر، تضاف الضغوط الاجتماعية الحادة، خصوصا فيما يتعلق بالنساء. والنتيجة هي ارتفاع حالات الانتحار وحالات الطلاق والتفكك الأسري في مجتمعاتنا العربية، تستوي في ذلك المجتمعات الفقيرة والمرفهة على السواء. ودونك ما تكشفه بحوث الأكاديميين وأصحاب الاختصاص. فقد أجرت، على سبيل المثال، السيدة سلوى الخطيب الباحثة في جامعة الملك سعود دراسة عام 2006، عن الناجين من الانتحار، فاستنتجت أن هناك 96 حالة تخص النساء، مقابل أربع حالات للرجال، وقالت الباحثة أن المستشفى الذي تعمل فيه كمستشارة يستقبل شهريا 11 امرأة في المتوسط حاولن الانتحار بسبب ما يعانين من اكتئاب حاد بسبب الضغوط الاجتماعية. وهذا ما نجده في اليمن، أيضا. فقد انتحر 292 من اليمانيين العام الماضي من أصل 473 حالة شروع في عملية الانتحار، مسجلة زيادة عن حالات الانتحار العام الماضي. وفي الجزائر فأن الانتحار بدأ يستهوي صغار السن، كما نقلت وسائل الأعلام إما حالات الطلاق فأنها تشهد زيادة مرعبة حقا في جميع المجتمعات العربية. إذ أوضحت مديرة وحدة الأبحاث في مركز الدراسات الجامعية للبنات، الدكتورة نورة الشملان أن معدلات الطلاق في السعودية ارتفعت من 25 بالمائة إلى 60 بالمائة خلال 20 سنة الماضية. وقالت زميلتها الدكتورة الجوهرة الزامل، من قسم الدراسات الاجتماعية، من خلال بحث أعدته أن 43 بالمائة من حياة الأسر والعلاقات الزوجية في السعودية قائمة على الإهمال والتجاهل والقسوة والخلافات الدائمة. وتزايد حالات الطلاق لا يقتصر على السعودية. ففي مصر سجلت عام 2004، 70 ألف حالة طلاق و90 ألف أسرة تتفكك. ويلي مصر في معدلات الطلاق الأردن. إما في دول مجلس التعاون الخليجي فقد وصلت حالات الطلاق إلى 47 بالمائة، وأعلى معدلاتها في الكويت حيث بلغت النسبة نحو 48 بالمائة والإمارات 26 في المائة، وفي دول المغرب العربي وصلت نسبة معدلات الطلاق إلى 25 بالمائة. ورغم هذه الحقائق المفزعة فما زلنا نكابر ونؤكد أن مجتمعاتنا العربية بخير. وإذا حوصرنا بالأرقام والإحصائيات، ألقينا مسؤولية كل ذلك أما على الغرب الذي يتربص بنا الدوائر، أو على عاتق الهاتف النقال والانترنيت، أو على الاختلاط داخل الجامعات. مجتمعاتنا العربية خاوية تنخرها العلل والعاهات الاجتماعية، لكننا لا نريد معرفة ذلك، ونظل نمارس هوايتنا المحببة، هواية الركض للأمام وتمثيل دور النعامة. مجتمعاتنا العربية بيضة مر وقت طويل عندما وضعتها الدجاجة فبدأت تفسد لكننا نصر إصرارا وبلجاجة لا تعرفها المجتمعات الأخرى، على وضعها داخل علبة أنيقة زاهية الألوان تسر الناظرين، لنخدع بها الناظرين وأنفسنا. هناك في المجتمعات الخليجية مثل شعبي تتدواله الفتيات، يقول "طار العيب بالطيارة". وهن يعنين التخلص من النقاب أو الجادور الذي يتسربلن به حالما تطأ أقدامهن الطائرة التي ستقلهن إلى خارج بلدانهن. و"رفع العيب" لا يعني، هنا، بأي شكل من الأشكال، التهتك والخلاعة والفساد الأخلاقي، أو الإلحاد، أو تهشيم المجتمع القائم واستبداله بين لحظة وضحاها بمجتمع أخر. إنه يعني التخفيف من وطأة القيود الاجتماعية المبوبة داخل خانة "قانون العيب"، مثلما يعني رفض الغلو والإفراط، والتكلف السخيف، والسماجة المضحكة في ممارسة التدين. وقد نكون جميعا قد شاهدنا ذاك الفيلم الذي تظهر فيه نسوة منقبات لا تظهر إلا عيونهن داخل مطعم أجنبي وقد شرعن في تناول وجبة (المعكرونة)، وكيف أن كل واحدة منهن تسارع، بطريقة مضحكة، إلى إزاحة النقاب عن فمها لتطعم نفسها خيوط (المعكرونة)، ثم تسارع إلى إسدال النقاب، وتعيد الكرة ثانية وثالثة ورابعة.
إن قانون العيب هو قانون وضعه البشر. وسيكون الإنصاف بعينه عندما نقول أن الفتيات العربيات حققن نجاحات باهرة تفوق زملائهن الذكور، عندما يبعثن للدراسة خارج بلدانهن. ويكفي أن نستشهد بمئات الطبيبات والمهندسات والمشتغلات في ميادين العلوم الاجتماعية ومختلف التخصصات الجامعية، اللواتي أنهين دراساتهن خارج بلدانهن وعدن وقد ازددن علما وأدبا وشرفا وخلقا وتدينا. إن العيب الحقيقي هو التفكك الأسري وما يخلقه من خراب روحي نتيجة هذه الزيادة المخيفة في معدلات الطلاق، والإقدام على الانتحار، والإدمان على المخدرات، وتشجيع العمليات الانتحارية التي تزهق أرواح المئات من بني البشر.
العيب الحقيقي هو المتاجرة بالدين. العيب الحقيقي هو الإساءة للدين، عندما يستخدم وسيلة لقتل الناس، ولخداع البسطاء. ففي الرابع من الشهر الجاري كشفت السلطات الأمنية السعودية عن شبكة تتكون من أكثر من خمسين شخصا مهمتها العلنية جمع التبرعات الخيرية من أهل الإحسان لمساعدة الأيتام والأرامل والمقعدين، لكن هدفها الحقيقي هو، مثلما أعلنت السلطات السعودية، تقديم المال لتنظيم القاعدة بأمر شخصي (في شريط مسجل) من أيمن الظواهري. وكأن الخراب والدمار الذي ألحقته القاعدة حتى الآن لا يكفي، فتتم الدعوة من جديد إلى جمع المزيد من المال لتدمير وتخريب ما لا يخرب ويدمر حتى الآن داخل المجتمعات العربية. ترى، ماذا لو تم توظيف هذه الأموال والجهود من أجل تبديد حال الاحتقان الاجتماعي داخل المجتمعات العربية، عن طريق بناء ملاعب رياضية ومسابح وحدائق عامة والقيام بسفرات جماعية؟
ماذا لو نظمنا سفرات جماعية متواصلة لأبنائنا وبناتنا إلى الصحراء، ليشاهدوا بعيونهم لحظات شروق الشمس وغروبها، ويتعلموا التأمل مع النفس والهدوء الروحي الذي توفره هذه اللحظات الرائعة، لحظات "الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس"؟
ماذا لو بنينا في كل حي مسبحا وخصصنا بعض الأيام للفتيات، كما في الحمامات الشعبية العامة؟ ماذا لو عملنا من أجل تحويل الفروسية وركوب الخيل إلى هواية شعبية يمارسها الجميع، إناثا وذكورا؟
ماذا لو افتتحنا مئات المقاهي الفاخرة وخصصنا بعضها للنساء وحدهن، إذا رغبن؟
ماذا لو جعلنا الرياضة والرسم والموسيقى والفنون بأنواعها من المواد الرئيسية في المناهج الدراسية؟
ماذا لو نظمنا سفرات متبادلة جماعية، مختلطة لمن يريد، ومقتصرة على جنس واحد لمن يرغب، بين مدننا العربية؟ نعم، ماذا يحدث؟ هل تصبح بناتنا عاهرات لو هن بللن شعورهن بماء البحر، حتى لو دخلن الماء بكامل ملابسهن ومع أولياء أمورهن، أو في مسابح مخصصة للنساء، أو مارسن الفروسية حتى بصحبة ومراقبة عائلاتهن، أو امتطين الدراجات الهوائية؟ هل سيصبح أبنائنا فجرة وفاسقين لو جعلنا من ممارسة الرياضة طقسا يوميا شعبيا لا تستقيم حياة الفرد إلا بتأديته؟ ألا نساهم في تقليل حالات الإحباط والكآبة واليأس والقنوط، عندما نشجع الناس على الخروج إلى الهواء الطلق وممارسة الهوايات التي تعجبهم، وترك الهموم اليومية المنزلية لسويعات؟ قبل أشهر شعرت بفرح حقيقي وأنا أشاهد شبابا بعمر الزهور من مدينة الفلوجة، وهم يتسابقون بالدراجات الهوائية، في أول فعالية رياضية عامة تشهدها المدينة، بعد أن حررها أهلها من سطوة القادمين من كهوف توروبورو الذين حولوها إلى مقبرة. كان الفتيان يمتطون دراجات علاها الصدأ ويرتدون أسمالا لا تمت بصلة للبدلات الرياضية المخصصة لهذا النوع من الرياضة. لكن تلك المسابقة، وأتمنى أن تكون الفتيات، أيضا، قد مارسن بدورهن رياضتهن المحببة، حملت أبعادا رمزية مؤثرة. إنها رسالة يبعثها هولاء الفتيان إلى أقرانهم داخل المدن العراقية، كل المدن العراقية، والمدن العربية، وإلى "المجاهدين" ووعاظهم في كل مكان ومن كل صنف ولون، يعبرون بواسطتها عن إصرار عميق بأنهم لا يريدون لمدينتهم أن تكون مقبرة، أو في أحسن الأحوال، "مهجع" للنوم. أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات
نبض الشارع
لحظة رواق -يا سيدي بينما اجلس في زنزانتي الاسمنتية هنا اطالع وللمرة الالف صفحات انترنت كنشاط حر اجباري ..أحسست و كأنك تتكلم بلسان حالي بالضبط .. اظن ان هناك حالة استياء عارمة و صحوة اجتماعية في كل المجتمعات العربية لأن الوقت حان للتغيير .. حان حان حان
A voice of freedom
Salem Wali-Ali -I can’t wait to read Hussain Karkoush again and again. It won’t take long before you feel the joy of seeing a new article published by Elaph. As he identifies the roots of our social, political, and existentialist issues in the Arabic and Islamic world, you almost immediately recognize the value of his analysis and the educational dimensions of his messages. This is a thinker that we are in a dire need for to emancipate ourselves and join in the celebration of freedom. Thank you Abu Nawras, again and again! You are a voice of freedom!
لا فائدة
اللبناني -على من تقرأ مزاميرك يا داود
الإمكانيات
محمد -بالطبع سوف يتسابق الأولاد على ركب البسكليتات..ولكن المشكلة هي توفر المواد والمكان (أندية)..أعتقد أن تقدم الأمم يكمن في نقط مهملة كالرياضة..الرياضة تعكس تقدم الأمم في معظم الأحيان يجب دعم الأندية الرياضية المحلية وخصوصاً في المدن المتوسطة والصغيرة