كتَّاب إيلاف

الليبراليون العرب بين الأمس واليوم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ليس مقبولا أن يقلد بعض المثقفين الليبراليين بعض شعراء وفناني الحداثة، من الذين يقولون بأنهم لا يكتبون الشعر أو الرواية أو النقد للناس، ولا يرسمون لوحاتهم أو ينحتون أعمالهم للجمهور، وبرأي هؤلاء فإن على الناس والجمهور أن يرتقي إلى مستواهم الرفيع، لا أن يحاولوا هم مخاطبة الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون.
الخطاب الليبرالي هدفه تحقيق مصالح الناس، أفرادا و مجتمعات ودول، من خلال تشجيعهم على التفكير العقلاني الحر، الذي هو قاعدة كل تقدم علمي وتقني وحضاري، ومن خلال تحفيزهم على التحرر من التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية، وبناء علاقات جماعية وسياسية قائمة على مبادئ المساواة والعدل والديمقراطية، ولا شك أن استفزازهم وتحقيرهم والاستهزاء بأوضاعهم ومعتقداتهم والتعالي عليهم ليس هوالسبيل الأمثل لإدراك هذه الأهداف، فالمحتقر لا يسمع ولا يتجاوب.
الخطاب الليبرالي خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن خطابا نخبويا كما هو في الوقت الراهن، بل كان خطابا شعبيا كاسحا، وكانت الأحزاب الليبرالية في مصر وسوريا ولبنان والعراق، وفي كل مكان في العالم العربي يعيش حياة ديمقر اطية، هي الغالبة انتخابيا، أما في الأقطار العربية التي كانت رازحة تحت نير الاستعمار، فقد كانت أحزاب الحركات الوطنية من قبيل "الحزب الحر الدستوري" في تونس، و "حزب الاستقلال" في المغرب، و"حزب الشعب" في الجزائر، أحزابا ليبرالية بامتياز.
على صعيد الرموز أيضا، كانت أغلب الشخصيات السياسية العربية الرائدة منذ أواخر القرن التاسع عشرة وحتى نجاح حركة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952، شخصيات ليبرالية عظيمة، من أمثال سعد زغلول باشا والنحاس باشا والحبيب بورقيبة ومصالي الحاج وعلال الفاسي وغيرهم، وكانوا بالنسبة لشعوبهم آباء لأمم و شخصيات محبوبة ذات شعبية كاسحة وسمعة لا غبار عليها.
لقد اشتغل الليبراليون الرواد في العالم العربي بأسلوب عقلاني وبرغماتي (وليس انتهازي)، كان مستوعبا للمرحلة التاريخية التي تمر بها شعوبهم، ومتفهما للحالة الاجتماعية التي تميز مخاطبيهم، متدرجا في نزعته الإصلاحية، جامعا بين الليونة والصلابة في آن، وبين الخصوصية الحضارية لأممهم والقيم الإنسانية التي يجب الاستفادة منها، ولهذا أنصت إليهم الناس وصدقوهم وساروا وراءهم في سائر المعارك التي خاضوها، داخليا وخارجيا، ثقافيا وسياسيا، وفي مرحلة مقاومة الاستعمار وساعة تحقيق الاستقلال.
لقد اتصل الخطاب الليبرالي العربي نظريا منذ نشأته، بعديد القضايا الجوهرية، كالحرية والإصلاح الفكري والسياسي والديمقراطية، غير أن ممارسة أجياله المتعاقبة قد اختلفت بشكل يكاد يكون متناقضا كليا، خصوصا بين جيل مطلع القرن العشرين وجيل مطلع القرن الواحد والعشرين، وهو ما جرى ترجمته على صعيد الشعبية، بين تيار ليبرالي كاسح الشعبية وتيار ليبرالي كسيح الشعبية.
كان جيل الليبراليين العرب مطلع القرن العشرين قائدا لمعارك التحرر الوطني في نظر الناس، بينما تحول جيل الليبراليين العرب الجدد مطلع القرن الواحد والعشرين - في نظر الناس دائما- إلى مروجين لعودة الاستعمار ومنظرين لتبعية أمتهم للغرب، بقطع النظر عن مصداقية هذه النظرة من الناحية الواقعية.
وكان جيل الليبراليين العرب منذ القرن التاسع عشرة، طلائع التجديد الديني الإسلامي، حيث كانوا يقدمون أنفسهم إلى الناس كفقهاء مجددين، يرون في غيبة الإسلام الصحيح (الليبرالي) المكتنه لقيم الحرية والعقلانية والمساواة سببا في تردي أوضاع المسلمين، وليس الحال كما هو في الراهن، حيث يصور الليبراليون الجدد أعداء للإسلام وسعاة لنقضه وتدميره.
على صعيد العلاقة مع الغرب، كان الليبراليون العرب الأوائل قادة لمقاومة نزعاته الاستعمارية، يفرقون تماما بين نهضته العلمية والسياسية التي يجب أن يستفاد منها، وبين توجهاته الامبريالية والقومية، التي تتناقض أصلا مع القيم الليبرالية، والتي يجب التصدي لها، انطلاقا من إيمان عميق بحق الشعوب - كل الشعوب- في تقرير مصيرها وبناء دولها المستقلة.
بالعودة إلى سيرة الزعماء الليبراليين، يبدو تاريخ الرئيس بورقيبة مثالا يحتذى، فقد كان الزعيم التونسي أول من خرج في مظاهرة أوائل ثلاثينيات القرن العشرين في مظاهرة شعبية عارمة اقتحمت على علماء جامع الزيتونة مجالسهم، احتجاجا على تعدي السلطات الفرنسية على حجاب المرأة التونسية، باعتباره في ذلك الوقت أحد رموز الهوية الوطنية، كما كان أول من سعى إلى استصدار فتوى تحرم على التونسيين التجنس بالجنسية الاستعمارية، وأخرى تحرم دفن المتجنسين في مقابر المسلمين، في حين كان هو نفسه من دعا المرأة التونسية مطلع الاستقلال إلى التحرر من كل القيود التي تحول بينها والانخراط في مجتمع الحداثة، وهو من دعا علماء الزيتونة إلى مساعدته من خلال فتاوى ثورية إلى تحقيق كافة الإجراءات الإصلاحية المعروفة، والتي تفتخر تونس اليوم بآثارها.
زعماء ليبراليون آخرون، من الجيل الرائد، جمعوا في سيرهم بين مقاومة المستعمر وبناء الدولة الحديثة، و عرفوا كيف يفرقون بين قناعاتهم الشخصية التي لا تهم غيرهم في بيوتهم وخاصتهم، وبين معتقدات شعبوبهم التي يجب أن تحترم وتصان ما دامت لا تحول دون تحقيق الأهداف الوطنية، فقد كان الأهم لديهم على سبيل المثال، أن تمارس السياسة باعتبارها قرارا بشريا مسؤولا لا نيابة إلهية مقدسة، ولهذا لم يعبأ هؤلاء الزعماء بالمصطلحات بقدر ما كانوا مهمومين بالتطبيقات، فالأهم من "العلمانية" ككلمة إقامة النظام السياسي على أساس إنساني عقلاني.
لقد كان قادة التيار الليبرالي العربي يشعرون بمسؤولية تجاه العناصر المكونة لهوية شعوبهم، ولهذا فقد أدركوا أهمية أن لا يترك الإسلام مثلا للتأويلات الرجعية المتخلفة أو للتفسيرات الحرفية والظاهرية المتطرفة، وذلك من منطلق اختلاف مسارات التاريخين العربي والغربي، ومكانة الدين المغايرة في كل منهما، و أهمية التفريق بين أولويات المجتمعات العربية والغربية.
إن التيار الليبرالي العربي، كسائر التيارات الفكرية والسياسية العربية الأخرى، متعدد و غير متجانس، غير أن أخطر التحديات المطروحة عليه حاليا، هو وقوعه تحت تأثير الجناح الأكثر تطرفا فيه، فليس أكثر إساءة للفكرة الليبرالية من بعض الليبراليين، وليس أكثر تشويها للبرنامج الليبرالي من خطاب بعض المثقفين الليبراليين.
وثمة في هذا السياق خلط لا بد من تبيينه لليبراليين قبل غيرهم، ف"العقيدة اللادينية" التي يعتنقها بعض الليبراليين العرب، هي "دين" كغيرها من الأديان، وإذ كان الليبراليون في العالم العربي يرون أنه لا مجال لبناء دولة ديمقراطية ناهضة دون الفصل بين الدين والسياسة، وبالتالي جعل الإسلام دينا للمجتمع لا دينا للدولة، فإن بعض هؤلاء الليبراليين يصورون أنفسهم وبرامجهم وكأنها مخططات لكي تكون عقيدتهم الدينية "اللادينية" العقيدة الرسمية الجديدة لدولهم، مقدمين للتيارات الإسلامية المتشددة كل الحجج على أن الليبرالية ليست في حقيقتها سوى مؤامرة غربية على الإسلام.
إن بعض الليبراليين العرب، من الذين يصرون على إعلان وجهات نظرهم الذاتية، وأحيانا أحقادهم الشخصية، حيال بعض القضايا بالغة الحساسية، كمكانة الإسلام في النظام السياسي، والعلاقة مع الغرب، دون مراعاة لطبيعة الموقع الذي يتحدثون من خلاله، ودون فهم حقيقي لطبيعة مجتمعاتهم والأولويات المطروحة عليها، إنما يوجهون لليبرالية إساءات ويلحقون بها أضرارا، أكثر مما يفعله بها أعداؤها..ليس أقسى من أن تفهم في بيئتك خطأ.


أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رأي ناضج
أحمد -

هذا المقال أنضج ما قرأت للكاتب، وهو ;نصيحة متوازنة وفيها الكثير من المسؤولية.

الاِختراق
الفاهم -

الشيوعيون العرب كانوا مخترقين من الحركه الصهيونيه !ذلك ماتأكد بما نشرالان !.. فمن يخترق الليبرالين الجدد !؟ اعتقد واضحه ...ولن ننتظر فشبكه الانترنيت للمعلومات بها الكثير

اين هم من الاباء !!؟
اِبن بلد -

اين هم من مصطفى النحاس باشا ؟ ذلك الرجل البركه والمحسوب على الصوفيه. بل ان اباء الليبراليه والعلمانيه بمصر تمسكوا بالاسلام دينا بالدستور 23ومصر لم تنفرد بالأخذ بمبادئ الشريعة الإسلامية في التشريع الوضعي، حيث تأثر بها الفرنسيون عندما احتلوا مصر قبل الإنجليز فأخذوا بمبادئ الشريعة في القانون المدني، كما أوضح الدكتور السنهوري في الوسيط في القانون المدني.

شتان بينهما ....
عبد البا سط البيك -

المثير جدا في مقال السيد خالد شوكات مقارنته بين من يسميهم الليبراليون الرواد الذين قادوا حركة التحرر من الإستعمار و بين من يسمون أنفسهم بالليبراليين الجدد . لا أدري كيف يمكن أن نجمع بين فئتين مختلفتين في المنهج و الفكر لتحقيق هدف مشترك حسب ما يراه السيد شوكات . هل كان علال الفاسي مثلا بفكره و مؤلفاته يدعو الى التغرب أم يدعو إلى الرجوع الى الإسلام ..؟ هل يتطابق فكر علال الفاسي مع فكر أي تلميذ عربي من تلامذة اليمين ؟ السيد شوكات يريد أن يضع فرضية من عنده و هي مساواة الفئتين في الفكر و المنهج كي ينال عطف القارئ و يبعد عن نفسه صفة العمل لصالح ثقافة و فكر تغريبي بحت . ما كان يؤمن به سعد زغلول و النحاس باشا و مصالي الحاج لا يمت بصلةلليبرالين المعاصرين الذين باعوا أقلامهم و أجروا فكرهم لخصوم الأمة ..

رحم الله بورقيبة!!00
كركوك أوغلوا -

سننتظر نصف قرن أو أكثر, ليظهر بورقيبة جديد !!00وهو الذي حرر المرأة التونسية قبل أكثر من نصف قرن !!00ولاتزال المرأة في تونس تنال من حقوقها المدنية أكثر من أخواتها في بقية البلدان العربية , بل العكس أن المرأة هناك بدأت تفقد ما حصلته بنضالها الطويل , ففي العراق خسرت حقوقها المدنية بنضال خمسون سنة مضت , بجرة قلم من أصحاب العمائم في مجلس الشورى العراقي وبتأييد من محجباتها البرلمانيات (الذين وصفهم أمير الدراجي :- يلبسن الزنزانة ويجلسن في مقاعد الحرية )؟؟!!00الرجاء النشر للمرة الرابعة , وشكرا

شكرا لأيلاف الغراء!!
كركوك أوغلوا -

لذا قررت الرجوع عن قراري للأمتناع عن المشاركة في الرود كالعادة أعلاءا لحقوق الأنسان والمرأة في الحريات الشخصية وحرية الأعتقاد والرأي وبالمرصاد للظلاميين والأخوانجية ؟؟!!00