كتَّاب إيلاف

الابداع في نقد غرامشي للدين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"ان نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد" (كارل ماركس)
ساد اعتقاد لدى عامة الناس في الثقافة العربية أن الجدلية المادية عند ماركس تتناقض جوهريا مع الدين وأنها تنشر الالحاد والاباحية أو على الأقل تعتبره مسألة شخصية لا يجوز اقحامه في معترك الحياة السياسية وهذا الأمر لا توجد حوله كتابات كثيرة وظل قضية خلافية ومسألة يمكن مراجعتها، والاشكال الذي يطرح هنا يتمثل في مدى استطاعة غرامشي تجاوز النظرة التقليدية لماركس للدين كزفرة لمخلوق مضطهد وأفيون للشعب وتقديم هذا الفيلسوف الايطالي الذي واجه بشجاعة كبيرة النظام الفاشي الشمولي لموسيليني نظرة ايجابية عن الكاثوليكية؟
ما يبرر الاهتمام بغرامشي هنا هو قراءته العقلانية للظاهرة الدينية وتوظيفه اللامع لكلام ماركس عن "صلابة المعتقدات الشعبية" وقوتها باعتبارها عقائد عضوية ضرورية تاريخيا وصحيحة نفسيا لأنها ّتتدخل في تنظيم الكتل البشرية وتشكل الأرض التي يتحرك عليها البشر ويعون مواقفهم ويناضلون"[1]، ولكون هذه المعتقدات من العناصر التي تتكون منها الثقافة الوطنية ويمكن توظيفها ثوريا من أجل بناء المشروع المجتمعي المستقبلي وتمييزها عن العقائد التحكمية التي تؤدي وظيفة رجعية وتخدم الطبقة المهيمنة وتقتصر مهمتها على اتاحة الفرصة لبروز حركات فردية ومجادلات عقيمة.
هل تتمثل مهمة الفيلسوف الديمقراطي الذي ينظر لوجوده غرامشي في الفضاء العمومي في مقاومة النزعة الإيمانيّة (الاعتقاد) والضياع الديني (الإلحاد) في الآن نفسه؟ ماذا يقصد غرامشي بكلمة الروح عندما قال:"لا يمكن الكلام على الروح في مجتمع منقسم الى فئات دون استنتاج ضروري"؟ وهو يرى أن المقصود بذلك هنا هو روح الكتل الاجتماعية "أما بعد تحقيق وحدة المجتمع فيمكن الكلام على الروح ( في اطمئنان)"[2].
هذا الكلام هام وبثير العديد من النقاط خاصة حول قضية المادة بماهي مبدأ فلسفة غرامشي فها نحن نراه هنا يصل الى مبدا آخر هو الروح في ظل محتمع لاطبقي.فالى أي مدى يستقيم هذا الكلام؟
يطرح غرامشي سؤال مهم آخر هو: هل يجب على انسان الشعب أن يبدل معتقداته اذا كان لا يعرف كيف يدافع عن موقفه في النقاش؟ والجواب عنده هو أن تعمل فلسفته على رفع المستوى الفكري للجمهور واصلاح فلسفة الطبقات الشعبية وتكوين حس سليم يتصف بالقدرة على الاقناع والتأثير.
لذلك هو يحاول هنا أن يصلح الكاثولوكية وخاصة اصلاح تصورها للانسان الذي تضع في فرديته سبب الشر.فكيف تمكن من النظر الى الدين نظرة ايجابية في ظل اخضاعه الى النقد ومناداته بعلمنته وفي ظل دعوته الى توظيفه اجتماعيا طالما أنه يمتلك قيمة سياسية وليس قيمة فلسفية؟
زد على ذلك الانتباه الى إسقاط المترجم العربي ميخائيل إبراهيم مخول الذي نشر الكتاب ضمن سلسلة "أصول الفكر الاشتراكي" منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 لبعض نصوص غرامشي حول علاقة الدين بالسياسة والثقافة وخاصة فصل الدلالة اليوطوبية للدين[3] وفصل أخر حول "الحس السليم والأديان" سأقوم باستنطاقه ذكر فيه غرامشي أن العناصر الأساسية التي يتكون منها الحس المشترك هي الأديان أكثر من النسق الفلسفي للمفكرين ودعا الى التمييز النقدي بينها ورأى كل دين بما في ذلك الكاثوليكية يمكن أن يتشعب الى عدد غير محدود من الأديان المتميزة والمتعارضة أحيانا، اذ هناك كاثولكية الفلاحين وكاثوليكية البرجوازية الصغيرة وعمال المدن وهناك كاثوليكية النساء وكاثوليكية المفكرين وهي خليط من اتجهات ونزعات متعددة وتفتقد الى الوحدة. غير أن أنواع الكاثوليكية التي تهيمن على الحس المشترك ليست الصور الأكثر انتشارا وبلورة بل ان الذي يلعب دور المحدد للحس المشترك هي الصور السابقة والموروثة والهرطقات والنزعات التجديدية والثورات العلمية المرتبطة بديانات الماضي. ان الذي يهيمن على الحس المشترك هي العناصر الواقعية المادية التي هي انتاج مباشر للاحساس وهو أمر لا يتعارض مع العنصر الديني بل بالعكس هي عناصر اعتقادية وخارج مجال النقد Acritique.[4]
لابد من رصد مجموعة من الملاحظات التي يبديها غرامشي تجاه مسألة الدين وفهم الأسباب والمغزى التي جعلته يعطي للظاهرة الدينية معنى ايجابيا:
*أولا تشبيهه لعلاقة ماركس ولينين بعلاقة اليسوع وبولس،فاذا كان عمل ماركس قد انصب في اتجاه انتاج تصورات جديدة للعالم تغذي الثقافة في حقبة تاريخية معينة فان دور لينين تمحور حول الانتقال من الطوباوبة الى العلم ثم الى العمل بأن تحققت فلسفة ماركس كنظرية مطبقة مدعوة الى أن تكون دولة، وبالمثل اذا كان المسيح هو الواضع لتصور العالم فان القديس بولس هو المنظم والمحقق والناشر لهذا التصور.
*لا سبيل الى حياة دون فلسفة ولكن لكي تصل الفلسفة الى كل الناس لابد ان تتحول الى فطرة سليمة وحس مشترك لان الفلسفة عند الجمهور لا يمكن ان تكون الا ايمانا، هنا يدعو غرامشي الى ضرورة الانطلاق من الفلكلور واحترام مكونات الثقافة الوطنية وبما أن الجمهور له مجموعة من المعتقدات الصلبة فانه يجب نقدها من أجل بناء حس عام جديد يتم تأصيله في وجدان الجمهور بقوة المعتقدات التقليدية وعن طريق صلابة الأراء الدينية وقدرتها على التأثير والاقناع والتجميع.
وبالتالي لايجب أن نتعامل مع المعتقدات من وجهة نظر صحتها أو خلوها من الحقيقة الواقعية باعتبارها نوع من الميتافيزيقا بل يلزم أن ننتبه الى وظيفتها الاجتماعية ونجاعتها السياسية في الضبط والتأطير.
bull; يؤكد غرامشي على أن دخول الفلسفة الجديدة في معركة مع اللوحة العقائدية القائمة يؤدي حتما الى الخسارة واضعاف لماهو جديد ويقترح احداث حركة تقدمية ذات ايقاع بطيء وممنهج داخل المعتقدات الدينية التقليدية تهدف الى التعامل مع معطيات المقدس والايمان وفق مقتضيات العلم والفلسفة.
bull; يقول غرامشي حول هذا الموضوع:"لقد قامت قوة الديانات وخصوصا الديانة الكاثوليكية في الماضي والحاضر، على شعورها القوي بضرورة الوحدة في العقيدة عند الجمهور الديني كله وعلى نضالها في سبيل الحيلولة دون انقطاع الطبقات المتفوقة فكريا عن الطبقات الدنيا".[5]
اذا كانت الثورات الثقافية الواعدة هي التي تقطع مع الاهتمامات الفكرية الضيقة للنخب وتتجه نحو الجمهور وتقيم روابط عضوية مع الناس فانه من المنطقي أن تعول على صلابة المعتقدات الشعبية وديانة الجماهير ختى تتمكن من التغلغل والانتشار.اذ صحيح أن الدين من حيث الحقيقة الابستيمولوجية هو فلسفة طفولة البشرية ولكنه من حيث مقامه الوجودي لا يتناقض بالضرورة مع وظيفة ثورية ممكنة. وصحيح أن الموقف العقلاني يقتضي القيام بعلمنة جذرية للمقذس وخلع لللأسطرة عنه ولكن ذلك لا يمنع من استخدامه من أجل تمتين اللحمة الاجتماعية والتماسك النفسي للانسان. ألم يقل ماركس في هذا الاتجاه:" موقف الدولة من الدين، الدولة الحرة خاصة، انما هو موقف الناس الذين يشكلون الدولة من الدين وحسب." [6]
يترتب عن ذلك أن نقد المجتمع والاقتصاد والثقافة لن يتحقق ويصل الى مبتغاه الا بعد القيام بنقد للدين وتحييده عن التوظيف الرجعي والرأسمالي واكتشاف أبعاده العقلانية وطاقته الثورية. فماهو دور الفلسفة في تفجير هذه الثورة الثقافية؟ وألا يتطلب الأمر وثبة جدلية من النظر الى العمل وصعود من النقد الى البراكسيس؟ أليس الإبداع الحقيقي هو الفعل المغير لوجه التاريخ؟ * كاتب في ميدان الفلسفة [1] جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة الإرشاد القومي دمشق 1973 ص217
[2] جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 ص200
[3] Jacques Texier Gramsci et la philosophie du marxisme
[4] Le sens commun et les religions : " les elements principaux du sens commun sont fournis par les religions et par cosequent le rapport entre sens commun et religion est bien plus etroit qursquo;entre sens commun et systeme philosophique des intellectuels. Mais pour la religion aussi il faut distinguer critiquement . toute religion , meme la religion catholique ( disons meme surtout la religion catholique , si on pense agrave; ses efforts pour sauvegarder son uniteacute; superficielle, pour ne pas se fragmenter en eglise nationales et en stratifications sociales) est en reacute;aliteacute; une pluraliteacute; de religions distinctes et souvent contradictoires : il ya un catholicisme des paysans, un catholicisme des petits-bourgeois et des ouvries de la ville , un catholicisme des femmes et un catholicisme des intellectuels lui aussi bigarre et depourvu drsquo;uniteacute;. Mais sur le sens commun, nrsquo;influent pas seulement les formes les plus grossies et les moins elaboreacute;es de ces differents catholicismes,
actuellement existants : on eu egalement leur influence et son composante de lrsquo;actuel sens commun les religions preacute;ceacute;dentes et les formes preacute;ceacute;dentes de lrsquo;actuel catholicisme, les mouvements heacute;reacute;tiques populaires, les supertitions scientifiques qui se rattachent aux religions passeacute;es etc. Dans le sens commun predominent les elements reacute;alistes materialistes, crsquo;est-agrave;-dire le produit immeacute;diat de la sensation brute, ce qui drsquo;ailleurs nrsquo;est pas en contradiction avec lrsquo;element religieux, bien au contraire, mais ces elements sont superstitieux, acritiqueshellip; " Jacques Texier Gramsci et la philosophie du marxisme Ed Seghers paris 1966 p108
[5] جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 ص155
[6] كارل ماركس حول المسألة اليهودية ترجمة د نائلة الصالحي منشورات الجمل كولونيا ألمانيا الطبعة الأولى 2003ص 17-19

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
أبو سفيان -

أود أن أشكر الأستاذ خويلدي على هذه الخلاصة الفكرية الكثيفة، التي تناولت مفكر عميق من طراز غرامشي ، خصوصا في وقتنا الراهن( الذي تتحكم به سطحية هنتنغتون، وبلاهة بوش ، وسذاجة وعقم الأصوليات الدينية) ..أجد أن أفكار غرامشي ، هي رسالة مزدوجة إلى كل هؤلاء ،وبالأخص للفقاعات الليبرالية العربية، (كتاب البترودولار البدوي)وليسمح لي الكاتب بتأمل أفكار غرامشي وصياغة أهم مقولاتها : رغم أن الدين ( أبستمولوجيا ) هو طفولة بشرية، لكنه يشكل حس مجتمعي مشترك ، لاينفعل بمقولات الفلسفة بقدر ماتحركه، وتضبطه ( التصورات الشعبية للدين، وتداعياتها المادية).الدين عموما ( هو توليفة لأديان عديدة وهرطقات ،وعناصر بيئية ثقافية إجتماعية ( سابقة للدين نفسه) وبهذا فإن ا الإسلام كالمسيحية( إسلامات عديدة) تكونت على موروث ما قبل إسلامي وتحكمت به( تصورات هومسيحية ، وتراث عصر الأباء ( اليهودي )الصحراوي، وقسوة العطش ،ثم التراث الكتابي لوادي الرافدين وسوريا، وتجليات الحضارة الساسانية وأثرها( على تطور بنيته السياسية فيما بعد ). غرامشي لم يكرر المقولة الببغائية المرتجلة ( فصل الدين عن الدولة) ، إنماأشار إلى أولية نقد الدين (لماركس) وصولا إلى تحييده ، وإنتزاع عصا القيادة منه أو إستثمار ( سلطته بإعتباره روح للمجتمع لإذكار مبادئ العدل الإجتماعي، ومحرك لثورة المستضعفين ؟ أخيرا، أتساءل بجدية ( عن جدوى هذا الخطاب ) ، وعن إمكانية تمثله في حياتنا العربية، التي مازلت تقدس ( أصنام التاريخ )وتتمسح بالأحجارـ وتتبارك بأكفان الموتى.. أم أننا على بوابة يوم قادم، نقول فيه بدل غرامشي ( غرامشي عليه السلام ؟؟ )ملاحظة : أرجو من المحرر الكريم نشر التعليق بالكامل أو حذفه بالكامل ، وفي كلا الحالتين أكون من الشاكرين