تحذيرات لم يصغ إليها أحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
والدولة لا تختلف عن مجتمعها: لا هي دولة فدرالية لكنها فيدرالية يتمتع داخلها إقليم كردستان بوضع فيدرالي. هي دولة برلمانية يفترض أن رئيس البرلمان فيها يحتل الموقع الثالث بعد رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، لكنه يعزل أو يكاد أن يعزل على أثر مشادة شخصية بسيطة بين حراسه وبين أشخاص آخرين. هي دولة مركزية لكن سلطات المحافظات تتجاوز أحيانا سلطة المركز، والمحافظون يشتمون الحكومة المركزية علانية. هي دولة يحارب جيشها المليشيات ويعتبرها خارجة عن القانون، لكن هذا الجيش نفسه يتألف من أعداد كثيرة من أفراد المليشيات. هي دولة تسير على هدى تسلسل وظيفي مثلما بقية دول العالم، لكن المواطن فيها لا يعرف أيهما أهم، على الأقل من الناحية البروتوكولية، رئيس الجمهورية أم رئيس الوزراء؟ رئيس وزراء المركز أم رئيس إقليم كردستان؟ رئيس البرلمان في بغداد أم رئيس الوزراء في أربيل؟ هولاء كلهم مجتمعون أم المراجع الدينية؟ هي دولة تنفي نفيا قاطعا أي تدخل لإيران في الشأن العراقي، لكن مسؤولين رسميين كبار فيها لا ينفكون يتحدثون عن التدخل الإيراني، والدولة نفسها تستضيف على أراضيها وبموافقتها الرسمية لقاءات إيرانية أميركية تهدف إلى استتباب الأمن داخل العراق. فإذا كانت إيران لا تتدخل، لماذا إذن هذه اللقاءات؟ وعلى مستوى الأداء السياسي والحزبي، فأن الجميع، دون استثناء، يلعن الطائفية ويستنكر المحاصصة الطائفية، مع ذلك فأن مجرد تغيير وزير واحد يحتاج إلى جهد لا يبذل حتى لو كان الأمر يتعلق بشن حرب عالمية ثالثة. الجميع يدين ويشجب الفساد الإداري ونهب أموال الدولة، لكن هذا الفساد والنهب مستمران بتصاعد لا مثيل له في كل دول العالم، بل هو يزداد كلما تزايدت عمليات الإدانة والشجب من قبل الساسة والمسؤولين العراقيين وكأن ما يحدث يدور على سطح المريخ، أو كأن المفسدين واللصوص أشباح هبطت من القمر. الجميع، وأولهم قادة الأحزاب السياسية النافذة يتحدثون عن العراق الديمقراطي وعن حرية الصحافة، لكن حالما تأتي رياح الحرية والديمقراطية بما لا تشتهيه سفن هولاء القادة، طالبوا بإغلاق الصحف والقنوات التلفزيونية، وعدوها "وسائل تحرض على العنف" وتشوه الواقع، وكأن العنف لا وجود له، وكأن التحريض من اختصاص الصحافة وحدها وليس أغنية تتردد على ألسنة السياسيين مليون مرة أكثر مما تتردد في وسائل الإعلام. جميع الأحزاب والقوى السياسية تدين وجود المليشيات وتطالب بحلها، لكن عندما يصار الأمر إلى حل هذه المليشيات فأن كل حزب من هذه الأحزاب يقول إن وصف المليشيات لا ينطبق على تلك التابعة له، لأنها مليشيات "عقائدية". إنها شيزوفرينيا جماعية بامتياز لكن المصيبة الحقيقية هي أننا جميعا، أفرادا وجماعات ودولة نرفض وجود حال الانفصام هذه، ونصر إصرارا لا حد له على أننا وحدنا العقلاء والحكماء وأصحاب الآراء السديدة الحصيفة، وغيرنا هم المرضى، وإننا قاب قوسين أو أدنى من دولة القانون والمؤسسات.
المصيبة الحقيقية الأخرى هي أن هتك القانون وإهانة المواطن والتشهير به تتم برعاية الدولة نفسها، حامية القانون، وبدون أي حد أدنى للمروءة والشهامة والغيرة البشرية. وإذا أردنا الحديث في هذه القضية بالذات فأن الحديث يطول ويطول ولا ينتهي. يكفي أن ننظر إلى هولاء العراقيين من كل الطوائف والنحل وفي جميع مناطق العراق الذين يساقون كما الدواب، بعيون معصوبة وأيدي موثقة إلى الوراء، يجلسون القرفصاء، وقد شهرت على رؤوسهم البنادق، وعرضتهم شاشات التلفزيونات المملوكة للدولة. هل يجوز هذا؟
إن هولاء بشر، أولا، ومواطنون عراقيون، ثانيا، وأسرى لا حول لهم ولا قوة، ثالثا، ومجرد متهمين لم تثبت التهمة عليهم، رابعا. ولأنهم كذلك فأن حقوقهم يجب أن تكون نفس حقوق أي مواطن أخر يجلس في بيته أو يزاول عمله أو نشاطه السياسي. بالطبع، قد يكون بين هولاء من أرتكب جرائم تقشعر لها الأبدان، بل قل فيهم من هولاء أعداد كثيرة ويستحقون أقصى العقوبات، لكن هذه الجرائم يحددها القانون وحده وليس رغبات الشرطي الموكل بهولاء المتهمين، ولا يحق لكائن من كان، ولأي غرض مهما كان، أن يمتهن كرامة إنسان ويجعله فرجة على شاشات التلفزيونات أمام الملأ، بل أمام أطفاله وأهل بيته قبل الملأ؟
وقد وصلت الأمور في "زمن العنكبة والشقلبة والجندبة" أن تسقط المروءة كاملة، سعيا لتحقيق أغراض سياسية عابرة، ولكن بوسائل نذلة ومنحطة.
أمس شاهدت كما شاهد الملايين من الناس، على الانترنيت، امرأة عراقية (يحاورها) محقق قضائي، سائلا إياها أن توضح له علاقتها مع أفراد مليشيات جيش المهدي. واستطاع المحقق (القانوني) أن يحصل منها على اعتراف بأنها كلفت أحد أفراد هذه المليشيات أن يقتل زوجها لخلافات شخصية بينهما، ولقاء ذلك وافقت أن تضاجعه لمرتين. المرأة هذه متزوجة، وقالت، ردا على استفسار المحقق (القانوني)، أن لها أربعة أولاد. هل يجوز هذا التصرف من قبل رجال دولة مكلفين بحماية القانون وصون كرامة المواطن؟
قد تكون اعترافات المرأة صحيحة كلها، وقد لا تكون، لكن هذه الاعترافات يجب أن تبقى طي الكتمان وداخل الأضابير الرسمية. هذه المرأة عراقية، أي أنها تعيش في مجتمع شرقي محافظ له عاداته وتقاليده وأعرافه الخاصة به. فبأي قوانين مدنية وشرائع سماوية ومذاهب ومدارس فقهية، وبأي أعراف وعادات وتقاليد وأخلاق وقيم عراقية تذاع اعترافات كهذه على الملأ؟ وما هي المصلحة العامة وراء نشرها؟ لهذه السيدة أطفال أربعة كما قلنا، وقد يكون لها أشقاء وأب وأم وأقارب. ماذا سيكون موقف أطفالها عندما سيواجهون غدا زملائهم داخل المدرسة، وقد شاعت اعترافات أمهم؟ تخيلوا مصير هولاء الأطفال الأبرياء وقد حكم عليهم (القضاء) العراقي بالإعدام الاجتماعي دون أي جريرة ارتكبوها. فإذا لم تكن هذه انتهاكات لحقوق الإنسان فكيف تكون الانتهاكات، إذن. وإذا لم تكن هذه هي النذالة السياسية والأخلاقية بعينها فماذا تكون. نحن نعرف أن لا صدى لأسئلتنا هذه، وستبتلعها صيحات الصناديد. وسيقول هولاء الأبطال، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن القضايا الكبرى: "ما لنا والتوقف أمام صغائر الأمور. البلد يحترق من أدناه إلى أقصاه، وأنتم لا هم لكم إلا التوقف عند صغائر الأمور، والتصيد في الماء العكر، وإحصاء الهفوات". هفوات وصغائر؟ إذا ظل انتهاك حق الإنسان، وهتك خصوصايته، والمتاجرة بمحنته، بمثابة صغائر وخزعبلات لا أكثر، فليس ثمة أمل" للأمل.
التعليقات
رائع!
محمد علي حسين -استاذ حسينرائع كالعادة واذا كنت اعتب عليك بشيئ فهو انقطاعك عن قراءك فترة كانت بالنسبة لنا طويلة
ثوار ام ؟
متابع -العراق ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة هو (بلد الثورة الدائمة) بفضل مثلث الاصولية السياسية... قاعدة هذا المثلث أنشأها عملاء ستالين الذين لم يهدأ لهم بال إلاّ بتفليش الدولة العرافية في 1958 والجلوس على تلالها الخربة لا لشيء سوى لأن الدولة العراقية كانت حليفة بريطانيا المعادية لاتحاد ستالين السوفييتي.. نوري سعيد الذي أسس الدولة العراقيةالحديثة ومنح العراقيين هوية وطنية بمعونة المستعمر البريطاني يُقتل وتسحل جثته بشوارع بغداد عاصمة الدولة التي أسسها على انه مو وطني ومن أذناب الأجنبي، على اساس ان ستالين هو العراقي الأصيل وأذنابه في العراق; وطنيون!.. ان قاعدة هذا المثلث ساهمت وبنجاح باهر في إحلال دولة العساكر والشقاوات محل دولة القانون والمؤسسات الدستورية... وبعد التفليش الثوري للدولة الفتية في 1958 تحوّل عملاء ستالين الى حزب يساري يدعم سلطات الديكتاتورية والاستبداد من عبدالكريم قاسم الى صدام حسين الى ان وصلت بهم يساريتهم ان يوصموا رئيس حزبهم العلماني التقدمي الأممي بأنه شيعي كي يتبوأ مقعداً في مجلس سلطة بدون سلطة في 2003... الكاتب المبدع حسين كركوش: مثلث الاصولية السياسية اليسار، القومية، الاسلاموية هو الخطر الداهم والذي ينبغي الاصغاء للتحذير منه.
مقال رائع تعليق أروع
أحمد وليد إبراهيم -مقال رائع مثل حال معظم مقالات الكاتب السابقة, ولكن أعجبني أيضا بنفس المقدار إن لم يكن أكثر التعليق الذي بعنوان: ثوار أم؟ لمتابع. تعليق رائع ومصطلح مثلث الأصولية السياسية, اليسار, القومية والاسلاموية. مصطلح مبتكر.شكرا للكاتب وللمعلق.
القسوه المتجذرة
كريم محسن الدنمارك -عزيزي دكتور حسين شكرا جزيلا لمقالتك الرائعه اعتقد ان في البنيه السلوكيه العراقيه الكثير من القسوه المتجذره عبر ثقافه موغله في القدم حيث تتوراث الاجيال العنف بكل اشكاله الوحشيه كذالك ان القسوه لاتولد الا القسوه في مداها .ان الشخصيه العراقيه عبر تاريخها الدامي تحتاج الى عمليه تاهيل حضاري طويله الامد لاعادة صياغتها عبر ثقافه انسانيه رفيعه خاليه من كل نزعات العنف ولالغاء والقسوه .