السياق الثقافي المغاير
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هناك تعبير متداول فى الخطاب العربى المعاصر يصف مجمل أفكار الحداثة مثل العقلانية والتجريبية فى الفلسفة والعلمانية والديموقراطية فى السياسة والرمزية والسريالة فى الأدب والفن بأنها كلها نشأت فى " سياق ثقافي مغاير "، وينسحب هذا الوصف على كل التيارات والحركات الفكرية المعاصرة. ولكن هل تحمل هذه الإشارة دلالة سلبية أم إيجابية؟ كلنا يعرف بالطبع أن بعض المثقفين العرب يستخدمون تعبير السياق الثقافي المغاير، بهدف نزع الصلاحية عن الفكرة المذكورة بوصفها فكرة غربية لا تناسب البيئة العربية التى سيقت إليها وهذا أمر غريب. إذ أنك حين تتوجه إلى المتجر لشراء سلعة معينة يؤكد لك التاجر ـ ولو كذباً ـ أنه يقدم لك منتجاً غربياً. ليوحى لك بمدى الإتقان والكفاءة. وهو ما يعنى أن تعيين موطن النشأة يحمل ـ فى حالة السلع ـ دلالة إيجابية، فلماذا يحمل فى حالة الأفكار دلالة سلبية؟
هنا يحذرك الجميع من الخلط بين السلع والأفكار، إذ أنه يمكنك أن تستهلك من السلع ما تشاء ولكن تظل محافظا على شخصيتك وهويتك ومقوماتك الثقافية، أما إذا تبنيت الأفكار فقد ضاع منك كل ذلك. هذا فضلاً عن أن إنتاج السلع أمر لا حيلة لنا فيه فهو يستدعى وجود بنية تحتية وتقدم تكنولوجي وعمالة مدربة وهو ما نفتقر إليه، في حين أن إنتاج الأفكار يمكن أن يتم دون وجود شئ من هذا. وحتى لو آليت على نفسك وقررت الخوض في مجال إنتاج السلع فإنك ستنتج سلعاً عالية التكلفة قليلة الجودة وسيصعب عليك حينئذ إقناع المستهلك بالتخلي عن السلعة الأجنبية، أما فى مجال الأفكار فإن إقناعه بصلاحية الأفكار المحلية أمر متيسر. ومن هنا استقر الأمر على أن الإشارة إلى المصدر الغربى للفكرة أمر يفترض أن يؤدى النفور منها لا الانجذاب إليها.
ونظراً لأن تعبير " السياق الثقافى المغاير " يكتسى بمسحة من الوجاهة علينا أن نترك هذا التشبيه بين السلع والأفكار ونتعامل معه بمزيد من الجدية.
إن مصطلح السياق contexte يشير إلى مجمل الظروف التاريخية التى تم فيها إنتاج الفكر. ومما لا شك فيه أن الظروف التاريخية التى نعيشها تختلف أختلافاً ملحوظاً عن الظروف التى يمر بها الغرب. ولكن لو أردنا أن نعرف ما هى الأفكار التى نشأت فى سياقنا الخاص لوجدنا أن الخطاب الثقافى العربى المعاصر يعين لنا إتجاهات الفقه والتفسير والمذاهب الأدبية والكلامية التى نشأت فى ظل الحضارة العربية والإسلامية فى العصور الوسطى. ولو طبقنا فكرة السياق على هذين المصدرين العربى والغربى لوجدنا الأمر يتناقض تماماً مع ما يعتقدون. فلو نظرنا إلى ما يجمعنا بأى فيلسوف غربى معاصر مثل كارل بوبر أو هابرماس أو ميشيل فوكو لوجدنا أننا نركب نفس وسائل المواصلات ونشاهد التليفزيون فى المساء ونعيش فى كنف نمط إنتاجي واحد وتشغلنا قضية الديموقراطية والمواطنة وحرية التعبير. ولو نظرنا إلى ما يجمعنا بالاشاعرة أو ابن رشد أو أبى حنيفة لاستوقفنا الفارق الهائل بين ظروفنا التاريخية وظروفهم. فلا يجمعنا بهم وسائل الاعلام والمواصلات ولا نمط الانتاج ولا الظروف السياسية ولا دواعى الحرب والسلم وهذا يعنى أن تعبير السياق الثقافي المغاير ينطبق بصورة أكبر على الأفكار الموروثة من العصور الوسطى أكثر مما ينطبق على الأفكار المستجلبة من الغرب. ولكن حكمنا بأن الانتساب إلى سياق ثقافى مغاير ينطبق على الأفكار التراثية أكثر مما ينطبق على الأفكار الغربية لا ينبغى أن يكون دافعا لرفض الأفكار التراثية ولا يعد مبرراً لتفضيل الأفكار الغربية على الأفكار التراثية أو العكس.
ولا يعنى ذلك على الإطلاق أن تعبير " السياق الثقافى " تعبير فارغ لا طائل من ورائه. ولكى ندرك أهميته علينا أن نتخلى عن الاستخدام الدارج لهذا التعبير فى ثقافتنا المعاصرة والذى يهدف إلى التنفير من الفكرة ونبذها بلا نقد ولا تمحيص. أن تعبير " السياق الثقافى " يرتبط بما يسمى نظريات التلقى وهو مجال علمى يستهدف الكشف عما يحدث للفكرة من تعديلات لكى تتحول من فكرة قومية إلى فكرة عالمية. كما يهدف إلى الكشف عن استرتيجيات دعاة الفكرة المستجلبة فى الصراع الفكرى الدائر داخل بلادهم. وكان كارل ماركس من أوائل المفكرين الذين أشاروا إلى صلة الفكرة بالسياق حيث نجده فى " البيان الشيوعى " يعيب على الاشتراكيين الألمان أنهم يأخذون نصوص الاشتراكية الفرنسية دون وعى منهم بالسياق الذى نشأت فيه فتتحول على ايديهم إلى نصوص ناطقة بالحقيقة المطلقة. ولكن ماركس لم يكن يهدف من وراء ذلك القول بأن الأفكار الاشتراكية الفرنسية عاجزة عن تحريك المياة الراكدة فى المجتمع الألمانى. كما أشار بييربورديو إلى ضرورة الكشف عن آليات إعادة توظيف الفكرة فى المجتمع الجديد فقد استخدم الشباب اليسارى المثقف فى فرنسا أفكار هيدجر ليحاربوا بها الرجعية الفرنسية التى تستند على أفكار برجسون كما استخدم الشباب اليسارى فى ألمانيا أفكار برجسون ليقاوموا بها رجعية هيدجر.
هذا التناول، الذى يرتبط بعلم اجتماع المعرفة، لفكرة السياق الثقافى يختلف تمام الاختلاف عن التناول السائد فى الخطاب الثقافى العربى والذى يستخدم التعبير ليرفض كل تفاعل مع الفكر الجديد.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف