كتَّاب إيلاف

بين كارثتي الإعصار، والديكتاتورية، يستفتون الضحية!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سيمر أسبوعان على كارثة إعصار نرجس، الذي ضرب بورما [ميانمار]، والذي فتك حتى اليوم بأكثر من40000قتيلا، ونصف مليون مشرد، لم يبق لهم حتى الطعام، والماء الصافي؛ كارثة اقتلعت حوالي 80 بالمائة من أشجار العاصمة القديمة "رانغون"" واكتسحت المزارع، وهدمت مئات القرى، تضاف لكل هذه المصائب مخاطر الأوبئة الفتاكة. لقد أثارت الكارثة المروعة، ولا نزال تثير، الضمير العالمي، ولكنها قوبلت ببرود يصل لعدم المبالاة من المجلس العسكري الديكتاتوري الحاكم.
إن الديكتاتورية العسكرية رفضت رفضا قاطعا مساعدات الإغاثة الدولية خلال الأيام الأولى، حتى رضخت جزئيا أمام الضغوط القوية، وتدخل الأمين العام للأمم المتحدة، فراحت تسمح ببعض الإمدادات الخارجية، مع رفض تواجد خبراء وعمال الإغاثة، والصحفيين، الأجانب، ويظهر أن حليفة بورما الصين بذلت من جانبها بعض المساعي اللبقة.
بعد انتفاضة شعبية في آب 1988، أعلن العسكر الحاكم عن موافقته على انتخابات حرة، وقد جرت فعلا، وفازت "الرابطة الوطنية للديمقراطية" المعارضة، ولكن الطغمة الحاكمة عادت فرفضت النتائج، وقمعت الرابطة وزعيمتها "" أنك سان كاي"، واليوم ينظمون "استفتاء شعبيا وسط الموت والخراب والجوع؛ استفتاء صوري على مسودة دستور وضعته مجموعة عينتهم الحكام، ولا يتضمن أية حقوق للعشرات من الأقليات الأثنية واللغوية والثقافية، التي تؤلف غالبية السكان، وعددهم 53 مليونا، والتي تواجه نظاما مطلق التمركز، وقمعيا.
لقد جرى الاستفتاء المزعوم، رغم ضغوط واحتجاجات الدوائر الدولية، ورغم محنة الشعب المنكوب، وأنزل الحكام الجيش والحرس المدني، لاستخدام كل وسائل الضغط والتخويف، لإمرار المسودة، التي تتضمن ضمن بنودها الحكم عشرين عاما بالسجن لكل من يحمل رأيا سلبيا عن الدستور. وقد قدموا الاستفتاء عليه كواجب وطني من الدرجة الأولى، وهو استفتاء أقصي عن التصويت فيه مليونا ونصف المليون، منهم نصف مليون من الرهبان البوذيين، ونصف مليون من المهجرين داخل البلاد، والنصف الثالث هم اللاجئون في الخارج. أما من بقي يعمل من منظمات مدنية، وسياسية ديمقراطية، فقد نظموا قبل الكارثة الإعصارية تحركات احتجاجية ضد الاستفتاء، قوبلت باعتقال المئات.
إن بعض الصحفيين الغربيين القلة من الموجودين أصلا هناك، يقدمون صورة قاتمة جدا عن المأساة، وقد نشرت صحيفة "لو باريسيان" الفرنسية بتاريخ 11 الجاري ريبورتاجا مصورا من هناك أحجمت عن ذكر أسماء مرسليه حرصا على سلامتهم الأمنية. الريبورتاج لا يكتفي بالحديث عن تفاصيل الكارثة، بل ويورد أيضا شكاوى عدد من سكان بعض القرى، الذين لا يزالون ينتظرون الإغاثة، وقال أحدهم: "من الجوع أشعر أن بطني ستنفجر"، وقال آخر "جاء ممثلو الحكومة واكتفوا بأخذ الصور."
لا ندري اليوم كيف ومتى ستخف معاناة المنكوبين أمام استهتار الزمرة الحاكمة، آملين أن يتم ذلك حالا، ونحن نشارك قلق المجتمع الدولي، وكل الضمائر الحية، متضامنين مع الشعب الواقع في محنتي الإعصار، والاستبداد الفاشي.
إن هذه المأساة المروعة، والموقف الحكومي الاستخفافي منها، تعيد للأذهان وقائع ممارسات الأنظمة الفاشية، والديكتاتوريات العسكرية، والإسلامية، وتذكرنا بعشرات الملايين من الضحايا الأبرياء. إنها تذكرنا مثلا بحروب الأنفال، ومأساة حلبجة، والدجيل، وتهجير مئات الآلاف من الشيعة من الكورد الفيلية والعرب.
لقد أطلق وزير الخارجية الفرنسية الحالي كوشنر بعد حرب الخليج الأولى شعار "حق التدخل الإنساني" لحماية كردستان العراق من عودة القمع العسكري الحكومي، وكان القرار 686 لمجلس الأمن خاصا بحقوق الإنسان، والقوميات في العراق، ورغم أنه لم يدرج ضمن الباب السابع فإن الدول الغربية الرئيسة أباحت حق الحماية العسكرية الجوية لإقليم كردستان.
إن الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة يتضمن حق وواجب مجلس الأمن في التدخل العسكري ضد أية دولة تهدد الأمن العالمي، وهذا يعني أن حق السيادة الوطنية، وإن كان يجب احترامه وضمانه، فإنه ليس بالحق المطلق.
لقد كان على مجلس الأمن التدخل العسكري جماعيا ضد نظام صدام، استنادا لقرارات المجلس نفسه، لولا المقاومة الضارية من المحور الفرنسي - الروسي - الألماني، وتساهل كوفي أنان، مما دفع بالولايات المتحدة وبريطانيا لأخذ المبادرة.
إن ميثاق الأمم المتحدة يجب تعديله لإدخال حق التدخل الإنساني ضمن الباب السابع، أي بداية بفرض العقوبات، أو التهديد بفرضها، وذلك عندما تكون هناك انتهاكات واسعة في بلد ما لحقوق الإنسان، أو عمليات تطهير عرقي، فهذا التعديل ينسجم مع روح الميثاق، وحيثياته.
إن لدينا اليوم عدة حالات تستدعي مواقف دولية حازمة، منها حالة بورما، فيما لو كان النظام العسكري قد رفض نهائيا إغاثة الشعب المنكوب، ووجوب إرغامه على قبول المساعدات الإنسانية تحت طائلة فرض العقوبات. لقد رأينا حلف شمال الأطلسي يتدخل عسكريا في كوسوفو والبوسنة، لأن ميلوسوفيتش كان يمارس عمليات تطهير عرقي على أوسع نطاق، ولم تكن عليه تهم تخص أسلحة الدمار الشامل. واليوم نرى المجتمع الدولي عاجزا عن حماية شعب دارفور، وعن لجم المشروع النووي العسكري الإيراني؛ عاجز لتناقض المصالح، وخصوصا خلافات دول الاتحاد الأوروبي، بل وجبنه، والمجتمع الدولي يرى بعينيه الانقلاب المسلح لحزب الله في لبنان، ولكن تحرك شبعه منعدم، وحتى فرنسا تريد الحوار مع "كل الأطراف اللبنانية"، كما عجز مجلس الأمن حتى اليوم عن افتتاح المحكمة الدولية لقتلة رفق الحريري.
إن هذه الحالات، وربما غيرها أيضا، تتطلب أولا تعديل بعض بنود الميثاق، والضغط المتزايد على الدول المترددة، أو التي تقيدها مصالحها النفطية أو التجارية، فتترك شعوبا مهددة بالإبادة، أو تتساهل مع نظام يمشي قدما لصنع قنبلة نووية ستهدد المنطقة، ناهيكم عن تدمير تلك الدولة المتواصل لأمن العراق، وكيان لبنان وأمنه، والمساعي التي تبذل لحل القضية الفلسطينية سلميا. إن روسيا ترفض فرض عقوبات جديدة على إيران، والسيد البرادعي يواصل الميوعة غير المفهومة لحد المسايرة، ودول الاتحاد الأوروبي تريد استنفاد كل الفرص، وتقديم عروض جديدة بشرط وقف التخصيب أولا، وهي خطوة رفضتها إيران مسبقا.
إن حالة بورما، ومواقف وسياسات الزمرة الفاشية الحاكمة هناك، يجب أن تكون حافزا جديدا لإباحة حق التدخل الإنساني، بعد استنفاد كل الفرص، تحت طائلة فرض العقوبات، وذلك لإنقاذ شعوب مهددة بالإبادة، وضمان هذا الحق دستوريا في نصوص ميثاق الأمم المتحدة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف