كتَّاب إيلاف

الخلاف في شؤون السياسة لا يبرر بالاختلاف حول العقائد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"فانه ما يعرف أحد من الحق الا ما تعطيه ذاته" (محي الدين ابن عربي: فصوص الحكم) ما يحصل في العالم العربي هذه الأيام من انقلابات عسكرية ومواجهات مسلحة هو عينات ملموسة ومباشرة عما يحدث في الأمة من تصادم معلن وخفي بين مشروعين ضبابيين لم تتحدد معالمهما بشكل تام ومن سوء تفاهم بين توجهين اضطراريين مايزالان في بداية التشكل والتنظم ومازال اصطفاف داعميهما ومناصريهما لم يكتمل بعد.
هذان التوجهان هما المعارضة والموالاة أو المقاومة والتطبيع أو الأمركة والصهينة من جهة والعروبة والإسلام من جهة أخرى أو المجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الذين يريدون أن يخدموا شعوبهم ووطنهم ومجتمعاتهم وثقافتهم الشرقية وحضارتهم الانسانية والذين يضعون ضمائرهم في خدمة أسيادهم ويسترزقون من الأنظمة المعدلة ويتحالفون مع القوى الغربية والإمبراطوريات المعولمة.
المحير أن تنفرد ايران وسوريا وبعض الحركات السياسية الاحتجاجية الغاضبة فقط بقيادة الاتجاه الأول على الرغم مما تعانيه من نقائص ومؤاخذات وما ترتكبه من تجاوزات بخصوص مواطنيها في الداخل وجيرانها في الخارج وأن تتزعم أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة الشمولية وفئة من النخب السياسية والثقافية المنبطحة الاتجاه الثاني على ما زرعوه من حروب وقلاقل في العديد من الأوطان وتعديات على كرامة الشعوب وما فوتوه من مكاسب تنويرية وقيم كونية.
ان حيرة الفكر مصدرها فقدان المشروع الأول للعقلانية والديمقراطية وعدم احترامه للخصوصية والتنوع ورفضه لفكرة الغيرية وتبنيه منطق القوة وتغييب المشروع الثاني لحقوق سيادة الشعوب على أوطانها وتخليه على القيم الكونية التي طالما نادى بها ورغبته في فرضها على الواقع بالقوة ولجوئه الى العنف وتبنيه نهجا اختراقيا امبرياليا يخلف الفوضى غير الخلاقة ويهادن الاستبداد الناعم.
ان اللجوء الى العنف مرفوض مهما كانت الدوافع والأسباب حتى وان تمثلت في حماية المقاومة وتقوية الجبهة لأن العنف لا يولد الا العنف والحرب والقتل المؤسس ولأنه يغذي الصراع ويعطي المبررات الكافية للأغيار لكي يستبيح الديار ويستكملوا مشاريعهم التوسعية وينهوا فصول مؤامرتهم المطلقة ويسهل اندلاع الفتنة والحرب الأهلية التي نراها على قاب قوسين أو أدنى من كل قطر عربي.
أما المطلوب فهو إيقاف التقاتل الداخلي والتصفية على الهوية والكف عن إثارة النزعة الطائفية والتوقف عن تغذية الروح المذهبية وعدم تصوير الخلاف في السياسة على أنه ناتج عن اختلاف في النظرة الى العقيدة وفي قراءة التاريخ وشكل التعامل مع التراث لأن افتراق الأمة الى عدة نحل وملل هو أمر منطقي وتاريخي ودليل على ثراء وتجذير لتجربة تدبير وجودهم في المعمورة ويعبر عن ثروة في معنى الاجتهاد وإبراز لاتساع وظيفة العقل وكونية دائرة تأويل اللغة للعالم.
السؤال الذي يطرح هنا هو ما طبيعة الاختلاف بين السنة والشيعة حول العقيدة؟ وهل يبرر الخلاف السياسي القائم الذي تحول الى اشتباكات وتقاتل؟ وكيف نمنع اندلاع الحرب الأهلية في دار العروبة؟
ما نراهن عليه هو تفكيك قلاع التعصب والهويات المنطوية على ذاتها وبناء فهم نقدي عقلاني للذات يقرب بين المذاهب ويعيد تأصيل الأصول من خلال فهم تأويلي فلسفي لتجارب الإيمان والتفكير والذوق والفعل يساعد على التوحد والاعتصام ويتيح التعايش مع الآخر واحترام المختلف.
إن نقاط الاختلاف بين السنة والشيعة في العقيدة هي عديدة وتعود الى تأثير التجربة التاريخية السياسية للجماعة في طبيعة فهمها للوحي والأحاديث التي رويت عن الرسول ويؤاخذ السنة الشيعة على حديث الثقلين وتقليد الأحياء وليس الأموات والبداء بالنسبة الى الذات الإلهية والاجتهاد والتقية وزواج المتعة والجمع بين الصلاتين والسجود على التربة والبناء على قبور الأنبياء واتخاذها محلا للعبادة والغلو في حب الأئمة والقول بعلم الأئمة وعصمتهم والإيمان بالرجعة والمهدي المنتظر وافتراقهم في تحديد من هو الصحابي وفي الموقف من السلطان الجائر أو الفاسق ولذلك يطلق عليهم بعض الغلاة من السنة اسم الروافض.
علاوة على ذلك تثار عدة شبهات وأحكام مسبقة حول نظرة الشيعة الى وراثة أهل البيت للنبي محمد صلعم ويستشهدون بقصة فدك وكذلك موقفهم من الخلافة وقولهم بخطأ الخلفاء وخاصة الصديق أبي بكر والفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ذي النورين في عرف السنة وعدم شرعيتهم بالمقارنة مع علي بن طالب الأكثر أهلية من حيث الدين والسياسة والقربى بالإمامة في نظر الكثير من الصحابة.
الاختلاف الآخر هو حول حكم معاوية وبني أمية ومن هي الفرقة الباغية التي قتلت عمار ابن ياسر الصحابي الجليل وكذلك حول زوجة الرسول السيدة العائشة وفاجعة كربلاء التي راح ضحيتها خيرة آل البيت وعلى رأسهم سيد الشهداء وأحد سبطي الرسول الحسين ابن علي وتبريرهم لبطش يزيد بن معاوية والحجاج بالتابعين. كما افترق المعسكرين حول علاقة الناس بالحاكم ففي حين قال الشيعة أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ونادوا بالثورة والخروج فان السنة فضلوا وحدة الجماعة على الفتنة وقالوا بأن الحياة في ظل سلطان غشوم خير من فتنة تدوم وأكدوا طاعة أولي الأمر. واختلف الجمعان أيضا حول نظرتهم الى العقل والنقل والوصية والبيعة وانتصر الشيعة الى الفلسفة واعتبروا الاجتهاد فرض كفاية ينبغي القيام به في كل عصر بينما انتصر السنة الى السمع ودعوا الى تقليد الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وتباينت الفرقتان حول تدوين الأحاديث ونقل التواريخ وفضل السنة أبي هريرة وعائشة وصحيحي مسلم والبخاري في حين آثر الشيعة ما روي عن علي وفاطمة بنت الرسول وأبي ذر الغفاري وعمار ابن ياسر وغيرهم.
بيد أن هذه الاختلافات لا تخرج الفرقتين من دائرة الإسلام التاريخي حتى وان اعتبر البعض من الشيعة السنة من النواصب ووقع استخدام سلاح الفرقة الناجية من طرف السنة وتم الالتجاء الى سلاح التكفير والتهميش وقد تعرض الشيعة وغيرهم من الفرق مثل الخوارج والمعتزلة الى اضطهاد من طرف نظام الحكم الإسلامي الذي اتبع وجهة النظر السنية في معظمه. علاوة على ذلك ينبغي أن تتوقف التهجمات على الرموز من الطرفين ويجب أن يكف كل رأي عن اعتبار نفسه يمثل الرأي الصواب لأن الجميع لم يصب من الحق سوى ما قدر عليه بوسائله الذاتية والحق في ذاته يظل عصيا.
لكن المخيف أن تتحول هذه الاختلافات العقائدية الى خلافات سياسية ويتم تحكيم قيم الماضي وأحداثه للحكم على مجريات أمور الحاضر وأحداثه ويستحوذ السنة على مقولة العروبة ليستأثر الشيعة بمقولة الإسلام وكأنه لا يوجد العروبيون في الشيعة وكأنه لا يوجد سنيون مسلمون غير عرب.
ان اعتماد الانتماء العرقي والطائفي والمذهبي والديني من أجل تحديد الولاء السياسي وربط الموقف بالمنطلق العقدي والموروث التاريخي هو اعتماد خاطئ يوقع الجميع في طريق مسدود ويشعل نيران الفتنة ويسرع باندلاع الحرب الأهلية والحل هو التعالي على منطق العرب وغير العرب والمسلمين وغير المسلمين والسنة وغير السنة والانطلاق من الانتماء الحضاري الانساني ومحاولة التقريب بين المذاهب لأن جوهر الأديان واحد ومصير البشرية بأسرها رهين قرارت صائبة تتخذها بشأن تدبير أمر الوجود للمحافظة على الحياة في الأرض المهددة من العديد من المخاطر والكوارث.ان اللجوء الى السلاح لحل المشاكل الداخلية كما هو الشأن في لبنان ضربا للأمثال هو أمر على غاية من الخطورة ويدشن موجة من العنف قد لا تنتهي وان الحكمة تقتضي تغليب المصلحة الوطنية المشتركة وعين العقل تنصح بأن يفتخر كل واحد بالانتماء الثقافي ويسارع المواطن الى احتضان أخيه من أجل إبرام العقد الاجتماعي المطلوب حتى يضع حدا لحالة حرب الكل ضد الكل المقيتة التي تشرع لعقيدة الغاب وتعطي للأسماك الكبيرة الحق في أن تأكل الصغيرة كما يقول اسبينوزا رغم أن الطبيعة قد أعطت الحق لجميع الأسماك في أن تسبح في الماء ولكن ما العمل اذا كان مقدار الحق عند كل واحد يقاس بمقدار القوة التي يستعملها للمحافظة على بقائه.
من جهة ثانية ان الصراع ليس بين فرقتين دينيتين هما السنة والشيعة بل بين مشروعين سياسيين هما الممانعة والانبطاح وسوء التفاهم ليس بين الانتماءين بقدر ماهو ناتج عن هيمنة السلفية على الفضاء السني والملالية على الفضاء الشيعي وإننا نجد في كلا المعسكرين اصطفاف لتكتلات سياسية تحسب على الشيعة والسنة على حد السواء بل ينضاف إليهما المسيحيين والدروز والعرب والأقباط والأكراد والأمازيغيين والكل منقسم بين الولاء للوطن والقومية والدين والولاء للقوى المهيمنة على العالم والأنظمة المتحالفة معها. ربما آن الأوان اليوم للإنصات الى أصوات الاعتدال والحكمة والوسطية في الفريقين ونتذكر فرقة الزيدية الشيعية التي تعتبرها السنة فرقة معتدلة ونتذكر فتاوى عبد الله العلايلي ومواقف محمد مهدي شمس الدين ولنعتمد على أفكار المعتزلة التي هي مذهب كلامي محسوب على السنة ولكنه انتشر وتغلغل في صفوف الشيعة ولنعتبر كل هذه الوسائط جسور تواصل بين الفرقتين.
في نهاية المطاف ان الاختلاف في فهم الإسلام والعروبة والوطن بين الشيعة والسنة لا ينبغي أن يبرر العنف المتبادل بين الطرفين والخلاف الكبير الذي بدأ يظهر منذ احتلال العراق واندلاع أزمة الفراغ السياسي والدستوري في لبنان وان الاقتتال الداخلي غير معقول ومنهك للقوى لأن الجميع يحتاج الى الجميع من أجل التحديث والنهوض والتنمية وتقوية صفوف المقاومة خصوصا وأن التحديات كبيرة والأعداء المتربصون كثر ويصطادون في الماء العكر ويحاولون أن يستغلوا الفرص وأي نزاع داخلي هو ظرف مواتي لكل من له مصلحة في خراب الأمة. ان مشروع المقاومة المسلحة في حاجة الى نقد عقلاني ومنهجي الآن وأكثر من أي وقت مضى من أجل ترشيد استعمال السلاح ووقايتها من الانسياق وراء العنف غير المبرر وان نظام الحكم العربي هو الآخر في حاجة الى إصلاح ودمقرطة ومحاسبة شديدة الآن وأكثر من أي وقت مضى حتى ننتقل من الدولة الأمة الى دولة الرعاية ومن نموذج الحكم الشمولي الى نموذج الحكم الصالح.انه من الضروري أن يتصالح مشروع المقاومة للعولمة والايديولوجيات الشمولية والعنصرية والرجعية مع مشروع دولة العناية العربية المطالبة بحفظ العرض والأرض وتنمية الاجتماع والاستثمار في الانسان لأن مقاومة دون دولة هي عمل مشتت واستنزافي ودولة دون مقاومة هي شكل من الحكم فاقد للسيادة والكرامة.
عندئذ ينبغي ألا ننسى أن بيروت ليست سنية ولا شيعية ولا درزية ولا مسيحية بل هي كل هذا وذاك إنها قلعة العروبة وقبلة الحداثة والعقل وحرام أن تغطي سماءها من جديد جحافل الجراد بعد كادت أن تودع الخريف وتستقبل عصافير الربيع. أملنا كلنا أن نرى بيروت ولبنان بخير وأن تشرق شمس جديدة كلها أنوار على ديار العروبة والإسلام والإنسانية وأن تنقشع سحب الشتاء المتراكمة والناشرة للضباب المخيم على الآفاق، فمتى تشرق الشمس ؟ وأية واحة حياة تقدر على ابتلاع رمال العدم المتحركة في الصحراء؟ * كاتب فلسفي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف